غير قابل للتنفيذ (3): بموجب “دبلن” السوريون الهاربون من الدنمارك يواجهون الترحيل مرتين
فر العشرات من السوريين الذين فقدوا الإقامة في الدنمارك وطلبوا اللجوء في بلدان أخرى في الاتحاد الأوروبي. ولكن بموجب اتفاقية دبلن، يعاد العديد منهم إلى الأراضي الدنماركية.
4 مارس 2022
بيروت وباريس- على خلفية إلغاء تصاريح الإقامة لمئات اللاجئين السوريين في الدنمارك، بذريعة أن دمشق وريفها منطقتين آمنتين للعودة، فرّ العشرات ممن خسروا إقاماتهم إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، ليتم إعادتهم إلى الدنمارك عملاً باتفاقية “دبلن”.
ومن بين هؤلاء، نادية أحمد المصري، 43 عاماً، التي تلقت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، تأكيداً من مجلس تظلم اللاجئين بإلغاء إقامتها، وتم إبلاغها، في نيسان/ أبريل 2021، بمغادرة الأراضي الدنماركية أو الانتقال إلى مركز الترحيل، فكان خيارها “السفر إلى هولندا”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، لكن السلطات الهولندية رحّلتها إلى الدنمارك الأسبوع الماضي.
نادية من محافظة درعا جنوب سوريا، ولكنها أقامت في العاصمة دمشق إلى أن غادرت البلاد في عام 2013، متجهة إلى مصر حيث أمضت ثلاث سنوات، ثم عبرت البحر الأبيض المتوسط مع أختها، وأكملت طريقها إلى الدنمارك حيث يقيم زوج أختها.
وفي عام 2017، حصلت نادية على وضع “الحماية المؤقتة” في الدنمارك، وأسست لحياة جديدة “تعلمت اللغة الدنماركية، وكونت صداقات مع دنماركيين وعرب، وعملت طيلة السنوات الثلاث الماضية في مطعم بكوبنهاغن”، كما “كنت أدفع الضرائب المترتبة عليّ”، بحسب قولها.
وفي عام 2019، بعد أن صنفت الدنمارك دمشق وريفها على أنهما آمنتين أمام عودة اللاجئين، أعادت السلطات الدنماركية فتح قضية نادية، وقررت أنه “لا يوجد عندي مبررات للخوف من عودتي إلى سوريا”، بحسب نادية.
“أنا من درعا، وامرأة بمفردي، كيف لا أخاف؟ على أي أساس دمشق آمنة وبشار الأسد ما زال موجوداً؟”. قالت نادية، معتبرة أن دمشق “آمنة للميليشيات الإيرانية وليست لي”.
الأسوأ من ذلك، كان ردّ السلطات الدنماركية على اعتراض نادية، حيث قدّمت حلاً لها بأن تسكن في ريف دمشق إذا كانت دمشق غير آمنة لها، وذكروا لها “تجربة نساء سوريات يعشن في سكن مشترك ويتقاسمن الأجرة. قالوا لي يمكنك أن تفعلي ذلك أيضاً”، وفقاً لنادية.
ومع أن السلطات الهولندية غير راضية عن سياسات الدنمارك تجاه اللاجئين، إلا أنهم أعادوا نادية إلى مركز استقبال اللاجئين في الدنمارك، يوم الجمعة الماضي. “هم غاضبون جداً، لأن العديد من المرفوضين يقصدون هولندا”، لكن “لو منحت هولندا حق اللجوء لسوريّ واحد قادم من الدنمارك ستضطر منح الجميع، وهي لا تريد أن تفتح هذا الباب”، هذا ما بررت به هولندا قرار ترحيلها إلى الدنمارك، بحسب نادية.
اختبار اتفاقية دبلن
بموجب اتفاقية دبلن، المعنية بتنظيم إجراءات طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي، تلتزم الدول الأعضاء في إعادة اللاجئين الذين تقدموا بطلب لجوء في دولة ثانية إلى الدولة التي حصلوا فيها أولاً على الحماية.
ولكن بالنظر إلى أن الدنمارك تجرد السوريين من تصاريح إقامتهم على أساس أن أجزاء من سوريا آمنة للعودة، وهي سياسة تتعارض مع موقف الاتحاد الأوروبي، فهل يمكن لأعضاء الاتحاد الأوروبي إعادة السوريين إلى الدنمارك؟!
وقالت مليني هاكنسون، مسؤولة التواصل في منظمة العفو الدولية في الدنمارك، “إننا نتابع بعناية سياسة ألمانيا، لأن بعض قرارات المحاكم المحلية فيها، تراعي أن السوريين قد لا يتمكنون من العودة إلى الدنمارك”، ويبدو أن الأحكام الألمانية استثناء حتى الآن.
من جهته، أوضح توبي كادمان، المتخصص في القانون الدولي أنه “لم يتم الطعن بعد” باتفاقية دبلن، مشدداً على “وجوب العمل على المطالبة بمنح [السوريين] الحماية الإنسانية أو اللجوء في دولة ثالثة بسبب الخطر عليهم في الدنمارك”
ولأن الدنمارك لا ترحّل السوريين فعلياً إلى بلادهم، قد يكون من الصعب تقديم طلب للحصول على اللجوء في دولة أخرى، إلا إذا تم اعتبار ضغط السلطات الدنماركية على اللاجئين المرفوضين بمثابة إعادة قسرية غير مباشرة، وقتها طلب اللجوء في دولة أخرى ضمن الاتحاد الأوروبي سيكون أكثر قوة.
حتى الآن، ألغت السلطات الدنماركية أو رفضت تمديد إقامة 378 سورياً، لكن “لا يجب أن يشعر الناس بالذعر ومغادرة الدنمارك حتى يحصلوا على قرار نهائي بالرفض”، قالت إيفا سينغر، رئيسة إدارة اللجوء التابعة للمجلس الدنماركي للاجئين، مشيرة إلى أن “مجلس التظلم يلغي نسبة مهمة من قرارات الرفض التي أمرت بها دائرة الهجرة”.
من ألمانيا إلى مركز الترحيل الدنماركي
انتظر هيثم الكردي، القرار النهائي لمجلس تظلم اللاجئين قبل أن يغادر الدنمارك، ومع صدور القرار بتأكيد إلغاء إقامته، في كانون الثاني/ يناير 2021، طلب الرجل البالغ من العمر 61 عاماً اللجوء في ألمانيا، ولكنّ السلطات هناك أعادته إلى الدنمارك.
في عام 2015، فرّ الكردي رفقة زوجته وأربعة أبناء من سوريا إلى تركيا، ليكمل طريقه إلى الدنمارك من دون عائلته، حيث يقيم ابنه الأكبر الذي غادر سوريا تجنباً للخدمة العسكرية، وكانت الخطة أن “أستقدم عائلتي إلى الدنمارك لاحقاً بموجب معاملة لمّ الشمل”، كما قال.
وعبّر الكردي عن أسفه لعدم اصطحاب زوجته وعائلته في رحلته إلى الدنمارك، لأنه بعد 7 سنوات على وداعهم لم يتمكن من استقدامهم، ويعيش مع أحد أبنائه “وباقي أفراد العائلة في تركيا”، وفقاً للكردي.
في عام 2019، أعادت السلطات الدنماركية تقييم ملف الكردي، من ضمن مئات الملفات، وكان قرار دائرة الهجرة عدم تجديد إقامته. يتذكر الكردي كلام المحقق الذي قال له: “هناك في دمشق بنزين وكهرباء وأدوية مجانية”. ردّ الكردي “أنا لم أهرب إلى الدنمارك بسبب المال أو الدواء، هربت من بشار الأسد، وإذا سقط بشار سأعود بنفسي من دون إجباري على ذلك”.
الكردي، من مواليد حيّ الصالحية الدمشقي، لكن منذ العام 2000 يسكن في بلدة الهامة غرب مدينة دمشق، وهي واحدة من البلدات التي تعرضت لقصف النظام بعد سيطرة المعارضة عليها، لذلك يخشى على سلامته في حال إعادته قسراً، خاصة أنه “مطلوب للفرع 40 التابع للمخابرات العامة في دمشق”، على حدّ قوله، كما أن “شقيقي وابن أخي قتلا على يد النظام”.
وبعد إعادته من ألمانيا إلى الدنمارك، في حزيران/ يونيو 2021، قضى ثلاثة أشهر في مركز استقبال اللاجئين، ليتم إرساله قبل ثمانية أشهر إلى مركز ترحيل “كياسهول غو” (Kærshovedgård)، الذي يبعد 350 كيلومتراً عن كوبنهاغن، حيث يعيش ابنه، وطلب الكردي من السلطات الدنماركية إرساله إلى مركز ترحيل قريب، لكن “القاضية قالت لي أنها لن تنقلني إلى مكان قريب من ابني حتى لا أزوره”.
لم يعاني الكردي من سوء الخدمات أو نظافة المرافق العامة في المركز، كما هو الحال في مراكز ترحيل أخرى، لكن “أقرب محطة قطار تبعد عن المركز 7 كيلومترات”، بحسب الكردي، الذي يمكنه قضاء ليلتين خارج المركز كل أسبوعين شريطة الحصول على موافقة مسبقة، لكن “الذهاب إلى منزل ابني يستغرق مني يوماً كاملاً، والعودة يوماً كذلك”، وفي حال تأخره عن العودة أو لم يلتزم بقوانين المركز قد يعاقب بالسجن.
ومع فقدانه حق البقاء في الدنمارك، خسر الكردي عمله في أحد المخابز، إذ يًمنع الشخص الذي فقد إقامته من مزاولة عمله أو استكمال تعليمه، إضافة إلى ذلك “لا أتلقى بدلاً نقدياً من الدولة”، كما قال.
كل الظروف المحيطة بالكردي أهون عليه من “أن يضعوني في المركز مع أشخاص مرتكبي جرائم ومروجي مخدرات”، في إشارة إلى حقيقة أن الدنمارك تودع الرعايا الأجانب، ممن لديهم سجلاً إجرامياً في مراكز الترحيل.
وأضاف الكردي: “مراكز الترحيل سجون، والقوانين صعبة جداً، أنت في مكان محاط بالحديد والأبواب”. في 9 شباط/ فبراير الماضي، أعيد فتح قضية الكردي، ولكنه ما يزال في مركز الترحيل ينتظر قرار القاضي.
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان
في نظام الهجرة الدنماركي، تكون الخطوة التالية للاجئين السوريين والمدافعين عنهم، بعد استنفاد خيارات الاستئناف، تقديم التماس إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR).
وفي عام 2021، رفع المجلس الدنماركي للاجئين قضية واحدة لسوريّ مرفوض إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، لكن المحكمة ذكرت أن “القضية غير مقبولة في الوقت الحالي”، لأنه “لا يوجد خطر مباشر بالإعادة القسرية”، لأن الدنمارك لا تقوم بترحيل السوريين قسراً، بحسب سينغر، وأضافت: “نحن ندرس كيفية رفع القضايا إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان”.
إن غرف العدل الدولية “غيرنيكا 37” مستعدة لتقديم القضايا إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فور حدوث عمليات إعادة قسرية، وفقاً لكادمان، الشريك المؤسس في المنظمة، كذلك “نتواصل مع المجموعات الدنماركية، وبما أننا نعتبر أن هناك خطراً حقيقياً، فسوف نتدخل لنقل القضية إلى ستراسبورغ”، بحسب قوله.
ولكن، من أجل رفع قضية أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان “يجب أن تثبت أن الإجراء ينتهك إحدى مواد الاتفاقية لحقوق الإنسان”، بحسب كادمان، مشيراً إلى أن “القانون المحلي [الدنماركي] يتعارض مع قانون الاتحاد الأوروبي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لذلك عليك أن تركز على أن سياسة [اللجوء] بأكملها غير قانونية”.
وسبق للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن أصدرت حكماً ضد سياسة اللجوء الدنماركية، ففي عام 2021، قضت المحكمة بأن السياسة الدنماركية المتمثلة في جعل اللاجئين ينتظرون ثلاث سنوات لتقديم طلب لم شمل الأسرة كانت غير قانونية، لأنها تنتهك المادة 8 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
وأمام اللاجئين السوريين المرفوضين خيار آخر، يتمثل في تقديم شكوى إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، لكن المشكلة وفقاً لكادمان “هي أن العملية بطيئة للغاية، ناهيك عن أنها ليست قراراً قضائياً، وإنما بمثابة توصية”.
هل جاء دور طرطوس واللاذقية؟
في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، نشرت السلطات الدنماركية عدة تقارير حول الوضع الأمني في اللاذقية وطرطوس، إضافة إلى تقرير عن اللاجئين الفلسطينيين من سكان دمشق. وعليه، حذرت نادية هاردمان، الباحثة في هيومن رايتس ووتش “من أن تكون السلطات الدنماركية تبحث وضع الفلسطينيين في المناطق التي تعتبرها آمنة بالفعل، وتضع أعينها على طرطوس واللاذقية”.
وأبلغت منظمة العفو الدولية في الدنمارك السلطات الدنماركية، في كانون الأول/ ديسمبر 2021، أن الأخيرة “أوردت عدة تصريحات غير دقيقة”، في تقاريرها الأخيرة. إذ زعمت السلطات الدنماركية أن السوريين “الذين لديهم مشاكل عسكرية وأمنية، يمكنهم تسوية أوضاعهم مع الحكومة السورية”، وانتقدت منظمة العفو الدولية في رسالتها ما وصفته بأنه “نهج لا يصدق”، محذرة من “عدم وجود ضمانات بأن موافقة السلطات السورية على تسوية الوضع ستحمي الأفراد من الاعتقال التعسفي”.
وبدورها، تضامنت منظمات مجتمع مدني دنماركية مع السوريين المتأثرين بسياسة العودة، وقد جمعت منظمة العفو 95000 توقيع احتجاجاً على هذه السياسة. أيضاً، نزل المتضامنون إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم، كما قالت هاكنسون، وقد بلغ عدد المظاهرات آنذاك 25 مظاهرة في 25 مدينة دنماركية.
وأضافت هاكنسون: “السوريون مندمجون بشكل جيد في المجتمع الدنماركي. إنه جار لشخص ما، وصديق في المدرسة لشخص ما”.
وتستضيف الدنمارك، التي يبلغ عدد سكانها 5.8 مليون نسمة، حوالي 35 ألف سوري، ومن أصل 378 لاجئاً سحبت تصاريح إقامتهم عاد خمسة فقط، بينما البقية عالقون في انتظار “مستقبل مجهول”، كما عبّرت نادية، التي تنتظر الآن في مركز الاستقبال لإعادة النظر في قضيتها.
وتتخوف نادية من رفض قضيتها مرة أخرى، ما يعني إرسالها إلى مركز الترحيل، وإلى أن يصدر القرار تقضي حياتها بظروف نفسية صعبة “أشعر أنني أعيش بلا هدف، وأعجز عن التفكير بما يجب أن أفعله إذا رُفضت مرة أخرى أو أين أذهب”.
* ملاحظة المحرر: قدم عمار حمو، المشارك في كتابة هذا التقرير، شهادة إلى دائرة الهجرة الدنماركية، وتم استخدامها مع شهادات خبراء آخرين في تقرير “الهجرة” عام 2019 الذي اعتبر أن دمشق وريفها مناطق آمنة لعودة اللاجئين، ورداً على ذلك وقع لاحقاً بياناً مشتركاً يدين سياسة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.