7 دقائق قراءة

غير قابل للتنفيذ (1): السوريون عالقون في مأزق دنماركي

انقلبت حياة مئات اللاجئين السوريين في الدنمارك رأساً على عقب بسبب إلغاء تصاريح إقامتهم أو رفض تجديدها، بذريعة أن أجزاء من سوريا آمنة للعودة إليها، وهو ما يتعارض مع تقييمات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.


بيروت وباريس- بقلق، ينتظر محمد طارق الديري رسالة من دائرة الهجرة الدنماركية، لمعرفة ما إذا كان قرار “الهجرة” يقضي بتفريق عائلته في مكانين مختلفين.

قبل عام، ألغت الحكومة الدنماركية إقامة المحامي السوري، البالغ من العمر 58 عاماً، معتبرة أن دمشق وريفها مناطق “آمنة” لعودة اللاجئين، وعليه قيل للديري بأنه سيُنقل مع اثنين من أطفاله إلى أحد مراكز الترحيل، بينما سُمح لزوجته وابنته الكبرى بالبقاء في منزلهم بمدينة سونابورغ (Sønderborg) جنوب الدنمارك، لأن قضيتهما قيد المراجعة.

“أخبرتهم أنني مستعد للانتقال إلى مركز الترحيل بشرط بقاء الأولاد مع أمهم في المنزل، لكن إذا ألزموني باصطحاب اثنين من أطفالي، سأطلب اللجوء في بلجيكا أو هولندا أو ألمانيا”، قال الديري لـ”سوريا على طول”، مستدركاً “إذا أرسلوني من دون أطفالي، سأذهب وأترك أسرتي في منزلنا، حتى يتمكنوا من مواصلة حياتهم وتعليمهم” في الدنمارك، حيث تقيم العائلة منذ عام 2015.

وخلال الأشهر الثمانية الماضية، كانت قضية عائلة الديري معلقة في منطقة رمادية، بانتظار قرار القاضي إذا كان سيعيد فتح قضيتهم أم لا، وإلى حين وصول الرسالة ينتظر محمد في منزله.

أخبرتهم أنني مستعد للانتقال إلى مركز الترحيل بشرط بقاء الأولاد مع أمهم في المنزل، لكن إذا ألزموني باصطحاب اثنين من أطفالي، سأطلب اللجوء في بلجيكا أو هولندا أو ألمانيا

قصة الديري واحدة من مئات القصص للاجئين سوريين انقلبت حياتهم رأساً على عقب بسبب القرارات الدنماركية، التي بدأت في عام 2019 بسحب الإقامات أو رفض تجديدها، متذرعة بأن أجزاء من سوريا صارت آمنة للعودة. والدنمارك هي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تتبع هذه السياسة مع اللاجئين السوريين، وهو ما يتعارض مع تقييمات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

ومنذ عام 2019، أعادت الحكومة الدنماركية النظر في أكثر من 800 حالة لسوريين من دمشق وريفها، كانوا قد منحو إقامات “حماية مؤقتة” بسبب “الظروف العامة” للحرب في سوريا، وتقوم حالياً بتقييم 300 حالة، وفقاً لدائرة الهجرة الدنماركية.

ومنذ مطلع 2019 حتى نهاية 2021 قررت دائرة الهجرة إلغاء إقامات 378 سورياً أو رفض تمديدها، وتم تأييد قرارها في 162 حالة بعد الاستئناف، وفقاً لبيانات حصل عليها “سوريا على طول” من دائرة الهجرة الدنماركية ومجلس استئناف اللاجئين.

ومع ذلك، عاد حتى الآن خمسة سوريين فقط ممن خسروا إقاماتهم في الدنمارك، فيما فرّ العشرات منهم إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، وفقاً لوكالة العودة الدنماركية، وهي الجهة المسؤولة عن ضمان مغادرة طالبي اللجوء المرفوضين للأراضي الدنماركية، مشيرة إلى أن 37 سورياً طلبوا اللجوء داخل الاتحاد الأوروبي وغادر خمسة منطقة الشنغن.

ورغم تسجيل 117 سورياً رسمياً في وكالة العودة الدنماركية، بأنهم مجبرين على مغادرة البلاد، فإن عدم وجود اتفاقية ثنائية بين كوبنهاغن ودمشق يحول دون إعادتهم إلى سوريا، ما يعني احتجازهم في مراكز الترحيل (العودة) إلى أجل غير مسمى، أو أن يقرروا مغادرة الدنمارك. ويبلغ عدد المحتجزين حالياً في تلك المراكز 20 سورياً ممن فقدوا إقاماتهم، قد ينضم إليهم محمد طارق الديري إذا وصلته رسالة بذلك.

وإذا كان خمسة لاجئين سوريين عادوا إلى بلادهم بعد أن فقدوا حق الإقامة في الدنمارك، فإن 137 آخرين عادوا “طواعية” في عام 2020، وفقاً لتقرير وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء. وأكدت السلطات الدنماركية هذا الرقم لـ”سوريا على طول”، موضحة أنه يشير إلى السوريين الذين لم يفقدوا إقامتهم.


كابوس قضائي

في عام 2014، غادر المحامي محمد طارق الديري سوريا “بعد أن تم توقيفي عدة مرات على الحواجز للتحقق من اسم عائلتي”، موضحاً أن الأجهزة الأمنية السورية اعتقلت 10 أفراد من عائلته قبل سفره “لذلك قررت الفرار”.

وتعرّف الديري بعد مغادرته البلاد على صورة ابن أخته المعتقل في سجون النظام، ضمن “صور قيصر”، وهي مجموعة تضم أكثر من 50 ألف صورة، توثق آلاف المعتقلين الذين قُتلوا في السجون التابعة للحكومة السورية.

وبعد مغادرته سوريا، بدأ الديري رحلة اللجوء من لبنان، مروراً بالجزائر، ومنها إلى ليبيا، ليركب البحر إلى إيطاليا، ومن ثم أكمل طريقه براً إلى الدنمارك، وتقدم بطلب لجوء في عام 2014. 

عندما وصل الديري إلى الدنمارك، كان عمره 50 عاماً، أي تجاوز سنّ التجنيد المحدد بين 18 و42 عاماً، لذلك حصل على لجوء سياسي من الدرجة الثانية، المعروف بالإقامة 7.2 بموجب قانون الأجانب الدنماركي، وهي تمنح بسبب الظروف العامة في سوريا، على عكس اللجوء السياسي من الدرجة الأولى 7.1 الذي يمنح على أساس لجوء فردي.

كان الديري سعيداً حينها “قدموا لي الحماية، وظننت أننا سننتهي من بشار الأسد ونظامه المجرم في غضون سنتين ونعود إلى بلادنا”، لذلك لم يفكّر بتفاصيل الإقامة، التي ستقلب حياته رأساً على عقب بعد سنوات من الاستقرار في الدنمارك.

في عام 2015، استقدم الديري زوجته وأبناءه الثلاثة عبر “لم شمل الأسرة”، وأسسوا حياة جديدة هناك. يتحدث الزوجان وأطفالهما الثلاثة، الذين تبلغ أعمارهم الآن 19 و16 و13 عاماً، اللغة الدنماركية بطلاقة.

وفي عام 2019، اشترى الديري وزوجته، التي كانت معلمة لمادة التاريخ في سوريا، مطعماً في الدنمارك، ولكن نتيجة الإغلاقات في عام 2020 بسبب تفشي فيروس كوفيد-19 تكبدت العائلة خسائر كبيرة، ما دفع الزوجة إلى البحث عن وظيفة في أحد المصانع.

الكابوس بالنسبة للديري، بدأ في شباط/ فبراير 2021، عندما ألغت سلطات الهجرة الدنماركية إقامته، وتأثر أفراد العائلة بالقرار، كونهم وصلوا إلى الدنمارك عبر معاملة “لم الشمل”. بعد قرار سحب الإقامة تقدمت زوجته وابنته بطلب لجوء جديد، لذلك هما حالياً غير مهددتان بالترحيل، على عكس الديري وابنه وابنته.

عندما اتخذت السلطات الدنماركية قرار الرفض النهائي، كان أطفالي قد أمضوا خمس سنوات وعشرة أشهر في المدارس الدنماركية

وفي أيار/ مايو 2021، أكد مجلس تظلم اللاجئين قرار إلغاء إقامة الديري، ووصل القرار النهائي قبل أن يصبح أبناؤه مؤهلين للبقاء في البلاد بموجب القانون الدنماركي، الذي يضمن حصول الأطفال الذين أتموا دراسة ست سنوات في الدنمارك على الإقامة تلقائياً.

“عندما اتخذت السلطات الدنماركية قرار الرفض النهائي، كان أطفالي قد أمضوا خمس سنوات وعشرة أشهر في المدارس الدنماركية. هل يمكنك تخيل ذلك؟ شهرين فقط!”، قال محمد بسخط.

وبموجب القرار، أمرته السلطات الدنماركية بالانتقال مع طفليه إلى مركز الترحيل، لكنه لم يتلق رسالة تؤكد ذلك، حتى لحظة نشر هذا التقرير، وقد تقدم الديري بطلب لإعادة النظر في قضيته، لكن على مدار الأشهر الثمانية الماضية لم يتلق رداً، وكأنه يعيش في طي النسيان.

ومع أن “مراكز الترحيل أشبه بالسجون”، على حدّ تعبير الديري، إلا أنه مستعد للذهاب وحده “لكن لماذا تعذيب الأطفال وإرسالهم إلى السجن؟. تمنيت لو يبقى ابني وابنتي في المنزل مع أمهما وأختهما، لكن السلطات الدنماركية رفضت”.

وتقع مراكز الترحيل في أماكن معزولة، كما لا يسمح للمقيمين فيها بالعمل أو الدراسة، ويخضعون لقواعد صارمة تحدّ من حرية تنقلهم، فعلى سبيل المثال، يُفرض على النزلاء المبيت يومياً في المركز، وإثبات وجودهم ثلاث مرات في الأسبوع عند مكتب الشرطة داخل المركز. 

الإكراه على العودة الطوعية!

تتناقض سياسة الدنمارك مع تقييمات مفوضية شؤون اللاجئين والاتحاد الأوروبي بشأن سوريا كدولة غير آمنة للعودة، واعتبرت نادية هاردمان، الباحثة في قسم حقوق اللاجئين والمهاجرين في منظمة هيومن رايتس ووتش أن “الدنمارك بلد غريب حقاً، يريد إرسال رسالة سياسية فقط”، مشيرة إلى أن ذلك “مخالف للالتزامات الدولية تجاه اللاجئين”.

إن حجر الزاوية في الحماية الدولية للاجئين هو مبدأ عدم الإعادة القسرية، الذي يمنع الدول من إعادة اللاجئ إلى بلد تتعرض فيه حياته أو حريته للتهديد.

وتصرّ الحكومة الدنماركية على أن عمليات العودة طوعية ، لكن الطابع “الطوعي” للعودة أمر قابل للنقاش ، خاصة أن اللاجئين الذين ألغيت إقاماتهم ملزمون بالإقامة في مراكز الترحيل إلى أجل غير مسمى.

“لا يمكنهم قانونياً أن يعيشوا حياة كريمة في الدنمارك، ما هي خياراتهم؟ هل يغادرون إلى دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي أم العودة طوعاً إلى سوريا؟” تساءلت هاردمان، في حديثها لـ”سوريا على طول”.

من جهته، أوضح توبي كادمان، المتخصص في القانون الدولي وأحد مؤسسي منظمة غيرنيكا (غرف العدل الدولية) في لندن، أن “هؤلاء الأفراد لم يعودوا طواعية. هذا هراء”، مشدداً في حديثه لـ”سوريا على طول” أن “ما تقوم به الدنمارك هو إجبارهم [اللاجئين] على العودة طواعية إلى سوريا”.

ومع أن الدنمارك لا تضع السوريين في طائرات وتنقلهم إلى دمشق، إلا أن الضغط الذي تمارسه على اللاجئين “هو بمثابة إعادة قسرية غير مباشرة”، بحسب ليزا بلينكينبيرج، كبيرة مستشاري منظمة العفو الدولية في الدنمارك، معتبرة أن “تعليق حياة السوريين في الدنمارك بشكل مفاجئ بعد أن كانوا يتمتعون بحقوق فيها يعدّ مشكلة كبيرة”.

الضغط غير المباشر على اللاجئين “قد يرقى إلى مستوى انتهاك الالتزام بعدم الإعادة القسرية”، وفقاً لهاردمان، محذرة من أن “الدنمارك ربما انتهكت هذا الالتزام بحكم دفع الناس إلى مراكز العودة”.

هربنا من النظام القاتل، وشاركنا في مظاهرات ضد النظام في الدنمارك، فكيف نعود الآن؟. إذا تم اعتقالنا فلن يكون لدينا ضمانات على حياتنا

وأضافت هاردمان: “لا تعيد الحكومة الدنماركية الناس إلى سوريا لأنهم يرفضون إبرام صفقة مع مرتكب جرائم ضد الإنسانية، ومع ذلك لا بأس [بالنسبة للدنمارك] في عودة أشخاص لطالما اعتبروا أنفسهم جزءاً من المجتمع الدنماركي!”. 

وكانت محكمة كوبلنز الألمانية، أدانت في كانون الثاني/ يناير الماضي، اثنين من المسؤولين السابقين في المخابرات السوريات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

ويمكن لذوي أي لاجئ سوري يعود إلى دمشق بعد أن فقد حق البقاء في الدنمارك، واختفى قسرياً أو قتل بعد عودته، أن ترفع دعوى ضد الدنمارك، وتطالب بتعويضات “بسبب موت هذا الشخص”، كما أوضح كادمان.

وفي هذا السياق، وثقت منظمات حقوقية انتهاكات وتجاوزات ارتكبتها الحكومة السورية بحق لاجئين عادوا إلى بلادهم. ففي تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أُبلغت منظمة هيومن رايتس ووتش عن 21 حالة اعتقال تعسفي، و13 حالة تعذيب، وخمس حالات قتل خارج نطاق القضاء بين العائدين. ووجدت منظمة العفو الدولية أن خمسة من العائدين لقوا حتفهم في مراكز احتجاز تابعة للدولة، وما يزال مصير 17 آخرين مجهولاً.

لا يحتاج محمد طارق الديري قراءة تقارير حول المخاطر التي يتعرض لها العائدون، بوصفه من عائلة تعرض عدد من أفرادها للاحتجاز في سوريا. “هربنا من النظام القاتل، وشاركنا في مظاهرات ضد النظام في الدنمارك، فكيف نعود الآن؟”، تساءل الديري مشدداً على أنه “إذا تم اعتقالنا فلن يكون لدينا ضمانات على حياتنا”.

ومنذ إلغاء إقامة الديري وزوجته وفقدان حقّ العمل، يعيشان في دوامة من الضغوط. “أنا متعب نفسياً، وأعاني من مرض السكري والكوليسترول وضغط الدم”، كما قال، مؤكداً أن أزمة الإقامة أسهمت بتدهور حالته الصحية.

وختم الديري حديثه “نتعرض لضغوط نفسية واقتصادية. لا نستطيع التنفس”. 

 

* ملاحظة المحرر: قدم عمار حمو، المشارك في كتابة هذا التقرير، شهادة إلى دائرة الهجرة الدنماركية، وتم استخدامها مع شهادات خبراء آخرين في تقرير “الهجرة” عام 2019 الذي اعتبر أن دمشق وريفها مناطق آمنة لعودة اللاجئين، ورداً على ذلك وقع لاحقاً بياناً مشتركاً يدين سياسة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

شارك هذا المقال