“علاقة ملتبسة”: أين اللاذقية من حراك السويداء؟
بعد حراك السويداء، في آب/ أغسطس 2023، توجهت الأنظار إلى الساحل السوري، الذي شارك بأصوات فردية انتهى بها المطاف "إلى نهايات مؤسفة"، فهل يعلو صوت الساحل مجدداً؟
26 يناير 2024
باريس- للشهر الخامس على التوالي، يستمر حراك السويداء، جنوب البلاد، ذاك الحراك، الذي انطلق في آب/ أغسطس 2023، على خلفية التدهور الاقتصادي في البلاد، بالتزامن مع خروج أصوات مناهضة للنظام السوري في الساحل السوري، وسط توقعات بتصعيد “الحاضنة الشعبية للأسد” من موقفها ضده.
على عكس حراك السويداء، الذي أخذ طابعاً جماهيرياً، كانت احتجاجات الساحل السوري، في آب/ أغسطس 2023، ذات طابع فردي تمثل ببث رسائل مصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من قبيل ماجد دواي، وأيمن فارس، الذي اشتهر في بث عدة فيديوهات منتقداً الأسد، إلى أن اعتقل في أواخر آب/ أغسطس، من حاجز العادلية بريف دمشق أثناء محاولته الوصول إلى السويداء.
تزامن ذلك، مع إطلاق مجموعة من الشباب السوري “حركة 10 آب”، التي تسعى إلى “إحداث تغيير سياسي واجتماعي شامل بشكل سلمي بهدف إعادة سلطة الشعب للشعب”، كما جاء في بيانها المنشور في 20 آب/ أغسطس، وشارك فيها ناشطون من اللاذقية وطرطوس الساحليتين عبر نشر رسائل وصور على وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن، سرعان ما خبا صوت الساحل، الذي يمثل حاضنة النظام ومركز قوته، رغم أن استمراره أو تصاعد حراكه “كان من شأنه أن يغير المعادلة بشكل كبير سواءً داخلياً أو بتعاطف السوريين معه”، كما قال المهندس أيمن عبد النور، رئيس منظمة مسيحيون سوريون من أجل السلام، المقيم في واشنطن، مشيراً في حديثه لـ”سوريا على طول” إلى أن “النظام نجح بترهيب حاضنته في الساحل واعتقل منتقديه، وأخاف الآخرين بتفجير الكلية الحربية، وهذا بدوره أدى إلى إضعاف تأثير الحراك في السويداء”.
تأكيداً على ذلك، قالت الناشطة الحقوقية هنادي زحلوط، التي تنحدر من اللاذقية، لـ”سوريا على طول” أن تحرك الساحل مع السويداء كان من شأنه أن يغير المشهد في سوريا، لأن “الساحل هو حاضنة النظام وحاميه وليس النظام من يحمي الساحل”.
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اعتقال ما لا يقل عن 30 شخصاً، بينهم ستة سيدات، في محافظتي اللاذقية وطرطوس، منذ مطلع آب/ أغسطس 2023 حتى نهاية كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول”.
“علاقة ملتبسة”
دعماً لحراك السويداء، انطلقت مظاهرات في العديد من المدن السورية والشتات، الخارجة عن سيطرة النظام، رفع المشاركون فيها شعارات تحيي احتجاجات ربيع 2011. وفي ذات الوقت، توجهت الأنظار إلى الساحل السوري، الذي شارك فيه “جوقة من الأصوات المنفردة” رفعت سقف مطالبها، فانتهى المطاف بها إلى “نهايات مؤسفة”، بحسب الناشطة زحلوط.
للقبضة الأمنية في الساحل دور بإخماد الأصوات، التي ارتفعت في وقت شهدت البلاد تدهوراً اقتصادياً غير مسبوق، لكن هذا لا يلغي دور اختلاف الدوافع من منطقة إلى أخرى، ففي الساحل “لم تتشكل دوافع شبيهة بالمناطق الأخرى، من قبيل الدوافع الحقوقية والسياسية”، بحسب الكاتب والصحفي بسام يوسف، ابن محافظة اللاذقية، ناهيك عن “الهواجس عند أبناء الساحل، لا سيما عامل الأمان وعامل والخوف من الآخر”، كما أوضح لـ”سوريا على طول” من مكان إقامته في المهجر.
وفي هذا السياق، وصف ناشط حقوقي مقيم في اللاذقية، علاقة الساحل بحراك السويداء بـ”العلاقة الملتبسة”، إذ في بداية الحراك “ظهر تضامن من الأصوات الفردية في الساحل مع السويداء، لكن بعد تبنيها شعارات 2011، من قبيل إسقاط النظام وغيرها من الشعارات انفض المتضامنون من الساحل عن الحراك أو دعمه حتى عبر منصات التواصل الاجتماعي”، كما قال لـ”سوريا على طول” شريطة عدم ذكر اسمه لدواع أمنية.
بالتوازي مع ذلك، ظهرت “محاولات لشيطنة حراك السويداء باعتباره حراكاً مداراً من الخارج، عبر تدخل من المخابرات الفرنسية، أو وجود أشخاص مرتبطين بهذه الجهات”، وفقاً للناشط الحقوقي.
كذلك، إن ربط حراك السويداء بحراك الساحل “من منطلق أنهما حراكين قامت بهما أقليات، هو ربط غير منطقي بالنظر إلى الظروف الموضوعية لكل منهما، والظروف التي مرت بهما المنطقتين خلال سنوات الصراع في البلاد”، بحسب الناشط الحقوقي.
“المجتمع الدرزي في السويداء تقوده جماعات دينية مدعومة مجتمعياً وإقليمياً، خلافاً لمجتمع الساحل الذي كان حراكه فردياً في مجتمع مفكك غير مقادٍ من أي مجموعة أو جماعة سواء كانت دينية أو اقتصادية”، على حد قول الناشط الحقوقي المقيم في اللاذقية، لافتاً إلى أن “مجتمع الساحل مشغول بنفسه وليس لديه أفق سياسي أو اجتماعي، ولا يوجد من يقود الأصوات الفردية باتجاه حراك جماعي”.
ويعود ذلك، بحسب الناشط الحقوقي، إلى أن “السلطة عملت منذ عقود على إفراغ الساحل من كافة أشكال المعارضة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية”، مستخدمة “الترغيب والترهيب لامتصاص أي حراك ديني مضاد لها، كما حدث مع الدكتور المهلب حسن، الذي دعا إلى إقامة مرجعية للطائفة العلوية ما أدى إلى مقتله” في ظروف غامضة عام 1984.
صراع طائفي
لا يمكن تناول موقف الأقليات الدينية في سوريا من الثورة السورية، التي اندلعت في آذار/ مارس 2011، من دون الغوص في الموضوع الطائفي لأنه “محدد أساسي بمسار الثورة السورية، ليس عند العلويين الذين وقفوا مع النظام لأسباب طائفية فحسب، وإنما عند كثير من السنة الذين وقفوا ضد النظام لأسباب طائفية أيضاً”، بحسب الكاتب والصحفي بسام يوسف، معتبراً أن “الغوص في الطائفية ليس عيباً شريطة أن يكون الإشارة إلى ذلك بوعي ومسؤولية”.
في الشهر الأول لاحتجاجات 2011 رفع المتظاهرون لافتات ترفض الطائفية، من قبيل “سنية وعلوية، لا للطائفية”، وغيرها من الشعارات التي تشير إلى خشية المجتمع السوري من تطور الصراع في سوريا إلى صراع طائفي.
لكن، حتى إن حاول السوريون تخطي أزمة الطائفية في سوريا أو التقليل من شأنها، إلا أنها صارت واقعاً، “ولا يمكن للشعارات المرفوعة أن تبدد تداعيات الطائفية، لأن ذلك يحتاج إلى فعل مثقفين وسياسيين والعمل على مستويات عالية جداً”، بحسب يوسف.
قبل الثورة بعقود “نجح النظام، منذ عام 1963، بتجييش الساحل وسحب غالبية الشباب العلويين إلى الخدمة الإلزامية والتطوعية والكليات الحربية والجوية والعسكرية، وهذا أعطى انطباعاً للسوريين بأن الطائفة مع النظام”، بحسب الناشطة الحقوقية هنادي زحلوط، معتبرة أن “هذا الواقع تغير منذ عام 2013، ولم تعد الطائفة مع النظام، بدليل الأصوات المعارضة في الساحل، بما فيها حركة نحل الساحل”، وهي حركة تأسست في آب/ أغسطس 2012 بهدف تنشيط وتفعيل الحراك في المناطق الساحلية “التي توصف بأنها موالية للنظام”.
بدوره، عزا الناشط الحقوقي المقيم في اللاذقية “عدم ظهور “تنظيمات علوية معارضة” للنظام بين عامي 2011 و2023، واقتصار ذلك على “معارضات فردية غير مرغوبة في مجتمعاتها” إلى “نجاح السلطة في تصوير الصراع في البلاد على أنه صراع مع الإسلاميين والجهاديين والإرهابيين، وهؤلاء لم يتوقفوا عن تقديم البراهين للسلطة وأهل الساحل بأنهم كذلك”.
“مكونات الساحل تعرف أن النظام فاسد، ولكن عندها مشكلة في علاقتها مع الآخر، وهنا أقصد السنة، وهذه المعادلة يجب على السوريين كسرها”، بحسب يوسف، معتبراً أن الحد من تأثير الطائفية على السوريين وحراكهم يكون بـ”إعلاء الهوية السورية فوق الهويات الطائفية، وهذا ما لم نستطع فعله حتى الآن”.
علاقة الساحل بالسلطة
في أوساط السوريين بشتى أنحاء البلاد، عندما يذكر الساحل السوري، وخصوصاً محافظة اللاذقية التي تنحدر منها عائلة الأسد، يشار إلى أنه حاضنة النظام الشعبية وخزانه البشري، وهذه صورة سائدة لا تنكرها المصادر التي تحدثت لـ”سوريا على طول”.
ولكن في المقابل، “كانت معارضة النظام الأولى عبر الساحل السوري وحماة منذ السبعينيات، كما في حركة العمل الشيوعي والشخصيات من البعث الديمقراطي ورموز أخرى من البعث ذاته”، بحسب الناشط الحقوقي، لكن عبر العقود اللاحقة ” لوحق هؤلاء وسجنوا أو قتلوا ومن بعد ذلك لم تظهر أي معارضة”.
في بلد أمني كسوريا، يقوم النظام على “الأجهزة الأمنية التي تشكل مصدر قوته داخل البلاد، وغالبية منتسبي هذه الأجهزة هم من الساحل”، ما يعني أن “الاحتجاج على سياسة النظام يأتي من بيئة موالية، وبالتالي فإن هذا الاحتجاج -وهو بدوافع اقتصادية بحتة في الغالب- سيكون محدوداً بسبب تداخل الانتماءات بين سكان المناطق الساحلية والأجهزة الأمنية”، كما أوضح الناشط الحقوقي، ناهيك عن أن “غالبية سكان الساحل فلاحون وموظفون، وكلاهما مرتبط بالدولة وأجهزتها ومؤسساتها”.
وبما أن قوام الأجهزة الأمنية من الساحل، فإن الأجهزة ذاتها “متغلغلة بشكل كبير في كل مفاصل الساحل بما في ذلك العائلات نفسها”، لذلك فإن “الساحل ليس مهيئاً حتى اللحظة لحراك مثل السويداء”، بحسب يوسف.
هل يعلو صوت الساحل؟
ينظر الناس في الساحل إلى الدولة على أنها “تقوم بواجبها قدر استطاعتها، رغم انتشار الفساد في البلاد، والغالبية يستعيدون عام 2010 على أنه عاماً ذهبياً، كانت قيمة الليرة قوية، والكهرباء والمياه متوفرة، بل فائضة وبأسعار متدنية”، وعندما اندلع الحراك في البلاد “خرب الجنة الذهبية بهدف تدمير البلاد”، بحسب الناشط الحقوقي.
ومع أن عام 2023، كان الأسوأ اقتصادياً على عموم السوريين، ما دفع العديد من الأصوات في الساحل إلى انتقاد السلطات سراً وعلانية، كما أشعل احتجاجات السويداء في الجنوب، إلا أن “مشاهد الجوع والمخيمات والفقر تجعل أهالي الساحل على قناعة بأن التفكير بأي إصلاح يجب أن يمر عبر سلطة مركزية متفق عليها، وهذا غير موجود حالياً”، وفق الناشط الحقوقي.
ونظراً لأن سكان الساحل فلاحون أو موظفون (في الأجهزة الأمنية أو دوائر الدولة)، فإن “أي حراك أو قطيعة مع الدولة سيفضي إلى الجوع”، كما قال الناشط الحقوقي، موضحاً أن ذلك “ليس تبريراً لغياب الحراك الجماعي ولكنه شرح لواقع المنطقة ولحالة معروفة تاريخياً”.
وفي ظل مساعي التطبيع العربي مع الأسد، في الأعوام الأخيرة، يبدو أن “النظام متفق على بقائه إقليمياً، وهذا يعني ببساطة أن كل أشكال الدعم المتوقع من السوريين الآخرين لحراك الساحل سوف ينتهي إلى لا شيء”، بحسب الناشط الحقوقي، وهذا عامل آخر قد يدفع الساحل إلى الحذر من أي حراك في الوقت الراهن.
ومع ذلك، قد ينتفض الساحل “إذا شعر بالأمان من الآخر، وضعفت قبضة الأجهزة الأمنية أو تسببت ظروف إلى انقسامها”، من وجهة نظر الكاتب والصحفي بسام يوسف، وهذا قد يحدث لا سيما مع ما تشهده البلاد حالياً من “انتقال الهيمنة الاقتصادية من عائلة الأسد إلى أسماء الأسد، التي تشكل مافيا جديدة”، هذه المافيا “قد تتعارك مع مافيات قديمة ما يسهم في انقسامها وبالتالي تفتيت الولاءات داخل كتلة الساحل وإضعاف الأجهزة الأمنية”، ويؤدي ذلك بالنتيجة إلى “تصدع بنية النظام وصعود حراك من نوع آخر”، بحسب يوسف.
“اللاذقية وطرطوس بمثابة بيضة القبان بكل حراك سوريا”، قالت الناشطة الحقوقية هنادي زحلوط، مشيرة إلى أن “العديد من العلويين ينتظرون أي تحرك للمشاركة، وأي تحرك في الساحل سيكون موجعاً للنظام، بدليل الاعتقالات التي تحدث بشكل يومي”.