7 دقائق قراءة

غير قابل للتنفيذ (2): سوريون في الدنمارك بين النسيان في “مراكز الترحيل” أو الإكراه على المغادرة

إذا لم يغادر اللاجئون السوريون الذين فقدوا إقامتهم الدنمارك، سيجبرون على العيش إلى أجل غير مسمى في مراكز الترحيل، وأكثر المتضررين هم أولئك الذين لا يتعرضون لخطر التجنيد الإلزامي في سوريا: النساء والرجال الأكبر سناً.


بيروت وباريس- “مع دخولك إلى مركز الترحيل تشعر أنك لا شيء، منفي خارج الزمان والمكان”، بهذا الكلمات عبّرت أسماء الناطور، 51 عاماً، عن مشاعرها عند وصولها إلى مركز شيلسمارك (Sjælsmark).

كذلك “كان الوضع قاسياً، والمكان متسخاً”، قالت دلال حسين خليل، 62 عاماً، التي أرسلتها السلطات الدنماركية إلى نفس المركز، ونزلت فيه “بغرفة صغيرة مع زوجي، وكان الحمام مشتركاً بين مجموعة من النزلاء في الجناح”.

بعد فقدانهما حق “الحماية المؤقتة” في الدنمارك بسحب إقامتيهما، أُرسلت أسماء ودلال إلى مركز الترحيل (العودة)، وهما من بين 378 سورياً خسروا تصاريح إقامتهم، بعد أن صنفت السلطات الدنماركية، في العام 2019، دمشق وريفها مناطق آمنة للعودة، إذ يجبر من يرفض العودة إلى بلده بعد أن خسر إقامته على البقاء إلى أجل غير مسمى في مراكز الترحيل أو يذعن لقرار العودة.

ويقيم حالياً 20 سورياً في مراكز العودة، بعد أن خسروا إقاماتهم، وفقاً لدائرة الهجرة الدنماركية، هذه الأرقام تتبدل باستمرار، إذ بعد قضاء بضعة أيام هناك، يقرر الكثيرون الفرار إلى دولة ثالثة، بينما يعاد فتح ملف لجوء المحظوظين منهم.

وتتخوف ليزا بلينكينبيرج، كبيرة مستشاري منظمة العفو الدولية في الدنمارك، كما عبّرت في حديثها لـ”سوريا على طول” أن “يبقى هؤلاء السوريون في مراكز الترحيل لأشهر أو سنوات من دون إمكانية حصولهم على حق التعليم أو العمل أو الوصول الكامل إلى الخدمات الصحية”.

في المقابل، فإن إرسال اللاجئين إلى “مكان بعيد تماماً بعد أن كانت تربطهم روابط قوية بالمجتمع الدنماركي”، يعني أنه “لم يعد هناك وسيلة للمساهمة فيه”، وفقاً للباحثة في هيومن رايتس ووتش، نادية هردمان.

تحتفل دلال وعائلتها بتخرج ابنها محمود من المدرسة الثانوية في الدنمارك، حزيران/ يونيو 2021

هدم استقرار

في يوم جميل، وتحت سماء مشرقة، التقطت عائلة دلال صورة تذكارية أثناء احتفالها بتخرج ابنها محمود، البالغ من العمر 20 عاماً، من المدرسة الثانوية. ترتسم الفرحة على محيّا أفراد العائلة في الصورة، التي رفعوا فيها علم الثورة السورية، مزيناً بصورة عبد الباسط الساروت “حارس الثورة السورية”، كما يلقبه السوريون.

بعد مغادرة سوريا في عام 2012، بدَت حياة دلال وزوجها وسبعة من أبنائها مستقرة في مدينة ألبورغ (Aalborg)، “أبنائي في مدارسهم وأعمالهم. تعلموا جميعاً اللغة الدنماركية، ومحمود سيبدأ في أيلول القادم دراسة الطب البشري في الجامعة”، قالت دلال، مضيفة: “كنا سعداء للغاية في هذه البلاد”.

لكن في كانون الأول/ ديسمبر 2019، استدعت دائرة الهجرة الدنماركية عائلة دلال لإجراء مقابلة معها وإعادة تقييم حالتها، وبعد أسابيع قررت السلطات الدنماركية أن عودتها إلى سوريا مع زوجها آمنة من دون أبنائها، على اعتبار أن “الأبناء في سن التجنيد، والبنات متزوجات من سوريين في سجن التجنيد”، وفقاً لدلال.

اعترضت دلال وزوجها على القرار، لكن مجلس تظلم اللاجئين أيد قرار دائرة الهجرة، في آب/ أغسطس 2020، بذريعة أن “أمي وأبي كبار في السن ولا يوجد خطر على حياتهم في سوريا”، قال محمود.

أكملت أمه: “طلبوا مني مغادرة الدنمارك!. كيف لي أن أترك أبناء و9 أحفاد هنا؟!”. يعيش الابن الثامن لدلال في ألمانيا، ويمكنها مغادرة الدنمارك لطلب اللجوء هناك “لكنني لا أريد أن أعيش مع زوجي في ألمانيا ونترك عائلتنا الكبيرة هنا”. 

وتقدمت عائلة دلال بطلبين إلى السلطات الدنماركية لإعادة النظر في قضيتها، لكن جاء الرد بـ”الرفض”، وفي أيلول/ سبتمبر 2021، أرسلت دلال وزوجها إلى مركز الترحيل بشيلسمارك (Sjælsmark). وهو المكان الذي أرسلت إليه أسماء الناطور وزوجها أيضاً.

وتنحدر أسماء من محافظة درعا جنوب سوريا، لكنها عاشت في دمشق قبل مغادرتها سوريا، عام 2013، بحكم عمل زوجها عمر الناطور، الذي كان موظفاً في وزارة الزراعة، قبل أن يترك وظيفته من دون الحصول على إجازة، ما أدى إلى “صدور حكم بحقه في سوريا”، بحسب زوجته.

في عام 2014، شعرت عائلة أسماء بالأمان بعد وصولها إلى الدنمارك، وتعلموا جميعاً اللغة الدنماركية. افتتح الزوجان -عمر وأسماء- متجراً صغيراً لبيع المنتجات العربية “وكنا ندفع الضرائب للدولة مثل أي شخص دنماركي”، بحسب أسماء، واستكمل أبناؤها تعليمهم في المدارس الدنماركية، ويستعدون حالياً لدخول الجامعة.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، تلقت أسماء بريداً من دائرة الهجرة يفيد بأنه سيعاد النظر في قضيتهم، قالت أسماء “أخبرتنا السلطات الدنماركية أن دمشق آمنة، وأن هناك مستشفيات ومدارس مجانية، ويمكن أن نحصل على السكر والرز مجاناً عبر بطاقات الدعم!”. مستنكرة “تجاهلهم المخاطر الأمنية التي تهدد حياتنا، خاصة أن زوجي مطلوب لأنه ترك عمله في الوزارة من دون إجازة”.

مع ذلك، أيد مجلس تظلم اللاجئين قرار دائرة الهجرة بسحب إقامة أسماء وزوجها، الذي أصيب في هذه الأثناء بجلطة دماغية، “بسبب حالة الضغط والتوتر التي عشناها”، وفقاً لأسماء. وتم إرسالهم إلى مركز الترحيل في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، الذي تصفه أسماء بأنه “سجن”.

إقامة مفتوحة

يوجد في الدنمارك ثلاثة مراكز ترحيل، وهي: “شيلسمارك” (Sjælsmark)،  و”كياسهول غو” (Kærshovedgård)، وتتم إدارتهما من دائرة السجون والمراقبة الدنماركية، و”أفنستروب” (Avnstrup)، المخصص للعائلات التي لديها أطفال، ويديره الصليب الأحمر الدنماركي.


 

ويجبر غير المواطنين، ممن فقدوا حق الإقامة في الدنمارك ولم يغادروا الدنمارك، على الإقامة في مراكز الترحيل إلى أجل غير مسمى، في حالة فريدة من نوعها داخل دول الاتحاد الأوروبي.

وبحسب توجيهات الاتحاد الأوروبي الخاصة بالعودة، “تحدد فترة الاحتجاز القصوى قبل الترحيل بـ18 شهراً، لمواطني بلدان ثالثة مقيمين بشكل غير قانوني”، لكن الدنمارك تبقي اللاجئين المرفوضين في مراكز العودة من دون تحديد سقف زمني، لأنها تعتبرهم محتجزين.

واعتبر ممثل دائرة الهجرة أن “مراكز الترحيل هي مراكز مفتوحة، ولا يتم تقييد حركة السكان فعلياً”. لكن الحقيقة أن إدارة هذه المراكز تفرض قواعد معينة من شأنها تقييد حركة المقيمين فيها، من قبيل إلزامهم بالمبيت داخل المركز، مع السماح لمدة ليلتين كل أسبوعين، شريطة الحصول على موافقة مسبقة لأسباب وجيهة، مثل: الزيارات العائلية أو المرضية أو في أعياد الميلاد.

ويجبر نزلاء مراكز الترحيل على إثبات وجودهم لدى مكاتب الشرطة داخل المراكز ثلاث مرات في الأسبوع، وقد يودعون في السجن أربعة أشهر إذا تخلفوا عن ذلك.

من جهتها، أوضحت إيفا سينغر، رئيسة إدارة اللجوء التابعة للمجلس الدنماركي للاجئين، التي تقدم المشورة القانونية للاجئين، أن “الناس أحرار في المجيء والذهاب، لكن هناك قواعد يتعين الالتزام بها، من قبيل المبيت في المركز، وعدد المرات التي يجب إبلاغ الشرطة فيها أسبوعياً”، ومع أن “عدم التقيد بهذه القواعد قد ينتهي بالمخالف في السجن، لكن لا يمكن ظاهرياً النظر إلى هذه المراكز على أنها مراكز احتجاز”.

لا يتفق توبي كادمان، المتخصص في القانون الدولي، وأحد مؤسسي منظمة غيرنيكا (غرف العمل الدولية) في لندن، مع هذا الطرح، معتبراً أنه “من الصعب على السلطات الدنماركية أن تعترف بأنها تحتجز”، مضيفاً “ليس السياج أو كاميرا المراقبة هي التي تجعله نظاماً للاحتجاز، وإنما الظروف التي يتم احتجازهم فيها هناك”.

وبعيداً عن التعريف الرسمي لهذه المراكز، تتفق دلال وأسماء على أن مراكز الترحيل “أشبه بالسجن”، فالمركز “محاط بأسوار حديدية، وهناك كاميرات مراقبة، ويجب عليك إثبات وجودك عند الشرطة داخل المركز ثلاث مرات في الأسبوع”، قالت دلال.

إضافة إلى ذلك، لا يُسمح للأشخاص في مراكز العودة بالعمل أو الدراسة أو الطهي، تتذكر دلال قائلة “في الشهر الذي أقمت فيه بمركز الترحيل، فقدت وزني لأنني كنت بالكاد أتناول الطعام الذي يتم تقديمه، ولا يمكننا أن نطبخ”.

وأثناء فترة إقامتها في مركز “شيلسمارك”، قابلت دلال امرأة عراقية أمضت في المركز أربع سنوات، مشيرة أن “رؤية أشخاص محتجزون في مراكز الترحيل لسنوات أثر فينا”، وأضافت “هناك الكثير من الفلسطينيين والأفغان”.

وبدورها، شعرت أسماء بأن “المضايقات متعمدة من أجل الضغط علينا لمغادرة البلاد”، ورغم علمها بأن الممارسات تحمل رسالة مفادها “أنك لست مرغوباً في الدنمارك”، مع ذلك تتمسك بالبقاء “لأن أولادي هنا، ولا أريد الانتقال إلى بلد آخر وأبدأ من الصفر”.

عنف تعسفي

إن تصنيف الدنمارك لأجزاء من سوريا على أنها “آمنة” لعودة اللاجئين يؤثر بشكل خاص على اللاجئين الذين حصلوا على الحماية المؤقتة في الدنمارك بسبب الظروف العامة للحرب، المعروفة بـ”الإقامة 7.3″، خاصة “النساء اللاتي ليس لديهنّ طلب لجوء فردي، ومن تجاوز من الرجال سنّ 42 عاماً وليس لديهم طلب لجوء فردي”، بحسب سينغر، معتبرة أن هؤلاء “الأكثر تضرراً”.

ودحضت جماعات حقوق الإنسان فكرة أن عودة كبار السن والنساء إلى سوريا آمنة، وفي هذا السياق التقت منظمة العفو الدولية بالسلطات الدنماركية في أواخر عام 2021 لتشرح لهم أن “العنف في سوريا تعسفي، ولا يؤثر فقط على الرجال والشباب، ولكن أيضاً يطال النساء والفتيات”، وفقاُ لبلينكينبرج، معتبراً أن “الجميع مهددون بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في سوريا”.

إن جوهر سياسة العودة الدنماركية، في أن أجزاء من سوريا آمنة، يتعارض مع تقييم الاتحاد الأوروبي، وقد تم الطعن فيه. وقد خلص تقرير لمنظمة العفو الدولية، نشر في أيلول/ سبتمبر 2021 إلى وقوع “انتهاكات مروعة” ارتكبها ضباط المخابرات السورية بحق 66 عائداً، بينهم 13 طفلاً. ووثق الباحثون وفاة خمسة من العائدين في مراكز احتجاز تابعة للدولة، وما يزال مصير 17 آخرين مجهولاً، وفي ذلك تأكيد على أن “اللاجئين الذين يعودون إلى سوريا يواجهون خطراً حقيقياً”، بحسب مليني هاكنسون، مسؤولية التواصل في منظمة العفو الدولية في الدنمارك.

وبالمثل، نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وثقت فيه 21 حالة اعتقال واحتجاز تعسفي، و13 حالة تعذيب، وخمس حالات قتل خارج نطاق القضاء، إضافة إلى 17 حالة اختفاء قسري بين سوريين عادوا من لبنان والأردن بين عامي 2017 و2021.

ومنذ مطلع عام 2019 وحتى أواخر شباط/ فبراير 2022، “سجلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 9117 حالة اعتقال تعسفي واختفاء قسري، منها 4914 على يد النظام السوري”، بحسب ما ذكر لـ”سوريا على طول”، فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية، مبيناً أن “من بينهم 177 امرأة اعتقلت أو اختفت قسرياً على يد النظام”.

بصيص أمل

مؤخراً، أعيد فتح قضيتي أسماء ودلال، وتنتظران حالياً قرار الاستئناف بعد أن أمضتا قرابة شهرين في مركز ترحيل “شيلسمارك”.

وتقيم السيدتان حالياً في المراكز المخصصة لاستقبال اللاجئين الجدد، إلى حين صدور قرار القاضي، الذي سيحدد ما إذا كان بإمكانهما ممارسة حياتهما في الدنمارك من جديد، أو العودة إلى مراكز الترحيل. تتوقع دلال صدور قرارها خلال هذه الأيام. ورغم شعورها بأن “مراكز الاستقبال أفضل”، كونها تحصل على “بدل نقدي، ويمكن الطبخ فيه على عكس مركز الترحيل”، لكن هذا لا يعوض دلال “الإقامة بين أولادها بصفة رسمية”.

ومع أن مركز الاستقبال الذي تقيم فيه أسماء حالياً “ليس سيئاً”، لكن هذه “ليست الحياة المستقرة التي اعتدت أن أعيشها لمدة 7 سنوات مع أولادي وزوجي”، معبرة عن استيائها من فكرة أنها، حتى إن حصلت على الإقامة ستضطر “لإعادة تأسيس حياة جديدة، كأنني وصلت حديثاً”.

 

* ملاحظة المحرر: قدم عمار حمو، المشارك في كتابة هذا التقرير، شهادة إلى دائرة الهجرة الدنماركية، وتم استخدامها مع شهادات خبراء آخرين في تقرير “الهجرة” عام 2019 الذي اعتبر أن دمشق وريفها مناطق آمنة لعودة اللاجئين، ورداً على ذلك وقع لاحقاً بياناً مشتركاً يدين سياسة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

شارك هذا المقال