6 دقائق قراءة

عاملات الأراضي الزراعية في دير الزور: فئة مهمشة تعمل بأجور بخسة

تجد العديد من النساء والفتيات القاصرات أنفسهن مجبرات على العمل بنظام الساعات في الأراضي الزراعية بمناطق سيطرة "قسد" في ريف دير الزور، بأجور زهيدة وظروف صعبة.


17 أغسطس 2024

دير الزور- تعمل هند العلي، 18 عاماً، في أراض زراعية مجاورة للمخيم العشوائي الذي تقيم فيه، على أطراف قرية “حوايج بومصعة”، بريف دير الزور الغربي، شمال شرق سوريا، مقابل ثلاثة آلاف ليرة (20 سنتاً أميركياً تقريباً) للساعة الواحدة، بهدف “تأمين مصاريف دراستي ومساعدة عائلتي في تأمين احتياجات المنزل”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

بينما يقضي أبناء وبنات جيلها عطلتهم الصيفية بـ”ممارسة أنشطة ترفيهية أو أخذ قسطاً من الراحة”، تخرج العلي منذ ساعات الصباح الباكر للعمل بدوام كامل (ثماني ساعات يومياً)، فيما كانت تعمل نصف المدة خلال العام الدراسي، حيث تخرج للعمل عند السابعة صباحاً وتلتحق بمدرستها عند الساعة الحادية عشرة.

لا يقتصر هذا العمل “الشاق” على العلي، وإنما تجد العديد من النساء والفتيات القاصرات أنفسهنّ مجبرات على العمل في الأراضي الزراعية بأجر يومي زهيد، لمواجهة الواقع المعيشي المتردي في أرياف دير الزور، الخاضعة لسيطرة قوات سويا الديمقراطية (قسد).

تعمل النسوة والفتيات، بما فيهنّ العلي، في حصاد القمح والشعير بطريقة يدوية، باستخدام المنجل، وزراعة الخضراوات الصيفية والشتوية وقطافها، إضافة إلى أعمال التعشيب، ويعانينَ من العمل تحت أشعة الشمس الحارقة صيفاً وبرودة الطقس شتاءً، دون وجود أي ضمانات صحية أو برامج رعاية لهنّ حال تعرضن للإصابة أثناء العمل.

وشهدت مناطق سيطرة “قسد” في محافظة دير الزور سلسلة مظاهرات احتجاجية، خلال السنوات الأخيرة، للمطالبة بتحسين الواقع المعيشي والخدمي، وتوفير المحروقات، وتطوير المنشآت الصحية، وتحسين القطاع التربوي، لكن هذه الاحتجاجات لم تثمر عن نتائج ملموسة على أرض الواقع حتى الآن.

فجوة في الأجور

قالت فاطمة الأحمد (اسم مستعار)، 22 عاماً، المقيمة في إحدى قرى ريف دير الزور الشرقي، أن الشاويش، (الشخص الذي يقوم بالتنسيق مع أصحاب الأراضي الزراعية لتشغيل العاملات ونقلهن من وإلى مكان العمل) يميل إلى تشغيل النساء في الأرض “كونهنّ لا يفاصلنَ كثيراً في الأجور، ويقبلن العمل مقابل ثلاثة آلاف ليرة في الساعة، رغم أن هذا المبلغ لا يكفي في نهاية اليوم إلا لشراء احتياجات المنزل من الخضار فقط”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

في المقابل، يعمل الرجال في سقاية الأراضي، “وهي أسهل المهام في العمل الزراعي”، أو يعملون في الحصاد “باستخدام الحصادات الآلية، وبأجور جيدة جداً مقارنة بأجور النساء”، بحسب الأحمد، وهي أم لثلاثة أطفال، مشيرة إلى أن أجرة سائق الحصّادة “عشرة دولارات لكل دونم”.

صبيحة كل يوم، تقلّ سيارة “الشاويش” فاطمة الأحمد وأخريات “إلى مكان العمل في القرى القريبة أو البعيدة أحياناً”، وفور عودتهنّ يباشرنَ أعمالهنّ المنزلية “من تنظيف وإعداد الطعام ورعاية الأطفال”، على حد قول الأحمد.

العمل في الأراضي الزراعية بنظام الساعة ليس جديداً، ولا يقتصر على محافظة دير الزور وحدها، وإنما هو موجود في جميع المحافظات السورية، ولكن بعد اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011، صار “العمل محصوراً بالنساء”، كما قالت عدة عاملات لـ”سوريا على طول”، ناهيك عن تدني الأجور مقارنة بغلاء الأسعار وتدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، حيث تخطى الدولار حاجز 15 ألف ليرة في السوق السوداء بمناطق “قسد”.

ومع ضعف الراتب، يرفض الرجال والشباب هذا العمل الشاق، وتحوّلوا إلى أعمال أكثر مردوداً، ولا يمكن للنساء مزاولتها لأسباب مهنية أو اجتماعية، بينما تركوا هذه المهن للنساء والفتيات المجبرات على العمل مهما كانت الظروف والأجور.

وما يزيد من معاناة النساء والفتيات أن فرصهنّ في الهجرة أقل بكثير من فرص شباب شمال شرق سوريا، حيث هاجر ويستعد للهجرة العديد من أبناء المنطقة، كما قالت هند العلي، وتبدو على يديها آثار العمل الشاق مقارنة بأيدي فتيات جيلها المتفرغات للدراسة، مشيرة إلى أن شقيقيها “يستعدان للسفر إلى لبنان للعمل هناك”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

ولأنها لا تمتلك شهادة علمية ولا تجيد حرفة، لا تمانع هبة خلف (اسم مستعار)، وهي عشرينية من سكان قرية محيميدة في ريف ديرالزور الغربي، العمل في الزراعة براتب لا يتخطى ثلاثة آلاف ليرة في أحسن الأحوال، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

سمعت خلف بمشاريع منظمات المجتمع المدني في دير الزور، وحاولت التسجيل في إحداها “لكن لم يتم قبولي”، متوقعة أن يكون الرفض “بسبب انتشار المحسوبية واحتكار الوظائف من قبل بعض العائلات ذات النفوذ ضمن العشيرة الواحدة”، وهو اتهام لم يتسن لـ”سوريا على طول” التأكد من صحته.

“لا يوجد خيار أمام غير المتعلّمات من النساء في دير الزور سوى العمل في الأراضي الزراعية”، بحسب خلف، وهي أم لثلاثة أطفال والمعيلة الوحيدة لهم بعد وفاة زوجها.

“حقوقهنّ مهدورة”

اعترف المزارع يحيى المحمد من بلدة “حوايج بومصعة” في ريف دير الزور الغربي، بـ”تدني الأجور، وأنها لا تتناسب مع الجهد الكبير التي تبذله العاملات”، مبرراً عدم رفع الأجور بـ”الخسائر التي يتكبدها المزارعون، نتيجة التكاليف العالية للزراعة”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

لا يمكن أن يواجه المزارع وحده الواقع الاقتصادي، خاصة في ظل “عدم وجود أي جهة تعوضه عن الخسائر الفادحة في حال غزو الآفات الزراعية، أو اندلاع الحرائق في أرضه”، كما يحدث في شمال شرق سوريا منذ عدة سنوات بحسب المحمد، مشيراً إلى أن ارتفاع تكاليف الزراعة والمخاطر المحدقة بهذا القطاع دفعته إلى “تقليص المساحة المزروعة من سبعة دونمات إلى ثلاثة هذا العام”.

وفي هذا السياق، قال أحمد العمر، 35 عاماً، مزارع في قرية الكسرة بريف دير الزور الغربي، أن المزارعين يعانون من ارتفاع تكاليف ريّ أراضيهم، لأنهم يعتمدون على سحب المياه من الآبار، التي يتم تشغيلها عبر مضخات تعتمد على المازوت، في وقت لا تلتزم الإدارة الذاتية بتقديم الكميات المخصصة بأسعار مدعومة، وكذلك بالنسبة للمبيدات الحشرية، ما يضطرهم إلى “شراء المحروقات من السوق السوداء”، وهذا “ينعكس على تحديد أجور اليد العاملة”، وفقاً له.

وكما هو حال المحمد، قّلص العمر المساحة المزروعة في أرضه من 30 دونم، قبل عام 2011، إلى سبعة دونمات حالياً، على حد قوله.

اقرأ المزيد: أزمة المحروقات وضعف الدعم يهددان سلة غذاء سوريا شمال شرقي البلاد

بالمحصلة، تجدّ النساء أنفسهنّ أنهنّ الحلقة الأضعف في المنظومة الزراعية، شمال شرق سوريا، وكأنهنّ يتوجب عليهنّ دفع فاتورة تدهور قطاع الزراعة وتراجع دخل المزارعين في المنطقة، في ظل غياب الرقابة على هذه المهن، وعدم وجود أية قوانين أو قرارات تحفظ حقوقهنّ وتنصفهنّ من حيث الأجور والحماية.

في أحسن الأحوال، قد تحصل العاملات في هذا القطاع على حوالي 600 ألف ليرة سورية (40 دولاراً) شهرياً، إذا عملنّ بدوام كامل طيلة الشهر، بينما يبلغ الحد الأدنى للأجور في مؤسسات الإدارة الذاتية مليون ليرة سورية تقريباً (68 دولاراً).

إضافة إلى ذلك، تخاطر العديد من العاملات بحياتهنّ في العمل بالأراضي الزراعية القريبة من مناطق التماس، كما هو حال أم محمد، 35 عاماً، من قرية “زغير جزيرة” التابعة لناحية كسرة في الريف الغربي لدير الزور، إذ تضطر إلى الذهاب للعمل في أراض تابعة لـ”قسد” ولكنها قريبة من مناطق سيطرة النظام، “وتشهد هذه المنطقة اشتباكات بين الطرفين من فترة إلى أخرى”، على حد قولها.

وبينما كانت تحاول التخلص من الوحل الّذي لوّث ثوبها بعد يوم عمل شاق، استذكرت في حديثها لـ”سوريا على طول” إحدى العاملات التي فقدت حياتها أثناء عملها في الأرض “نتيجة إصابتها برصاصة مجهولة المصدر”.

تلك الحادثة “زادت من خوفي، لكن أخاطر بحياتي في سبيل تأمين قوت أطفالي”، كما قالت أم محمد، الأم لثلاثة أطفال.

تسيطر “قسد” على الضفة الشرقية لنهر الفرات من محافظة دير الزور، فيما تتمركز قوات النظام ومجموعات موالية لإيران على الضفة الغربية، وتشهد المنطقة عمليات قنص وتسلل واستهدافات متبادلة.

في السادس من آب/ أغسطس الحالي، شنت قوات عشائرية مدعومة بالنظام السوري والميليشيات الإيرانية هجوماً ضد مناطق “قسد” في ريف دير الزور الشرقي، ما أدى إلى مقتل وإصابة العديد من المدنيين، ونزوح السكان من القرى الواقعة على خط التماس.

تعمل أم محمد من السابعة صباحاً حتى الحادية عشرة مع ورشة يديرها “شاويش”، ومن ثم تعود إلى منزلها للقيام بالواجبات المنزلية، ومن ثم تعود مرة أخرى إلى الأرض للعمل من الساعة الرابعة عصراً حتى السابعة مساءً.

لا تتناول قوانين العمل في مناطق الإدارة الذاتية هذه الشريحة من العاملات، “ولا يتم تسجيل عدد سنوات عملهنّ، ولا يحصلن على ضمان صحي أو اجتماعي”، بحسب المحامي حسين العويد، معتبراً أن “حقوقهنّ مهدورة”.

وفي حال تعرضت إحدى العاملات أو العمال من هذه الشريحة لأي ضرر “لن يكون بمقدورهم المطالبة بحقوقهم، ولكن يمكنهم اللجوء إلى لجان الصلح، وهي لجان موجودة ولها صلاحيات بحل النزاعات، وإذا لم تتمكن هذه اللجان من حل المشكلة، فعلى المتضرر اللجوء إلى النيابة العامة”، بحسب المحامي. ومع ذلك “لا يوجد نصوص قانونية خاصة بفئة العمال الّذين يعملون بالأراضي الزراعية يستند إليها المدعي للمطالبة بحقوقه”.

من ناحية أخرى، فإن محاولة الحصول على أي تعويض من المزارع أو مالك الأرض “شبه مستحيلة” على حد قول العويد، لأن “الاتفاق بين الشاويش والعاملات وليس بين صاحب الأرض وبينهنّ”، ويتم العمل “من دون عقد” ينظم العلاقة بين الطرفين.

واعتبر المحامي أن مشكلة عمّال وعاملات المياومة متجذرة ومعقدة، نظراً لعدم وجود قوانين تنصفهم، وهذا يؤدي بدوره إلى “زيادة معاناتهم، ويجعل حاضرهم مظلماً ومستقبلهم ضبابياً”، على حد وصفه.

ورغم حاجة العديد من نساء أرياف دير الزور للعمل، لم تبادر هيئة الشؤون الاجتماعية والعمل، التابعة للإدارة الذاتية، إلى افتتاح أي دورات مهنية أو مشاريع اقتصادية تستهدف النساء في المنطقة، نظراً لـ”ضعف قدرة” الهيئة، كما قالت حنان الحماد، الرئيسة المشتركة لهيئة الشؤون الاجتماعية والكادحين في دير الزور.

في ظل عدم وجود قوانين تحميهنّ، وأمام رفض أصحاب المزارعين تحسين أجورهن، لا أمل عند هند العلي ومثيلاتها بتحسن واقعهنّ الاقتصادي، ويتخوفنّ من أن يحمل العام القادم “ظروفاً أسوأ وأجوراً أقل”.

شارك هذا المقال