على الأرض ومن الجو: العلاقة الغامضة بين “تحرير الشام” والأميركيين لإنهاء خصومهما شمال غرب سوريا
فيما يتصاعد استهداف عناصر التنظيمات المتشددة، يبدو محيراً التكامل بين العمليات التي تنفذ لهذه الغاية من الجو من قبل الولايات المتحدة، باستخدام طائرات حربية أو "من دون طيار"، وتلك التي تتم على الأرض من قبل "تحرير الشام"
26 أكتوبر 2020
عمّان – فيما يتصاعد استهداف عناصر التنظيمات الموسومة “متشددة” أو “متطرفة” شمال غرب سوريا، يبدو محيراً التكامل بين العمليات التي تنفذ لهذه الغاية من الجو من قبل الولايات المتحدة، باستخدام طائرات حربية أو “من دون طيار” (درون)، وتلك التي تتم على الأرض من قبل هيئة تحرير الشام،
آخر العمليات الأميركية المعلنة كانت مساء الخميس الماضي، حينما استهدفت طائرة مسيرة حفل عشاء في قرية جكارة شمال غرب إدلب، ما أدى لمقتل قرابة 10 أشخاص، غالبيتهم قادة منشقين عن “تحرير الشام”، كما منتمين لتنظيم القاعدة.
سبق كذلك، في 16 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، غارة عبر طائرة “درون” في ريف إدلب، أسفرت، بحسب الجيش الأميركي، عن “مقتل اثنين من كبار عناصر تنظيم القاعدة”، ورجح ناشطون أن يكون القتيلان هما أبو ذر المصري وأبو يوسف المغربي، القياديان في فصيل “حراس الدين”، فرع “القاعدة” في سوريا.
بشكل متزامن تقريباً، أعلن “جهاز الأمن العام” في حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، قتل 13 شخصاً من أفراد “عصابة”، في قرية تلعادة شمالي إدلب، غالبيتهم من عناصر تنظيم الدولة (داعش)، إضافة إلى اعتقال “18 شخصاً من المطلوبين السابقين له، بينما سلم آخرون أنفسهم”، بحسب بيان صادر في 11 تشرين الأول/أكتوبر الحالي.
لكن بياناً صادراً عن وجهاء من تلعادة، نفى وجود عناصر يتبعون لـ”داعش” في القرية، مؤكداً أن المواجهة كانت بين “تحرير الشام” وعناصر منشقين عن الهيئة بقيادة قتيبة البرشة. بينما قال ناشطون ووسائل إعلام محلية إن الاشتباكات وقعت بين “تحرير الشام” ومجموعات مرتبطة بـ”حراس الدين”.
كذلك، أكدت “تحرير الشام”، في 1 أيلول/سبتمبر الماضي، اعتقالها الفرنسي عمر أومسن، المعروف بـ”عمر ديابي”، قائد “فرقة الغرباء” التي تضم مجموعة من المقاتلين الفرنسيين في سوريا، بدعوى قيامه بممارسات تمثل “بوابة إفساد وشر، تسبب ضياع الحقوق والعبث بالحرمات”.
استراتيجيتان أميركية وروسية مختلفتان
من خلال تتبع العمليات الدولية التي تستهدف عناصر التنظيمات المتشددة في شمال غرب سوريا، يمكن ملاحظة تباين واضح بين الاستراتيجية الأميركية (التحالف الدولي)، وتلك الروسية. إذ تقوم “الاستراتيجية الروسية على الاستهداف العشوائي”، بحسب الباحث المتخصص في شؤون الحركات الدينية والجهادية بمركز جسور للدراسات، ومقره تركيا، عرابي عبد الحي عرابي، نتيجة “عدم وجود معلومات وملاحقة وعملاء ومتابعين للملف لأجل توجيه ضربات دقيقة”،
في المقابل، تركز عمليات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة “على استهداف قيادات الجهاديين الذين قد يشكلون خطراً على الولايات المتحدة والتحالف في طريق مكافحة الإرهاب”. وهي استراتيجية يمكن تلخيصها، كما أضاف عرابي لـ”سوريا على طول”، بـ”اصطياد الرؤوس الذين يشكلون الرافعة الأساسية لنشر أفكار التنظيم وشبكات التجنيد”، وبالتالي “شل فاعلية التنظيمات الجهادية، ومنعها من النمو والاستمرار والانتشار”.
لكن هذا التباين في الاستراتيجيتين قد يعزز الشكوك حول مساعدة تتلقاها الولايات المتحدة، بشكل مباشر أو غير مباشر، من قبل هيئة تحرير الشام، بما يسمح بدقة استهداف خصوم الأخيرة.
محض تقاطع مصالح؟
تقاطع تصاعد الاستهداف الخارجي، مع التحولات التي شهدتها هيئة تحرير الشام خلال السنوات الماضية، لاسيما فك ارتباطها مع “القاعدة”، مع الحرص على الحفاظ على هيمنة الهيئة في محافظة إدلب تحديداً.
وقد استطاعت تحرير الشام، على مدار السنوات الثلاث الماضية “ضبط جميع الفصائل في المنطقة، من خلال قيامها بعمليات عسكرية كبيرة ضد فصائل المعارضة، بما زاد من قوتها”، بحسب عرابي، إضافة إلى منعها “حركات التوحد والاندماج بين الفصائل الجهادية الصغيرة خارج عباءتها”.
وسياسة الهيمنة هذه، بحسب المحلل والصحافي المستقل أيمن جواد التميمي. هي السبب الرئيس في المشاكل الحاصلة بين الهيئة وبين ما يسمى “الجهاديين” في شمال غرب سوريا، مستدلاً بما حصل مع تشكيل غرفة عمليات “فاثبتوا”، في حزيران/يونيو الماضي، المكونة من ما تبقى من فصائل عسكرية محسوبة على تنظيم القاعدة في شمال غرب سوريا، وهي “حراس الدين” و”جماعة أنصار الدين” و”جماعة أنصار الإسلام”، إضافة إلى منشقين عن “تحرير الشام”. إذ تم حل “فاثبتوا”، فيما سمح لـ”جماعة أنصار الإسلام” بـ”القيام بعمليات عسكرية في سياق مستقل”، من دون السماح بـ”تشكيل غرفة عمليات جديدة”، فكان “عليهم العمل ضمن غرفة عمليات الفتح المبين التي تقودها تحرير الشام، أو العمل بشكل مستقل تماماً”، كما أضاف التميمي لـ”سوريا على طول”.
بالنتيجة، نشأ ثلاثة تيارات داخل الجهاديين، وفقاً لعرابي، “الأول، يتشكل من أقلية، يرفض التعامل مع تحرير الشام ويكفرها علناً ويريد استهدف قواتها. أما الثاني، وهو الأغلبية، فيرفض آراء الهيئة الجديدة، لكن لا يتوجه لقتالها، مثل تنظيم حراس الدين، بينما التيار الثالث موال للهيئة ويسعى إلى عقد سلام معها”.
هكذا، كما أضاف عرابي، فإن “ما نراه أن الاستهداف كله يحدث لعناصر التيار الأول، أما أعضاء التيار الثاني فتطالهم الاعتقالات”.
لكن “استهداف الثوار والمجاهدين غير المنضوين تحت تحرير الشام لا يعد توجهاً جديداً”، بحسب أبو يحيى الشامي، الباحث في السياسة الشرعية والقانون الدولي، والذي عمل سابقاً مع الهيئة وفصائل أخرى شمال غرب سوريا.
إذ “منذ أن كانت قيادة تحرير الشام قيادة لجبهة النصرة”، كما أضاف الشامي لـ”سوريا على طول”، “عملت على حصر واحتكار تمثيل الجهاد والثورة في سوريا، سابقاً ضد فصائل ثورية، والآن ضد فصائل ثورية جهادية”. موضحاً أن “الهيئة” “عملت على تنظيف صورتها من خلال الاندماج مع مكونات جهادية وثورية أخرى، لكن لاحقاً بعد استقلال مجموعات جهادية وثورية لأسباب كثيرة، قامت قيادة الهيئة بملاحقتهم، لمنع ظهور قوى جديدة تنافسها في الحضور الداخلي والتمثيل الخارجي، وتهدد التفاهمات المرحلية التي وصلت إليها الدول”.
وفيما أكد عرابي أن “ضبط التنظيمات الجهادية ورقة تمنح الهيئة القدرة على الاستمرار”، ذهب الباحث الكويتي علي العرجاني، القيادي السابق في جبهة النصرة (تحرير الشام حالياً)، حد القول بتورط الهيئة في “تحديد أو تسهيل كشف مواقع الشخصيات المستهدفة والتي لا يعلم مكانها إلا هم”.
إذ إن بعض الذين تم استهدافهم، كما أضاف العرجاني لـ”سوريا على طول”، “عاش سنوات طوال في أفغانستان ولم يستطيع الطيران تحديد أشخاصهم وأماكنهم. ومعظم هؤلاء يحسنون التخفي وتمرسوا في الإجراءات الأمنية”. معتبراً أن “هناك حوادث اغتيالات كثيرة استهدفت رجال “القاعدة” وخاصة الخراسانيين، ثم [أبو بكر] البغدادي، وكل معارض للجولاني”. ما يعدّ “من أوضح الأدلة التي تكشف عن التعاون بينهما [تحرير الشام والجهات التي تنفذ عمليات الاستهداف] بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة، إذا لا يمكن أن يحدث كل ذلك بالصدفة حتى لو زعم اتباع الجولاني ذلك”.
موعد مع الحل السياسي
تعتبر المحللة السياسية المقيمة في العاصمة الأميركية واشنطن، روان الرجولة، أنه على “مستوى السياسة الإقليمية، وعلى الأقل فيما يتعلق باتفاق سوتشي والاتفاقات [الأخرى] المبرمة بين روسيا وتركيا، فإن هذه الاغتيالات قد تكون بمثابة التمهيد للتخلص من العناصر والشخصيات المتشددة التي شكلت تحدياً أمام تحقيق الأهداف المطلوبة للبلدين”. كما أن ضربات التحالف “استهدفت شخصيات جهادية دولية مطلوبة على لائحة التحالف”، وبما قد يدلل “على بدء التمييز ، على الأقل من قبل التحالف وبتعاون تركي غالباً، بين العناصر الأجنبية غير السورية والعناصر السورية”، بحيث تستهدف الأولى وتحيد الثانية، كما أضافت لـ”سوريا على طول”، لاسيما وأن الجولاني نفسه “ظهر في مناسبات عديدة، آخرها عيد [الاضحى] وهو يتجول بين المدنيين، من باب الترويج له كقائد مدني وليس عسكري في فصيل متشدد”.
وبحسب الرجولة، فإن “هذه الاغتيالات في علم الصراعات، وبعد تجميد الصراع بشكل عام، تأتي في إطار التمهيد لاتفاقات سياسية والتهيئة لحل سياسي شامل”. بحيث لم تستبعد “أن نشهد دوراً سياسيا لهيئة تحرير الشام، والترويج لها على أنها مكون وطني سوري ذو حاضنة شعبية وممثلة للسوريين في الداخل”. وهو ما قد يمكن “تحرير الشام” من “أن تكون متواجدة على طاولة المفاوضات”.
وهو ما اتفق معه العرجاني. إذ “خلف هذه التحركات المتسارعة في الحرب على الجهاديين”، كما وصفها، “عدة أمور، أبرزها تسارع الحلول للملف السوري عند الدول، وهذا يعني أن هناك مشروعاً سياسياً عاماً لا تُقبل فيه أطراف مصنفة إرهابية”، موضحاً أنه “لن تكون هناك حلول سياسية مع وجود قوة عسكرية وهيمنة لجماعات مصنفة إرهابية، وهو ما يستند عليه الروس في ضرب إدلب وتعجز تركيا عن منعه”. كذلك، هناك “رغبة الجولاني في أن يكون ضمن المشروع السياسي الذي ستفرضه الدول، ولذلك هو يقوم بتبييض صورته أمام مخابرات الدول باستهداف الجهاديين وطردهم واعتقالهم”.
وفيما رجح العرجاني وجود وعود مقدمة للهيئة بهذا الشأن “إذا ما حاربوا بالنيابة”.
على نهج “طالبان”
بعد توقيع اتفاقية السلام بين حركة طالبان والولايات المتحدة الأميركية في الدوحة أواخر شباط/فبراير الماضي، أرسلت هيئة تحرير الشام تهنئة لطالبان، حملت توقيع رئيس المجلس الشرعي للهيئة عبد الرحيم عطون، الذي اعتبر أن توقيع الاتفاق يمثل “نصراً كبيراً أحرزه المسلمون في أفغانستان”. عازياً ذلك إلى أن “قيادة طالبان لم تخلط بين المسارين السياسي والعسكري، بل خدما بعضهما بعضًا”،
وفيما رأي الباحث التميمي، أن “الهيئة تريد أن يتفاوض العالم معها مثل ما حدث مع حركة طالبان في أفغانستان”، اعتبر تقرير صادر مركز عمران للدراسات أنه “بالرغم من وجود قواسم مشتركة بين التجربتين في مخيال الهيئة، إلا أن خصوصية الواقع السوري وموقع سورية الأمني في المنطقة والإقليم وتعدد واختلاف اللاعبين الإقليميين والدوليين وكذلك البيئات؛ يفرض تناقضات أكبر بكثير من المشتركات بين التجربتين”. مضيفاً أن “انفتاح قوى إقليمية ودولية على الهيئة وفقاً لتقاطع مصالح مرحلي؛ لا يعني أبداً إمكانية تعويمها مستقبلاً”، بل قد يندرج ضمن “معادلة تبادل مصالح قد تضمن للهيئة مكاسب في المدى القريب، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك على المدى البعيد”.
كذلك، يطرح ذاك السيناريو المأمول من الهيئة السؤال حول مستقبل المقاتلين الأجانب في مناطق سيطرتها. فرغم أن المفترض، وفق المبادئ الأساسية لتحرير الشام، “حماية المهاجرين، وعدم تسليمهم لأي جهة”، أكد العرجاني أنه لا مستقبل لهؤلاء المقاتلين، و”أنهم أصبحوا من الأدوات التي يستخدمها القريب كالدولة [تنظيم الدولة] والهيئة، والبعيد كالدول بفرض سياساتها بسبب وجودهم”. معتبراً أن “جلوسهم في سوريا عبارة عن مقبرة لهم”.
بالنتيجة، أضاف العرجاني، أنه “بعد قتل واعتقال وتشريد أكبر عدد منهم، ستكون هناك احتمالية تسليم البقية أو إعادتهم لدولهم. وكثير منهم تجهزوا لذلك ولكنهم ينتظرون ضمانات دولية بمحاكمات عادلة”.
أما الباحث عرابي فاقترح ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل “الجهاديين” في إدلب، هي: الترحيل، أو الدمج داخل سوريا، أو الاعتقال وتسليمهم لبلادهم. مستدركاً بأن من الممكن أن “تقوم الجهات الفاعلة وتحرير الشام بالأمور الثلاثة معاً مع استمرار عمليات الاغتيال، بأن تسمح للقيادات الكبرى بالخروج من سوريا، وبنفس الوقت تعمل على دمج العناصر الذين ليس لهم توجه جهادي منافس أو مناهض لتحركات الهيئة، ومن ثم تسليم المطلوبين من الجهات الدولية، مع الاحتفاظ باستمرار التحالف بالاغتيالات وعمليات القصف الجوي”.