7 دقائق قراءة

طرطوس: رفوف الصيدليات فارغة مع شلل مصانع الأدوية في ظل الحرب السورية

في كل صباح، تنطلق سلمى ونوس من قريتها في محافظة [...]


9 مارس 2017

في كل صباح، تنطلق سلمى ونوس من قريتها في محافظة طرطوس الساحلية، وتسافر سبعة كيلومترات عبر الجبال الوعرة إلى مركز المحافظة بحثاً عن الدواء لأخيها علي.

علي مصاب باضرابات الفصام (شيزوفرينيا) ويعتمد على فلوفينازين، وهو عقار يستخدم لمعالجة الذهان، ليتحمل الهلوسات وكوابيس اليقظة كما تصفها سلمى. وبرغم ذلك، فإنها وعلى مدى الثلاثة شهور الماضية كانت تعود لمنزلها خاوية اليدين.

قالت شقيقة علي ذات السادسة والعشرين عاماً، لسوريا على طول، “كلما دخلت إلى صيدلية يقولون لي غير موجود وأرى مرضى كثر يأتون إلى الصيدليات ليسمعوا نفس الجواب”.

ودونما دواء يهلوس علي “ويبدأ بضرب نفسه”، مما يضطر العائلة للجوء لأي وسيلة متاحة لتهدئته.

وقالت سلمى “أحياناً نقوم بربطه وإحكامه كي لا يؤذي نفسه وللأسف نستخدم أي نوع مهدئ سواء يناسبه أم لا فالمهم أن ينتهي كابوس النوبة التي يدخل بها، وغير ذلك لا يمكننا أن نعمل له شيء”.

والعجز الطبي ليس بجديد في سوريا؛ فالحصار وسنوات الحرب الستة حرمت المدنيين في مناطق سيطرة المعارضة من الأدوية الأساسية والتجهيزات والمعالجة بما فيهاالفشل الكلويوالحاضناتللمواليد الجدد.

وحتى في محافظة طرطوس التي يقطنها سلمى وعلي، وهي معقل للنظام وكانت بمعزل عن الحرب نسبياً، فإن الأهالي تضرروا بشدة من النقص الحاد للأدوية، فالشركات المصنّعة تنتج أقل مما يكفي، وتصدر منها إلى الأسواق الأجنبية التي تعود عليها بفائدة أكبر، وفقا لما قاله اثنان من الصيادلة وخمسة من الأهالي لسوريا على طول.

صيدلية بالقرب من دمشق، أيار2016. تصوير: عبد المنعم.

وبالنتيجة فإن أمثال علي ونوس، يعيشون تحت رحمة مرض قاس عصيب دونما دواء كان يوماً متوفراً ومتاحاً حيثما اتجهت.

ورغم وجود بعض الاحتجاجات المناهضة للنظام في بداية الثورة وخروج مظاهرات صغيرة ضد ارتفاع سعر المحروقات الذي فرضته الحكومة في السنوات الأخيرة، إلا أن طرطوس بقيت إلى حد كبير بمنأى عن الحرب مقارنةً بالمحافظات الأخرى. ويحجبها عن المعارك في حماة ومحافظة حمص شمالاً سلسلة من الجبال الممتدة على طول الساحل الغربي لسورية، وتُعتبر نظراً لتعدادها السكاني ذي الغالبية العلوية هي ومحافظة اللاذقية جارتها إلى الشمال، معقلاً للموالين النظام.

ودعاإعلانجديد لوزارة السياحة، يصور قوارب التزلج السريعة (جت سكي) في البحر وصفوف الناس الذين يستحمون بشمس الشاطئ، السياح لزيارة المنتجعات “الجميلة دائما” والمرصوفة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في طرطوس.

وفي المقابل، فإن بلدات كانت في سابق عهدها منتجعات خلابة في أنحاء البلد، يحكمها الثوار الآن مثل مضايا بريف دمشق في سفوح جبال لبنان الشرقية، منذ أربع سنوات، تفرض عليها قوات الجيش السوري حصاراً خانقاً. ويطوقها القناصة بإحكام وآلاف الألغام البرية المزروعة حولها للحيلولة دون دخول حتى المستلزمات الطبية الأساسية أو خروج الأهالي الذين يموتون بسبب الفشل الكلوي وأمراض أخرى يمكن الوقاية منها.

وبعد ست سنوات من الحرب، فإن أهالي المناطق الخاضعة لسيطرة النظام باتوا يشعرون بالشلل الذي تعانيه مصانع الأدوية في سوريا، والتي تنتج أقل مما تحتاجه السوق المحلية، وفي كثير من الأحيان تبيع ما تُنتجه بأربعة أضعاف سعره قبل الحرب.

وهذا لم يكن حال سوريا قبل الحرب؛ ففي عام 2010، كانت سوريا على أعتاب الاكتفاء الذاتي بالمستحضرات الطبية، حيث أن 90% من الأدوية السورية كانت تُنتج محلياً، وفقدراسة عامةلمجلة الطب والحياة، عن صناعة الأدوية السورية، في 2010، وهي مجلة دورية تُعنى بقضايا الصحة حول العالم، وتنشر في جامعة دافيلا للطب والصيدلة، في رومانيا.

كما أن إحصائيات وزارة الصحة في العام نفسه أيضاًرسمتصورة مشرقة، حيث أن نسبة 91% من الدواء في سورية ينتج في المصانع المحلية، وهو ما جعل سوريا تحتل مرتبة تفوق جارتيها الأردن ولبنان، وفقاً لتقريرفي عام 2010 لشركة أموال إنفست الأردنية.

مديرية صحة طرطوس، 2014. تصوير: المكتب الإعلامي لمديرية صحة طرطوس.

لكن غالبية المصانع، التي كانت تنتج الدواء في محافظات حلب وحمص وريف دمشق، حيث كانت تقع90% من الشركات المصنعة قبل الحرب، أُغلقت بسبب الدمار أو عدم توافر المواد الكافية، وفقا لما ذكره المنتدى الاقتصادي السوري، وهو مُؤسسة فكرية بحثية، مقرها تركيا، في دراسة أجراها عام 2013.

من جهتهم، لا يزال المسؤولون في وزارة الصحة، يتهاونون مع أزمة الأدوية المتزايدة في البلاد.

وقال وزير الصحة السوري نزار اليازجي لوكالة الأنباء الرسمية سانا، في كانون الأول 2016، “هناك 70 معملا دوائيا في سورية، وهو العدد ذاته الذي كان موجودا عام 2010 قبل بدء الحرب، يغطي معظم حاجة السوق المحلية بنسبة تصل إلى 89 بالمئة”.

وأضاف أنه “نتيجة الاستهداف الإرهابي لها خرج نحو 16 معملا عن الخدمة وانخفضت التغطية إلى 70 بالمئة، واليوم عاد معظمها للعمل، وارتفعت النسبة إلى 89 بالمئة”. ولم يتضح حينها ما إذا كان يشير فقط إلى مناطق سيطرة النظام أم لا، حيث أن الأدوية والمعدات الطبية تتوفر فيها بسهولة أكبر من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة.

ومع ذلك، فإن الواقع أسوأ بكثير، بحسب ما قاله مواطنون في محافظة طرطوس، لسوريا على طول.

ويقول مفيد معروف، البالغ من العمر 46 عاماً، مريض سكري، أنه يزور مديرية الصحة في مدينة طرطوس “كل يوم” بحثا عن حقن الأنسولين، “ليقولوا أن الأدوية متوفرة في المراكز الصحية، لكن الحقيقة عكس ذلك، وضمن المراكز الصحية يكون الرد غالباً بأن الأدوية لم ترد بعد للمركز الصحي أو انتهت، حتى أن المخابر باتت دون شرائح تحليل السكر المنقطة منذ شهر”.

وكان الأنسولين، الذي تم إدراجه كدواء “أساسي” في أحدث قائمة لمنظمة الصحة العالمية للأدوية الأساسية، ينتج محليا في سوريا، ومتوافر بكثرة في جميع أنحاء البلاد.

وفي عام 2014، اضطرت شركة آسيا للصناعات الدوائية، وهي المنتج الوحيد للأنسولين، للإغلاق عندما تسببت الاشتباكات بين قوات النظام والمعارضة، في ريف حلب الغربي بتدمير مصنعها.

صيدلية في دمشق 17 أيلول2013. تصوير: أنور عمرو.

وبالإضافة إلى الأدوية التي لا يمكن الاستغناء عنها، مثل الأنسولين، باتت الأدوية الأساسية والتي لا تحتاج لوصفة طبيب، غير متوافرة بشكل كاف في الوقت الحالي، حيث أن الأرقام أقل بكثير من تلك التي نشرتها مؤخرا وزارة الصحة.

وقال حسام الشيخ، رئيس فرع نقابة الصيادلة في طرطوس، لموقع الاقتصادي الموالي للنظام، في شباط، أن نقص الدواء في طرطوس يصل لنسبة أكثر من 65 %.

ويتضمن ذلك 90% على الأقل من أدوية الأطفال الصالحة للشرب ومضاداتهم الحيوية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة الوطن الموالية للحكومة، في كانون الثاني.

ولا تستطيع، أم سارة، وهي واحدة من أهالي طرطوس، العثور على دواء الإسهال لابنتها، حيث عبرت عن استيائها لسوريا على طول قائلة أن”الدواء لا يقل أهمية عن الطعام والشراب خصوصاً في الشتاء”.

أزمة تصنيع؟

إلى ذلك، قال عدد من الصيادلة لسوريا على طول إن شركات الأدوية المحلية، هي بحد ذاتها جزء من المشكلة.

ومع تدهور القطاع الصحي في سوريا، تعمل شركات الأدوية، التي ما تزال مصانعها قائمة، جاهدة لتعويض النقص في السوق وتلبية مصالحها المادية.

وقال مروان، مدير تسويق لدى إحدى الشركات الدوائية في سوريا  “الشركات تسعى قدر الإمكان لتحقيق أرباح لها من خلال التصدير، وتصدير الأدوية السورية إلى دول عربية مجاورة أو أسيوية”.

في السياق، قال أحد موظفي معامل الأدوية في سوريا، لسوريا على طول، والذي طلب عدم ذكر اسمه خوفا من فقدان عمله، إن “المعامل تقوم بتصدير كمية من الأدوية لتحقق ربح يجعلها قادرة على الاستمرار”.

ولا يعد تصدير الأدوية ظاهرة جديدة في سوريا، حيث أنها تصدر الأدوية في الغالب لجيرانها من الدول العربية منذ فترة ما قبل الحرب، وفقا لمرصد التعقيدات الاقتصادية، وهو مشروع للبيانات الاقتصادية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

في المقابل، يلقي صيادلة طرطوس اللوم على شركات الأدوية السورية، التي تركز على السوق الأجنبية بدلا من المحلية، حيث تُركوا مع رفوف فارغة إلى حد كبير، وانخفاض بنسبة خمسة بالمئة في الأرباح في الأشهر الأخيرة.

وترى رنا، صيدلانية من طرطوس، أن ما يحدث من فقدان للأدوية في مناطق سيطرة النظام هو “أمر متعمد، بهدف الضغط على وزارة الصحة للموافقة على رفع السعر”، وفقا لما قالته لسوريا على طول.

وتضيف أنه “خلال الأزمة السورية ارتفعت أسعار الأدوية بنسب قد لا ترضي أصحاب المعامل الدوائية، لكنها شكلت عبئاً إضافياً على المواطنين”.

وأوضحت أن “بعض المعامل الدوائية اتجهت إلى تصدير الأصناف المفقودة وزيادة كمياتها، كونها تحقق ربحاً كبيراً لها، لكن هذا الإجراء كان على حساب السوق المحلية.”

وأدى ذلك كله إلى ارتفاع أسعار الأدوية المتوافرة في السوق المحلي بنسبة تصل إلى 400 بالمئة، بحسب تقارير صحفية صدرت مؤخرا. حيث قامت وزارة الصحة في سوريا، برفع أسعار الأدوية المنتجة محليا، في أواخر شباط، بمقدار أربعة أضعاف سعرها القديم، بما في ذلك التيروكسين وهو دواء الغدة الدرقية، الذي ارتفع من 250 ليرة سورية (دولارا واحدا) إلى ألف ليرة (4 دولارات)، وفقا لموقع الاقتصادي.

كما ارتفع سعر دواء أساسي آخر، وهو ميسالازين، المستخدم في علاج الهجمات الحادة لالتهاب القولون التقرحي، من 485 ليرة (2.25 دولار)  إلى 2160 ليرة (10 دولار)، لكل جرعة.

وكان من المفترض أن تغطي “تعديلات” الأسعار القديمة “تكاليف توفير الأدوية المفقودة في السوق”، بحسب بيان نشرته وزارة الصحة على الإنترنت، في مطلع آذار.

أما بالنسبة لكثير من الناس في طرطوس، فإن التكاليف الجديدة تعني عدم القدرة على شراء الدواء نهائيا. وقال أحد سكان طرطوس، الذي تحدث إلى سوريا على طول، شريطة عدم الكشف عن هويته، أنه لم يعد يستطيع تأمين سعر الدواء، مشيرا إلى أن “الدواء بمثابة خبز للعديد من المرضى”.

ولا تزال سلمى ونوس، تصر على إيجاد دواء لشقيقها علي الذي يعاني من اضطرابات الفصام، رغم تحليق الأسعار في الآونة الأخيرة، حيث بدأت بزيارة مستشفيات طرطوس بدلا من الصيدليات، بعد أن رأت رفوفها فارغة. ولكن حتى في المستشفيات الحكومية، طلبت الفلوفينازين، مضاد الذهان، لأخيها ولكن الرد كما العادة “هذا الدواء غير متوفر”.

وختمت ونوس قائلة “انقطاع الدواء يزيد من معاناة أخي الذي يميل دائماً للعزلة وعدم إدراك الأشياء على حقيقتها وقد ينسى محيطه ما بين اللحظة والأخرى (…) ولا أحد يعرف إلى متى؟!”.  

ترجمة: سما محمد

شارك هذا المقال