عن المسيرات المؤيدة ومظاهرات الحرية: عقدان من إعادة تشكيل الإنسان السوري
بعد اثني عشر عاماً من الحرية، تعلمت جيداً أن الاستثمار بالإنسان هو أول ما يجب أن نقوم به، وأن استعادة الوطن أنبل ما يمكن أن يفني الإنسان نفسه ووقته لأجله، وأن المعتقلين أمانة، وأن دماء الشهداء نهج ودرب، وأن أعظم ظلم الإنسان لنفسه هو أن يعيش دون قضية يدافع عنها.
18 مارس 2023
باريس- في صبيحة اليوم التالي لإعلان مجلس الشعب السوري تنصيب بشار حافظ الأسد، رئيساً للبلاد، في 17 حزيران/ يونيو عام 2000، بعد تعديل الدستور السوري بما يتناسب مع عمر الأسد الابن، ساقنا معلمو المدرسة الأولى الابتدائية في مدينتي إنخل شمال درعا، كقطيع أغنام، نهتف للرئيس الجديد وحزبه الحاكم “البعث”، حاملين صور الأسدين الأب وابنه.
آنذاك كنت في الخامسة من عمري، ولكن دخلت المدرسة بصفتي “مستمعاً”، أي في الصف التمهيدي، الذي يسبق السنة الدراسية الأولى، وعادة يحظى به أبناء المعلمين وأقاربهم. كان القطيع الذي سرت فيه وعلمت بعد سبع سنوات أن اسمه “مسيرة” حدثاً ضوضائياً بالنسبة لي، لم أفهم ما يجري حولي ولماذا يخرج الأطفال وبماذا يهتفون.
أذكر يومها أننا خرجنا من الباب الغربي للمدرسة، ومشينا في محيط المدرسة لدقائق، ومن ثم عدنا من الباب الشرقي إلى صفوفنا الدراسية. ومنذ ذلك الوقت ألصقت صور “الرئيس الجديد” -غير المنتخب- أعلى السبورة وإلى يمينها صورة الأسد الأب ويسارها خريطة الوطن العربي الكبير، الذي أمنع اليوم من دخول غالبية بلاده، بحكم جنسيتي السورية.
بعد سبع سنوات من هذه الحادثة، تم سوقنا مرة أخرى إلى مسيرة جديدة، لكن هذه المرة، وكنت حينها في الصف السادس الابتدائي، في المدرسة الخامسة، تأييداً للأسد الابن في الاستفتاء الرئاسي الذي جرى في أيار/ مايو 2007.
أعطاني مدير المدرسة، حينها، لوحة تحمل شعار حزب البعث: “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة” يدنوه خريطة الوطن العربي، بينما أعطى صديقي خالد صورة حافظ الأسد، لنرفعها في مقدمة المسيرة، ثم سرنا جميعاً نهتف زوراً بـالروح والدم للأسد، ونجوب شوارع إنخل.
في الطريق بدأ خالد يشير بإصبعه الوسطى للأسد الأب تحقيراً، ولم تكن في نيته سوى أن يُضحك من حوله في هذه المسيرة الغفيرة. لاحظ مدير المدرسة ما فعله خالد، فانهال عليه ضرباً وشتماً وهدده بأن يخبر والده.
لم أفهم حينها هذه القسوة، لكنني تعلمت الخوف جيداً في مدارس البعث من هذه الحادثة وحوادث أخرى تلتها.
في 21 آذار/ مارس 2011، تجمع عشرات الشبان والرجال في “ساحة البسام” قرب منزلنا، وسط إنخل، في أول تظاهرة تشهدها المدينة، وبدأ الناس يصرخون: “حرية… حرية”، و”من حوران هلت البشاير”، صرخت كما باقي أبناء مدينتي.
لم يكن لدي معنى واضحاً لـ”الحرية” و”جمهورية الصمت والخوف” التي أعيش فيها. في ذلك اليوم التاريخي من حياتي، الفاصل بين حقبتين متناقضتين تماماً. تحدث بعض رجال المدينة من أصحاب الكفاءات عن ظلم البعث وبطش وسطوة الأمن وذل الإنسان السوري، كل ذلك بدا جديداً لي، وحارت في داخلي مجموعة من الأسئلة عن ما هو الوطن، وعن كرامة الإنسان، ولماذا يقتل الجيش والأمن أهاليهم؟.
في اليوم التالي، قررت مع رفاقي في الصف الدراسي أن نهتف في باحة مدرسة الشهيد عقلة الزهرة الثانوية لدرعا البلد المحاصرة، وبعد دقائق معدودة من هذه التظاهرة الصغيرة، أُحضرنا إلى إدارة المدرسة وبدأ المدير بتوبيخنا وتهديدنا بجلب الأمن لنا ولأهالينا لتربيتنا في سجون المخابرات.
أدركت جيداً حينها أن مدارس البعث لن تصنع إلا العبيد، وأن الوطن هو كرامة الإنسان وحرية رأيه، وأن حاجز الخوف قد كسر منذ أن أريقت أول قطرة دماء في درعا البلد، وأن التغيير واجب وطني لا يحيد عنه حر، وعاهدت نفسي على ذلك.
ومذ ذلك الوقت لم أوفر جهداً في سبيل نيل حريتي وحرية أبناء بلدي من مدارس البعث وحكمه. في 24 كانون الثاني/ يناير 2012، أحضرت علماً كبيراً للثورة السورية ورفعته على سارية العلم أعلى بناء المدرسة، بدلاً عن علم النظام السوري، وكان ذلك أمام أعين قناصة الأسد على حاجز المركز الثقافي، الذين استدعوا مدير المدرسة وأمروه بإحضار العلم، ومن ثم جرى اعتقاله لثلاثة أشهر بعد مداهمة منزله في ذلك اليوم، وهو أكثر ما لمت عليه نفسي منذ ولدت.
إعادة تشكيل الإنسان السوري من جديد لم يكن أمراً سهلاً. لأجل ذلك فقدت العديد من رفاقي على يد النظام السوري وفي معتقلاته، والقائمة بذكرهم -رحمهم الله- تطول، وتغربت أيضاً مرتين، حتى انتهى بي المطاف في “المغترب”، الذي طالما حدثت نفسي فيه حينما كنت أدرس “أدب المهجر” في المدرسة.
اليوم بعد اثني عشر عاماً من الحرية، تعلمت جيداً أن الاستثمار بالإنسان هو أول ما يجب أن نقوم به، وأن استعادة الوطن أنبل ما يمكن أن يفني الإنسان نفسه ووقته لأجله، وأن المعتقلين أمانة، وأن دماء الشهداء نهج ودرب، وأن أعظم ظلم الإنسان لنفسه هو أن يعيش دون قضية يدافع عنها.
هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي “سوريا على طول” وإنما يمثل وجهة نظر كاتبه