“غرباء في ديارنا”: الآشوريون في سوريا أقلية تقاوم من أجل البقاء على ضفاف الخابور
مرت ثماني سنوات على هجوم تنظيم "داعش" على القرى الآشورية على ضفاف نهر الخابور في محافظة الحسكة، ولم يعد سوى 10% من الأهالي إلى موطنهم. فما هو مصير حقوقهم في الإسكان والأراضي والملكية؟ وكيف يرى الآشوريون مستقبل قراهم التي تحولت إلى موطن لآلاف المهجّرين؟
21 مارس 2023
تل طال- على ضفاف نهر الخابور الجاف، تبدو قرية “تل طال” في محافظة الحسكة، شمال شرق سوريا كمدينة أشباح.
في يومٍ غائم، مطلع شباط/ فبراير الماضي، كان نسيم الهواء بارداً عليلاً ساكناً. وحدها الثياب المنشورة هنا وهناك، والمداخن السوداء التي تنفث أعمدة الدخان الكثيفة هي ما يشير إلى وجود بشرٍ خلف واجهات البيوت المتآكلة، التي تبدو كأنها مهجورة.
لولا إيماءات الحياة هذه، لكانت “تل طال” غارقةً في صمتٍ مُبهمٍ مخيف، فلا ضوضاء لسياراتٍ تعبر القرية ولا ثغاء للأغنام أو هتافات للأطفال.
قبل أقل من عقد، كانت “تل طال” موطناً لعشرات العائلات الآشورية، يعتنقون الديانة المسيحية ويتحدثون اللغة الآرامية، وهم من أقدم الشعوب في بلاد الشام. في عشرينيات القرن الماضي، لجأ آلاف الآشوريين إلى شمالي سوريا، بعد فرارهم من الإبادة الجماعية، التي ارتكبها قوميون أتراك، في عام 1915، بحق الأقليات المسيحية في عهد الإمبراطورية العثمانية.
ولجأ البعض الآخر إلى شمال العراق، التي كانت تحت الانتداب البريطاني آنذاك، ولكن في عام 1933، تم استئصالهم من جديد في أعقاب مذبحة سميل، التي دمر خلالها الجيش العراقي، حديث التشكيل، من 60 إلى 64 قرية آشورية، وقتل نحو 10,000 شخص. فيما توجَّه قرابة 15,000 ناجٍ غرباً، هرباً من الاضطهاد، نحو شمال شرق سوريا التي كانت تحت الانتداب الفرنسي آنذاك.
شيّد هؤلاء اللاجئون 35 قريةً وبلدة ًعلى ضفاف نهر الخابور، من أهم روافد نهر الفرات، المتدفق من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي عبر محافظة الحسكة. ازدهر مجتمعهم لعدة عقود، وذاع صيته في المنطقة لغناه ببساتين الرمان وجمالية تنسيق كروم العنب فيه.
ولكن، في عام 2015 حلَّت الكارثة. هاجم مقاتلو تنظيم “داعش” القرى، ودمروا الكنائس، واختطفوا أكثر من 250 شخص، ما دفع الآلاف إلى الفرار، ولم يبق من أصل 15 ألف شخص، كانوا يقيمون على ضفاف الخابور قبل الحرب سوى ألف شخص، بحسب ما قال عدد من الوجهاء الآشوريين لـ”سوريا على طول”.
لم يبق من أصل 15 ألف شخص، كانوا يقيمون على ضفاف الخابور قبل الحرب، سوى ألف شخص.
بعد قرنٍ على الإبادة الجماعية التي هجَّرتهم أول مرةٍ من موطنهم في جنوب شرق تركيا، ظهر تنظيم “داعش” ليشتت المجتمع مرةً أخرى، ويدفع بالآلاف للرحيل إلى بلاد المهجر في أوربا وشمال أميركا وأستراليا. مرت ثمان سنوات على اعتداءات التنظيم، ورغم دحره إقليمياً، عام 2019، إلا أن معظمهم لم يعودوا إلى قراهم.
آوت قراهم الخاوية بمعظمها الناجين من نزاعاتٍ أخرى: آلاف النازحين الفارين من العمليات العسكرية التي شنتها تركيا في مناطق شمال شرق سوريا، الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهو تحالف عسكري يقوده الكرد، وتنطوي ضمنه أيضاً وحدات عربية وآشورية وسريانية. أثار مكوث النازحين في هذه القرى لفترة طويلة توترات حول استخدام الأراضي وحقوق الملكية، وأجج مخاوف آشوريين من تجريدهم من قراهم نهائياً.
الجزء الأول- مجتمعٌ يتداعى
في 23 شباط/ فبراير 2015، أصبحت الحياة في القرى الآشورية على ضفاف الخابور عقيمةً. كانت الفتاة الآشورية، مريم، في الخامسة عشر من عمرها عندما هاجم تنظيم “داعش” القرى، واختطف مئات الناس فيها، كانت هي وأقاربها في قرية “تل شاميرام” من بينهم.
”قلبت اعتداءات تنظيم الدولة حياتي كلها رأساً على عقب”، قالت مريم لـ”سوريا على طول”، من مكان إقامتها الحالي في قرية “تل طال”، حيث تقيم مع زوجها وطفليها. “فقدت قريتي السعيدة، جيراني، عائلتي تشتت خارج البلد، وبقي الخوف يلازمني باستمرار”.
في نهاية أيار/ مايو 2015، تمكَّن المجلس العسكري السرياني، ووحدات حماية الشعب الكردية (ي ب ك) من طرد تنظيم “داعش” خارج قرى الخابور. وفي شباط/ فبراير 2016، أطلق التنظيم سراح آخر المختطفين لديه، ومن ضمنهم مريم مقابل فدية.
كما غيرها من الناجين، كانت تأمل مريم أن تعود الحياة إلى سابق عهدها، لكن سرعان ما تبددت هذه الآمال مع استمرار عمليات العنف في المنطقة.
“بدأ الناس بالعودة إلى المناطق المحررة من داعش، ولكن حينها بدأت تركيا والفصائل التابعة لها بشن ضربات منتظمة”، كما قال لـ”سوريا على طول”، ماتاي حنا، المتحدث باسم المجلس العسكري السرياني، وهو جسم عسكري منضوي في قوات “قسد”.
“بدأ الناس بالعودة إلى المناطق المحررة من داعش، ولكن حينها بدأت تركيا والفصائل التابعة لها بشن ضربات منتظمة”.
تقع تل تمر والقرى المحيطة بها على الطرف الغربي من الأجزاء التي تسيطر عليها “قسد” في محافظة الحسكة، بالقرب من خط جبهةٍ مشتعل يفصل بين مناطق تحكمها فصائل المعارضة المدعومة من أنقرة وقوات موالية للنظام. بانتظامٍ، تقصف الفصائل المدعومة تركيّاً قرىً على ضفاف الخابور، كقرية تل شاميرام، مسقط رأس مريم، بينما تستهدف “قسد” المناطق الواقعة باتجاه الغرب.
قال أهالي القرى أنّ الصراع المشتعل يجعل المنطقة وكأنّها “بلا حياة”. في السنوات الأخيرة، طال القصف الكنائس والبنى التحتية الحيوية كخطوط الكهرباء. لا تُزرع الحقول القريبة من خطوط الجبهة وتٌترك بوراً خشية القصف.
مستوطنات مؤقتة
أمام قلة عدد الآشوريين العائدين إلى ضفاف الخابور، وجد وافدون جدد ملجأ لهم في القرى والمنازل الخالية.
على أطراف الطريق الذي يُفضي إلى تل نصري، قرية آشورية أخرى، تنتشر المستوطنات المؤقتة التي أقامها نازحون. كل مبنى في القرية مأهول تقريباً بعائلتين أو ثلاث أحياناً، يتشاركون المنزل ذاته. رقّع البعض فتحات الجدران المتضررة أو الأسقف المفقودة بالشوادر، رصفوا طوباً اسمنتية ليفصلوا فناء الديار إلى ساحاتٍ أصغر، وصمموا ملجأً من غرفةٍ واحدة بمحاذاة جدران المجمعات الخرسانية. وهناك، في بستان زيتون خلف أنقاض كنيسة القديسة مريم العذراء، أطفالٌ يقطعون الأشجار لتحطيبها.
“جئنا إلى هنا منذ أربع سنوات بحثاً عن ملجأ، لأننا سمعنا أنَّ القرى الآشورية خالية، ولكننا لا نملك أي شيء نعتاش عليه هنا”، كما قالت سيدة مهجرة، عندها خمسة أطفال، لـ”سوريا على طول”، وهي تقف على باب مسكنها المكوَّن من غرفة واحدة. في منزلٍ مجاور، يقسم شادرٌ أبيض من قماش القنب الغرفة الرئيسية، ليفصل بين عائلتين يبلغ إجمالي عددهم أحد عشر فرداً.
بدأت هذه العائلات بالتوافد إلى تل نصري، في عام 2018، بعد عملية “غصن الزيتون” التركية، التي استولت خلالها الفصائل المدعومة من تركيا على منطقة عفرين، غالبيتها كرد، في شمال غرب سوريا. هرباً من القصف التركي، توجهت آلاف العائلات الكردية إلى مناطق نفوذ “قسد” في محافظة الحسكة، واستُقبِلوا في بادئ الأمر بحرارة.
“حينما وصل اللاجئون من عفرين، تم الترحيب بهم في قرى الخابور من قبل السلطات الآشورية”، كما أوضح محمود كارو، نائب هيئة الشؤون الاجتماعية والعمل، والمسؤول عن شؤون النازحين واللاجئين في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وهي حكومة الأمر الواقع في مناطق سيطرة قسد، لـ”سوريا على طول”، كما”جئنا لتزويدهم بالكهرباء وتركيب المولدات”.
بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وصل عدد النازحين المقيمين في ناحية تل تمر كلها إلى أكثر من 16,000 نازح، مشكلِّين بذلك نحو ثلث إجمالي عدد السكان.
في المجمل، فتح الآشوريون [للوافدين] 1,750 منزلاً في قراهم المحيطة بتل تمر، ومن ضمنها قرية تل نصري بكاملها، التي كانت موطناً لـ 650 شخصاً قبل الحرب. تولى إدارة هذه العملية مطران كنيسة المشرق الآشورية، ووُزِعت المنازل من قبل لجنة حماية أملاك الغائب، هيئة محلية معنية بإدارة العقارات الشاغرة.
في السنة التالية، توغلت تركيا مجدداً إلى داخل أراضي سيطرة “قسد” ليصبح خط المواجهة أقرب إلى تل تمر، ما دفع العديد من نازحي عفرين، الذين استقروا في القرى الآشورية، إلى الهروب مجدداً، بحسب كارو. عقب رحيلهم، توافد الآلاف من الكرد والعرب من ريف رأس العين، بعد سيطرة الفصائل المدعومة من تركيا عليها، أواخر عام 2019، في عملية “نبع السلام” التي شنتها أنقرة.
“الموجة الثانية من النزوح كانت أكثر تلقائية”، استذكر كارو. كان القادمون يأتون بطريقة أكثر عشوائية ولم يكن هناك تنسيق مع أعضاء المجتمع المحلي كما في الموجة الأولى القادمة من عفرين. بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وصل عدد النازحين المقيمين في ناحية تل تمر كلها إلى أكثر من 16,000 نازح، مشكلِّين بذلك نحو ثلث إجمالي عدد السكان.
“غرباء في ديارنا”
مع زيادة عدد النازحين، تعمَّقت التوترات بينهم وبين مستضيفيهم الآشوريين حيال مسألة استخدام الأراضي والممتلكات. في بادئ الأمر، كان العديد من أولئك الذين حلّوا في القرى الآشورية من أقرباء أو معارف أهالي القرى، كحال أبو أحمد، رجل كردي-أشوري نزح مع عائلته من رأس العين إلى “تل طال” في عام 2019.
“قبل أسبوعين من بدء القصف في رأس العين، اتصل بنا أشخاص من تل تمر لتحذيرنا من هجومٍ وشيك”، قال أبو أحمد لـ”سوريا على طول”، وكان منخرطاً في منظمة عسكرية آشورية وتجمعه صلة جيدة بقادةٍ محليين في تل تمر، وأضاف مستذكراً: “قالو لي: تعال مع زوجتك وأطفالك إلى هنا، يوجد منزلٌ جاهزٌ في انتظارك”.
بالنسبة للمسؤولين المحليين في لجنة حماية أملاك الغائب، المكلّفين بإدارة ممتلكات الآشوريين المقيمين خارج البلاد، كانت مسألة إسكان أناس يعرفونهم مسبقاً في المنازل، من باب الإعارة، تخدم غرضين: من جهة، هي بادرة إنسانية. ومن جهةٍ أخرى، وجود أناس يثقون بهم لإحياء القرى.
ولكن مع ارتفاع وتيرة النزوح في عام 2019، كانت تتزايد صعوبة تنظيم وضبط من يعيش في القرية. اشتعل فتيل المصادمات المحلية حينما احتج الآشوريون على القادمين الجدد، الذين يرعون مواشيهم في الحقول، ويقطعون الأشجار والعرائش من أجل التحطيب، أو تعديل مخططات المنازل، التي حلّوا فيها، لتتناسب مع إقامة أكثر من عائلة.
”صرنا نشعر كما لو أننا غرباء في منازلنا… وافقنا على استضافة الناس لأسبابٍ إنسانية، ولكنها أصبحت [إقامة] دائمة”.
اتهم العديد من الآشوريين علانيةً بعض العائلات بأنهم ليسوا مهجَّرين وإنما “متظاهرين بذلك”، وجاؤوا للقرى للحصول على المساعدات، وهو تصورٌ يتسم بالمبالغة على الأرجح. “يتلقى هؤلاء النازحين نوعاً من المساعدة، ولكنها رمزيةً في الغالب، عبارة عن بضع بطانياتٍ وبعض الغذاء، وقليلاً من وقود التدفئة في كل حين وحين”، وفقاً لكارو، نائب هيئة الشؤون الاجتماعية والعمل في الإدارة الذاتية، لكن “لا يوجد مساعدة دولية منسقة موجهة للمنطقة، ولا يوجد دعم على المدى الطويل”.
ومع ذلك، يرى القادة المحليون أن الإقامة الطويلة للنازحين الدخلاء يشكل تهديداً، حتى “صرنا نشعر كما لو أننا غرباء في منازلنا”، على حد وصف بولس أوديشو، رئيس لجنة حماية أملاك الغائب في تل تمر، مضيفاً: “وافقنا على استضافة الناس لأسبابٍ إنسانية، ولكنها أصبحت [إقامة] دائمة”.
أعرب البعض، مثل رئيس حزب المنظمة الآثورية الديمقراطية، غابرييل موشيه، عن “مخاوف حقيقية من أن يفضي الوضع الراهن إلى تغيير ديموغرافي دائم”.
اشتدَّت المخاوف في آب/ أغسطس 2022، عندما تعرضت قرية تل نصري لـ”محاولة للاستيطان بالقوة” حسب وصف عدة قادة أشوريين. استذكر أحمد الذي كان هناك “وصل نحو 300 شخص على حين غرة، وخمسين سيارة بيك اب، ومفروشات ومولدات. كان من الواضح، مع كل ما جاؤوا به، أن هدفهم الاستيطان في القرية”، لافتاً إلى أنهم “كسروا الأقفال والأبواب، ودخلوا المنازل”.
مع تدافع العائلات إلى المنازل الفارغة، استدعى أهالي القرية قوى الأمن الداخلي (السوتورو)، قوة مسيحية آشورية سريانية، التي طردت واضعي اليد على الأراضي، بالتنسيق مع “قسد”. لكنًّ هذا الحدث، الذي استمر لأيام، ترك أثراً دائماً.
الجزء الثاني- حماية الممتلكات
مع احتدام التوترات بين المهجّرين والمجتمعات المستضيفة في قرى الخابور، تنامى شعور القلق عند أفراد المجتمع الآشوري حول مصير الأراضي والممتلكات التي تركوها في عام 2015.
قلقهم ينتاب كثير من السوريين، ففي كل أنحاء البلاد يواجه الناس صعوبات متزايدة حيال حماية حقوق الملكية الخاصة بهم منذ اندلاع الحرب، وهذا لا يعود إلى الفوضى القانونية الناجمة عن الحرب وانهيار المؤسسات فحسب؛ وإنما أيضاً إلى أطراف الصراع الذين استولوا بشكل غير قانوني على المنازل والأراضي والملكيات التي تركها النازحون واللاجئون.
“خلال الحرب على داعش، كنا نرى تهديدات كثيرة تطال ممتلكات المهجّرين من منازل وأراضي زراعية”، كما قال لـ”سوريا على طول”، سنحريب برصوم، رئيس حزب الاتحاد السرياني، وهو حزب سرياني آشوري في شمال شرق سوريا.
“كنا بحاجة إلى طريقة ندافع فيها عن حقوق المُلّاك الغائبين”، أضاف برصوم. لذلك، أنشأ القادة السياسيون الآشوريون ورجال الدين آلية للتحكم في ممتلكات الغائبين داخل محاكم الإدارة الذاتية. ولكن هذه المبادرة واجهت على مدى السنوات الثمانية الماضية تحديات وانتقاداتٍ عدة حتى من داخل المجتمع ذاته.
لجنة حماية أملاك الغائب
في عامي 2014 و2015، أصدرت السلطات المحلية في شمال شرق سوريا -قبل تأسيس الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، عام 2018 من تحالفٍ من الأحزاب الكردية والعربية والسريانية والآشورية بقيادة الكرد- عدة قرارات لتقييد بيع الملكيات العقارية التي غاب أصحابها.
كان الأيزيديون السوريون والمسيحيون يفرون جماعياً من قراهم خشيةً من تهديد “داعش”، وكانت أراضيهم تباع دون رقابة.
منح أحد هذه القرارات، الذي صدر تحت اسم “المرسوم رقم 20 لعام 2015″، حماية خاصة للأقليات الأيزيدية والمسيحية في سوريا، مخولاً إياها تشكيل لجان لإدارة العقارات التي غادر أصحابها المنطقة أو فُقِدوا. في ذلك الوقت، كان الأيزيديون السوريون والمسيحيون يفرون جماعياً من قراهم خشيةً من تهديد “داعش”، وكانت أراضيهم تباع دون رقابة.
رحّب القادة الآشوريون السياسيون بهذا الإجراء، لأنهم كانوا يخشون أنّ مجتمعهم على ضفاف الخابور آيلٌ للاندثار، بسبب المجازر التي ارتكبها تنظيم “داعش” وما نجم عنها من تهجير سكان المنطقة. ورأى العديد منهم أنَّ الحفاظ على الطابع الأشوري التاريخي لهذه المستوطنات شرطاً جوهرياً لعودة المجتمع مستقبلاً.
“معظم السكان الأصليون في الخابور هاجروا خارج سوريا، ولكن هناك جزء منهم بقي في الحسكة والقامشلي، وبعضهم في مناطق النظام أو في دول الجوار”، بحسب برصوم، متوقعاً أن “تعود هذه المجتمعات إلى قراها، إذا صارت آمنة ووجِدت فيها فرصاً لكسب العيش”.
استناداً إلى “المرسوم 20″، الصادر في عام 2015، قام أعضاء من ثلاثة أحزاب سريانية وآشورية (حزب الاتحاد السرياني، والمنظمة الآثورية، والحزب الآشوري الديمقراطي)، إلى جانب رجال دين من مختلف الكنائس الآشورية والسريانية والكلدانية، بتأسيس لجنة حماية أملاك الغائب لإدارة أملاك الغائبين المسيحيين وتمثيلهم في المحكمة، ثم تفرَّعت هذه اللجنة الإقليمية إلى عدة أفرع محلية، مُشكلّة من قادة المجتمع المحلي. تتكون اللجنة في تل تمر من عشرة أعضاء يختارهم الأسقف المحلي.
“لجنة حماية أملاك الغائب هي الممثل القانوني للمالكين الغائبين في محاكم ومؤسسات الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا “، كما أوضح برصوم، من حزب الاتحاد السرياني، قائلاً: “إذا تعذّر على الغائبين الحضور شخصياً، كونهم غير قادرين على السفر، أو لأنَّ حياتهم مهدّدة في سوريا، تصون اللجنة مصالحهم هنا”.
التهديدات القانونية والعسكرية
واجهت اللجنة الفرعية في تل تمر منذ إنشائها في عام 2015 تهديدات عدة متعلقة بحقوق الملكية، أبرزها متعلق بتنازع السلطة القضائية بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية: لكل من الإدارة الذاتية والنظام نظام المحاكم الخاص به في شمال شرق سوريا.
على الرغم من سيطرة الإدارة الذاتية على معظم أنحاء المنطقة، غير أنًّ القرارات الصادرة عن النظام ما تزال سارية المفعول. زيادةً على ذلك، لا تملك الإدارة الذاتية سجلاً عقارياً، لذلك لا يمكن تصديق معاملات نقل الملكية فعلياً سوى في محاكم النظام.
أسفر تداخل الأطر القانونية عن مجموعة كبيرة من المشاكل القانونية، بما فيها انتشار وثائق الملكية المزورة المُصادق عليها من المحاكم الحكومية السورية في خضم الفساد المستشري.
اقرأ المزيد: من دون سجل عقاري: شلل قانوني يضرب شمال شرق سوريا منذ عامين
“كان هناك عشرات الحالات في جميع المجتمعات المسيحية لأناسٍ يدَّعون ملكيتهم لممتلكات غائبين، باستخدام وثائق مزورة تمت مصادقتها بمحاكم النظام السورية”، بحسب برصوم، لافتاً إلى “وجود قضاة، كاتبي عدل، ومحامين يعملون جميعاً يداً بيد للمصادقة على مستندات مزورة مقابل الرشاوى”.
في تل تمر، كانت المزارع على وجه الخصوص مطمعاً تقع العيون عليها، وكانت أحياناً تباع الأراضي التي تعود ملكيتها للغائبين رغم معارضة اللجنة المحلية لحماية أملاك الغائب. كونها لجنة أنُشِئت بموجب قرار من الإدارة الذاتية، فلا يعترف النظام السوري بها، ولا قيمة لقراراتها في محاكمه.
لكن المشكلة لا تنحصر بالنظام وحده، إذ ذكر العديد من أعضاء لجنة حماية الغائب لـ”سوريا على طول” أنَّ النشاطات العسكرية المستمرة، ومن ضمنها العمليات العسكرية التي تنفذها “قسد”، تشكل تهديداً كبيراً على حقوق الملكية.
في السنوات الأخيرة، استولت قوات سوريا الديمقراطية وفصائل تابعة لها على تسع قرىً تقع على خط المواجهة ضد الفصائل المدعومة من أنقرة أو بالقرب منها، بحسب أوديشو، الذي يترأس لجنة حماية أملاك الغائب في تل تمر.
“طلبوا مني مفتاح المنزل، لكني رفضت. فكسروا الباب واقتحموه”.
“بعض قرانا القريبة من خط الجبهة أُخِذت منا لأغراض عسكرية و لحمايتنا”، كما قال أوديشو لـ”سوريا على طول”، مضيفاً: “تقع القاعدة العسكرية الجوية على جزء من أرضي أو في محيطها، ولكن لا أتلقى تعويضاً عن الجزء الذي لا أستطيع زراعته وحصاده”.
قال أعضاء آخرون من لجنة حماية أملاك الغائب في تل تمر أنَّ عناصر من “قسد” استولوا على منازل بالقوة ومن دون أي مسوِّغ عسكري. في “تل فيدا”، التي لا تقع على خط الجبهة، كان إدموند كارياكوس شاهداً على سلب منزل تعود ملكيته لإحدى العائلات الغائبة، على يد عناصر من “قسد”.
“طلبوا مني مفتاح المنزل، لكني رفضت. فكسروا الباب واقتحموه”، قال كارياكوس لـ”سوريا على طول”. أضاف أوديشو: “يقيم داخل المنزل حالياً اثنا عشر عنصراً من قسد”، وأخفقت محاولات استرداد المنزل لأنَّ محاكم الإدارة الذاتية لا تنظر في القضايا العسكرية.
لم يتسن لـ”سوريا على طول” التحقق من هذه المزاعم بشكل مستقل، لكن الاتهامات ذاتها ترددت على لسان العديد من القادة السياسيين الآشوريين، الذين قالوا أنَّ الوجود العسكري لـ”قسد” في قرى الخابور، وإن كان يسوغه التخوف المستمر من هجومٍ تركي محتمل، غير أنَّه جعل المنطقة غير صالحة لحياة المدنيين.
“حتى الممتلكات التي لم تدمرها داعش، تقع الآن تحت الخطر جراء العمليات العسكرية، ووجود عشرات الأنفاق التي حفرتها قسد بالقرب من خطوط المواجهة”، قال موشيه من المنظمة الآثورية الديمقراطية، التي لا تنضوي ضمن تحالف الإدارة الذاتية.
وأضاف: “لا أفهم الغرض العسكري من هذه الأنفاق. لا شك أن الوضع في المناطق الحدودية وفي الريف مختلف، لكن داخل المدن والقرى فإنّها من عوامل الخطر التي يمكن أن تلحق الضرر بالمباني”.
من جهتها، تقرّ “قسد” بوجود هذه الأنفاق والنقاط العسكرية، لكنها تدعي أن الاحتياجات العسكرية تبررها. “بلا شك في المناطق الواقعة على خط المواجهة هناك وجود عسكري وهناك عمليات عسكرية”، قال حنا من المجلس العسكري السرياني، مواصلاً حديثه: “لكن بوسعك زيارة بقية المنطقة لترى بنفسك أن هدفنا إبعاد المدنيين عن الضرر وعن الجبهة. نحن لا نستخدم الناس دروعاً بشرية، كما فعل داعش”.
نظام اللجنة: موضع خلاف
رغم مساعيها لحماية حقوق الغائب، تواجه اللجنة انتقادات شتى حتى من داخل المجتمع الأشوري ذاته، إذ بعد فترة وجيزة من الإعلان عن “المرسوم 20” لعام 2015، الذي ينص على تشكيل اللجان، اضطرت الإدارة الذاتية التراجع عنه نظراً لما واجهته من رفضٍ شعبي واسع.
رأى المعترضون على هذا “المرسوم” أنه يخول السلطات السيطرة على ممتلكات الغائبين بحدود كبيرة جداً. في عام 2020، حاولت الإدارة الذاتية أن تعتمد التدابير ذاتها مرةً ثانية، من خلال القانون 7 لعام 2020، واضطرت لإلغائها بعد أسبوعٍ واحدٍ فقط بسبب الاحتجاج الشعبي. رغم ذلك، بقيت لجنة حماية أملاك الغائب وفروعها المحلية قائمةً منذ تشكيلها، وإن كان وجودها ما يزال موضع خلاف.
على الرغم من تأسيسها لحماية حقوق الغائبين، فهي لا تشمل أياً من الآشوريين المقيمين في الخارج، الذين لا يتحكمون بمصير ممتلكاتهم إلا بقدرٍ محدود. ولا تضم اللجنة أي امرأة، مما يثير التساؤلات فيما إذا كانت تمثل المجتمع بأكمله، ومدى حرصها على حماية حقوق الملكية الخاصة بالإناث، في قضايا الميراث والطلاق على سبيل المثال.
قد يرسخ نظام اللجنة أيضاً ديناميكيات السلطة الموجودة مسبقاً داخل القرى. يمارس الأعضاء العشرة للجنة تل تمر -الذين لم يُنتخبوا وإنما تم اختيارهم كشخصيات محلية تحظى بقبول مجتمعي- سلطةً هائلة، وهم يمثلون المالكين في المحكمة، ويوزعون المنازل، ويوافقون على عقود الإيجار بين أصحاب العقارات الغائبين والمزارعين المحليين، بما ينسجم مع هدفهم المصرّح عنه، المتمثل في إبقاء ملكية العقارات داخل نطاق المجتمع. وغالباً ترفض اللجنة محاولات المالكين الغائبين البيع لغير الآشوريين أو غير المسيحيين.
تقرر اللجنة أيضاً من يمكنهم زراعة الأراضي الزراعية، التي تركها الغائبون، أو رعي قطعانهم فيها، الأمر الذي يمكن أن يكون موضع خلاف. “نوزع حقوق زراعة أراضيهم للناس الذين ما يزالون هنا. لا نسمح للغائبين أن يضعوا شخصاً في الأرض ينوب عنهم للحصول على إيرادات”، قال أوديشو، مؤكداً أن “الأولوية لأولئك الذين بقوا”.
بالمحصلة، لا يملك المالكون الغائبون سوى قدراً محدوداً من السيطرة على ممتلكاتهم، ولا يملك النازحون مستنداتٍ قانونية تجعل وجودهم آمناً في المنازل الآشورية. بعد نزوحه الخامس، وبقائه لأربع سنواتٍ في “تل طال”، ما يزال أبو أحمد في وضعٍ حرج. ليس بينه وبين مالك المنزل الذي يسكنه الآن عقد إيجارٍ أو صلةً مباشرة، وكل الأمور تتوسطها اللجنة، ما يعني أنّه مهدد بالطرد دون أن يجد من يلجأ إليه ليحميه قانونياً أو يعوضه.
الجزء الثالث- مستقبل الخابور
ما يزال العديد من الآشوريين على ضفاف الخابور يرون بأم أعينهم تحوّل قراهم عمّا كانت عليه، وتفكُك مجتمعهم واندثاره بحسرةٍ وألم كبير. معظم الباقين هم من كبار السن، الذين يرفضون أن يهاجِروا أو يهجُروا منازلهم التي عاشوا فيها طيلة حياتهم.
“الحياة بائسة. لا مياه، ولا كهرباء، رحل الجميع. إذا استمرت الأمور هكذا، فلن تجد أشورياً واحداً في تل تمر خلال عشر سنوات”.
“نحن آخر من بقي هنا. أربع عائلات”، قال عجوز من قريةٍ تل تمر، وهو يقف وسط أنقاض كنيسة مار عوديشو الآشورية، التي فجّرها تنظيم “داعش” عام 2015، مضيفاً: “الحياة بائسة. لا مياه، ولا كهرباء، رحل الجميع. إذا استمرت الأمور هكذا، فلن تجد أشورياً واحداً في تل تمر خلال عشر سنوات”.
رغم محاولات الآشوريين إبقاء ملكية العقارات داخل نطاق المجتمع، للحيلولة دون توطين المجموعات الأخرى على المدى الطويل، إلا أنه من غير الواضح فيما إذا كان أولئك الذين هجروا البلاد سيعودون إلى المنطقة للعيش فيها بشكل دائم أم لا. فكيف تخطط الإدارة الذاتية العالقة بين متطلبات هذه الأقلية المتلاشية، والاحتياجات المتزايدة لإيواء النازحين الفارين من الحرب، لإدارة هذه القرى؟ وكيف يرى الآشوريون أنفسهم مستقبل مجتمعهم؟
جنة تحتضر
كانت هجمات “داعش” في عام 2015 نقطة التحول التي دفعت آخر الآشوريين في الخابور إلى الرحيل الجماعي. ولكن في الواقع، بدأت الهجرة على نطاق واسع من المنطقة قبل سنوات الحرب، بسبب مجموعة من العوامل البيئية والاقتصادية والسياسية.
“حتى قبل عام 2011، كان الآشوريون والسريان يهاجرون باطرّاد بسبب الوضع الاقتصادي السيئ، وعدم تمتعهم بالحقوق هنا كأقلية”.
“حتى قبل عام 2011، كان الآشوريون والسريان يهاجرون باطرّاد بسبب الوضع الاقتصادي السيئ، وعدم تمتعهم بالحقوق هنا كأقلية”، قال موشيه لـ”سوريا على طول”. وتقدر الشبكة الآشورية لحقوق الإنسان، وهي منظمة حقوقية مقرها في السويد، أن عدد الذي كانوا يعيشون في المنطقة لم يتجاوز 15 ألف شخص في عام 2010، من أصل 22 ألف شخص في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وفقاً لتقديرات موشيه.
كان للعوامل البيئية أيضاً دوراً كبيراً. في التسعينيات، بدأت الينابيع الجوفية الواقعة حول مدينة رأس العين على الحدود بين تركيا وسوريا، التي تغذي نهر الخابور، في الجفاف نتيجة الإفراط في الضخ على جانبي الحدود، والتحول في استخدام الأراضي من منطقة بعلية تُستخدم لرعي الماشية من قبل البدو، إلى محطة زراعية، منذ الخمسينيات، تتزايد فيها الزراعة المروية.
كان لهذه الأزمة البيئة وطأتها الشديدة على قرى الخابور. في مطلع العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، توقف النهر عن الجريان على مدار عام كامل، ما اضطر المزارعون حفر الآبار لسقاية محاصيلهم الصيفية. وأثرَّ انخفاض تدفق المياه أيضاً على الخزانات المائية عند مصب النهر التي كانت تغذي شبكة مكثفة من قنوات الري، وتضاءلت المساحات الزراعية المروية في حوض الخابور.
“كان الآشوريون يفكرون بالهجرة منذ وقتٍ طويل جداً، وبعد الحرب ندم الكثيرون على عدم هجرتهم من قبل”.
انتقل العديد من المزارعين الآشوريين من قراهم إلى مدينة الحسكة المجاورة، حيث كانت سبل الراحة هناك أفضل. “العديد من العائلات لا تعتمد على الزراعة فحسب، وإنما لدى البعض وظائف مكتبية ومنازل في الحسكة”، قالت مريم، مستذكرة: “عندما جف النهر، انتقلوا للاستقرار هناك. الذين استطاعوا حفر بئرٍ استمروا في الزراعة، بينما ترك البعض الأراضي دون سقاية كما كانت عليه”.
حوّل الانهيار الاقتصادي، إلى جانب البيئة القمعية السائدة في سوريا تحت حكم نظام الأسد، قرى الخابور إلى أرض هجرة قبل الحرب بزمن. “كان الآشوريون يفكرون بالهجرة منذ وقتٍ طويل جداً، وبعد الحرب ندم الكثيرون على عدم هجرتهم من قبل”، بحسب مريم. وفي المقابل، ما كانت الهجرة الجماعية، في عام 2015، لولا وجود مجتمعات آشورية متعددة في البلدان الأوروبية والغربية قد سبقتهم.
هل سيعود الآشوريون إلى ديارهم التاريخية؟
مع بداية الحرب، تفاقمت الأزمة البيئية التي دفعت العديد من المزارعين إلى الخروج من قرى الخابور في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في عام 2021، أسفر بناء العديد من السدود الترابية المؤقتة في مناطق سيطرة الفصائل المدعومة من أنقرة، عند المنبع، إلى الحد من تدفق النهر إلى مستوى منخفض تاريخياً. وحتى لو عاد جريان المياه، فإن قنوات الري معطلة لأن المضخات والبوابات الحديدية نُهِبت، ومحطات المياه تضررت خلال الحرب.
إلى جانب عدم الاستقرار العسكري، يؤدي شح المياه إلى زيادة صعوبة الحياة في قرى الخابور. يتساءل بعض المراقبين عما إذا كان من الممكن عكس مسار الهجرة، وهي “التهديد الأكبر الذي يواجهه الآشوريون في شمال شرق سوريا”، بحسب موشيه، فلماذا يصر القادة الآشوريون في شمال شرق سوريا على الاحتفاظ بالممتلكات داخل المجتمع، إذا غادر قبل الحرب أكثر من 90% من سكان الخابور، الذين يتراوح عددهم بين 15 و22 ألف نسمة؟.
“إننا نواجه اليوم احتمالاً حقيقياً باندثار هذا المجتمع في سوريا، من واجبنا أن نمنع ذلك“.
“صحيح أن معظم الآشوريين قد هاجروا، لكن الآلاف منهم يعودون في كل عام، يقيمون في منازلهم لعدة أشهر، لزيارة أقاربهم والعناية بأراضيهم”، وفقاً لبرصوم، لكن “إن كان هناك مهجّر يقيم في منزلهم، فلا يستطيعون إبقاء هذه الصلة”.
وفي الوقت ذاته، يؤدي الوافدون الجدد (النازحون) دوراً هاماً في استدامة الاقتصاد الريفي في تل تمر. حتى قبل الحرب، كان العديد من المالكين الآشوريين يوظفون عمال مياومة من الكرد والعرب لزراعة أراضيهم، وهو الدور الذي يشغله الآن إلى حدٍ كبير النازحون المقيمون في القرى، الذين لا خيار لهم سوى العمل في الأرض معظم الأحيان.
يرى العديد من الآشوريين أنَّ حماية قرى الخابور أمراً جوهرياً لِصون مجتمعاتهم في سوريا ككل. “تعرض شعبنا لمحاولة إبادة جماعية على يد تنظيم داعش”، على حد قول برصوم. وأبدى تخوفه من “أننا نواجه اليوم احتمالاً حقيقياً باندثار هذا المجتمع في سوريا”، لذلك “من واجبنا أن نمنع ذلك، وأن نمنح الأمل لأولئك الذين ما يزالون يعيشون في المنطقة ولم يرحلوا. وهذا يتضمن صون أملاك الغائبين، حتى يعودوا يوماً ما”.
يتمنى العديد من الآشوريين العودة، لكنها تبدو احتمالاً مستبعداً، لأن اللاجئين منهم، مع مرور السنوات، شرعوا في بناء حياتهم من جديد في المهجر. “بلا شك، سيعود المهاجرون إلى سوريا للزيارات بين الحين والآخر”، كما قال فادي أنطوان، عضو ممثل للمجتمع المسيحي في لجنة حماية ممتلكات الغائب في الحسكة، لـ”سوريا على طول”، لكن “العودة الدائمة، لن تحدث، ما لم يكن هناك حل سياسي للحرب، فليس للناس ما ترجع إليه”.
بين المطرقة والسندان
قال قادة سياسيون وأعضاء من لجنة حماية أملاك الغائب في تل تمر لـ”سوريا على طول” أن الهاجس الأكثر إلحاحاً هو المكوث الطويل للناس المُهجّرين، خشية أن يفضي إلى تغيير ديموغرافي دائم في بنية المجتمع المحلي.
وعليه، “نطالب الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بنقل هؤلاء الناس إلى مكانٍ آخر، إما عن طريق توسيع مخيمات النازحين الموجودة أصلاً، أو بإنشاء مخيمات جديدة لهم”، قال كارياكوس من لجنة حماية أملاك الغائب في تل تمر. لكن سلطات الأمر الواقع في شمال شرق سوريا عالقة بين المطرقة والسندان.
“ترحيل الناس إلى المخيمات ليس حلاً”.
من ناحية أخرى، تتوجس الإدارة الذاتية، التي أسسها تحالف من الأحزاب الكردية والعربية والسريانية والآشورية من مخاوف الأقليات، التي تشكل جزءاً مهماً من قاعدة دعمها خارج السكان الكرد.
إن مصير قرى الخابور هو اختبار لمدى تعهدها والتزامها بصون هذه المجتمعات، وقد تبنت الإدارة الذاتية موقفاً “واضحاً” حيال هذه القضية، بحسب كارو، من هيئة الشؤون الاجتماعية والعمل في الإدارة الذاتية، قائلاً: “نرفض رفضاً قاطعاً أي محاولة لتغيير التركيبة السكانية في المنطقة، ولن تجلب الإدارة الذاتية أحداً من النازحين أو غيرهم، للعيش في هذه القرى. لن نفعل شياً يفاقم مخاوف الأهالي الأصليين من التغيير الديمغرافي”.
ولكن من جهةٍ أخرى، لا يوجد أي حلٍ بديل في الأفق لآلاف الناس المهجَّرين من منازلهم المقيمين حالياً في قرى الخابور. يقيم نحو 413 ألف نازح في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. ولا يقطن العديد منهم في مخيمات رسمية، وإنما في مخيمات عشوائية، قلّما تصلها المياه والكهرباء، ويصعب على الجهات الإنسانية الفاعلة الوصول إليها، إما لأنّ توجيه الاستجابة الإنسانية إلى المخيمات الرسمية أسهل، أو كونهم يعيشون في مناطق قريبة من خطوط الجبهات المشتعلة.
في عام 2021، طلبت لجنة حماية أملاك الغائب من الإدارة الذاتية رسمياً أن تبدأ بنقل المُهجرين المقيمين في قرى الخابور إلى مكانٍ آخر. واستجابةً لذلك، نقلت الإدارة الذاتية العائلات المقيمة في “قبر شامية” و”تل بالوعة” و”تل مخاضة” إلى مخيم سري كانيه، وفقاً لكارو.
ولكن من غير المرجح أن تحدث عمليات نقلٍ أخرى في المستقبل القريب، لأن “ترحيل الناس إلى المخيمات ليس حلاً”، بحسب كارو. مضيفاً: “من المفترض أن يصغر تعدادهم بمرور الوقت لا أن يكبر”، كما أن التمويل الإنساني للشمال الشرقي السوري في تدني مستمر.
ويتعذر على الوافدين الجدد المستقرين في قرى الخابور، الذين يواجهون حالياً تهجيراً آخر، العثور على مكان يأوون إليه “ظننا في البداية أن وجودنا في تل تمر سيكون مؤقتاً. ولكن مرت السنوات ولم نستطع العودة. لذلك حاولنا عام 2021 الانتقال إلى مخيم واشوكاني ليصلنا بعض الدعم الإنساني على الأقل، ولكن بعد فوات الأوان”، قالت عجوزٌ من رأس العين تقيم في تل نصري، لـ”سوريا على طول”، لكن “إدارة المخيم لم تقبلنا”.
المهجّرون الذين يعيشون الآن في تل تمر حالهم حال المضيفين الآشوريين الغائبين، تم اقتلاعهم من أراضيهم بسبب الحرب، هم أيضاً أُخرِجوا من ديارهم التي يأملون العودة إليها يوماً، ولكن مع مرور السنين من دون حل سياسي يلوح في الأفق، سيبقون عالقين في ظروف معيشية قاسية، وعلاقات غير ودية مع المجتمع المستضيف.
“الحل الوحيد على المدى الطويل هو عودة جميع السوريين إلى مناطقهم الأصلية”، قال كارو. ولكن مع استمرار تركيا بتدمير الخدمات الأساسية وخنق نهر الخابور -الذي كان يوماً شريان الحياة للقرى الآشورية- فإن مستقبل المنطقة والأمل بانبعاثها من جديد سيبقى بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى.
تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور