6 دقائق قراءة

في الذكرى السابعة لـ”كيماوي الغوطة”: أدلة دامغة وعدالة غائبة

"مسار العدالة بحاجة إلى رغبة سياسية من الدول أصحاب القرار والنفوذ في الشأن السوري، وهو ما لن يتحقق عبر مجلس الأمن بسبب تدخل روسيا واستخدامها "الفيتو" ضد قرارات أقل من تلك التي تسعى إلى تحقيق مسار العدالة".


20 أغسطس 2020

عمان- “لم أتخيل يوماً أن تعود الغوطة الشرقية لسيطرة مجرم ارتكب بحقها مئات المجازر، بما فيها مجزرة الكيماوي الشهيرة التي توقعت أن تكون سبب نهايته”. بهذه الكلمات عبّر المدرب في الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، محمد الحراكي، عن صدمته من واقع الغوطة في الذكرى السنوية السابعة لمجزرة الكيماوي التي نفذها نظام الأسد بحق سكان المنطقة المحاصرة آنذاك، في 21 آب/أغسطس 2013.

وإذا كان الحراكي، أحد الناجين من المجزرة، قادراً على الإدلاء بشهادته لـ”سوريا على طول” كونه صار مهجراً حالياً من الغوطة الشرقية، فإن مجرد استذكار مجزرة الكيماوي وغيرها من المجازر التي ارتكبتها القوات الحكومية يعد بالنسبة لآلاف الناجين الذين فضلوا البقاء في أرضهم بعد سيطرة دمشق على المنطقة في آذار/مارس 2018، “جريمة، وقد تهدد حياتنا”، كما قال أحد سكان الغوطة لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن اسمه.

مجزرة الكيماوي

ليلة الأربعاء، 21 آب/أغسطس 2013، تعرضت غوطتا دمشق الشرقية والغربية لقصف بأسلحة كيماوية، أودى بحياة 1127 مدنياً، منهم 107 أطفال و201 امرأة، إضافة إلى إصابة نحو 5935 آخرين. ورغم أن الهجوم هو واحد فقط من أصل 217 هجوماً نفذها النظام السوري بالأسلحة الكيماوية ضد المناطق الخارجة عن سيطرته حتى آب/أغسطس الحالي، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإنه يظل الهجوم الأكبر، ليس على مستوى سوريا بل العالم أجمع منذ دخول اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية حيز النفاذ في 29 نيسان/ أبريل 1997.

وقد استهدف النظام في هذا الهجوم، بنحو 10 صواريخ محملة بغاز السارين السام، عدداً من بلدات الغوطة الشرقية التي كانت خاضعة للحصار منذ نهاية 2012، أبرزها زملكا وعين ترما وكفربطنا وعربين، إضافة إلى مدينة معضمية الشام في الغوطة الغربية.

صورتان تظهران بقايا أحد الصواريخ المحملة بغاز السارين، التي استهدفت مدينة زملكا بالغوطة الشرقية، 22/ 8/ 2013 (مركز توثيق الانتهاكات)

وبالنسبة للمدرب الحراكي، فإن “مجزرة الكيماوي في زملكا [التي كانت أكثر المدن تضرراً بالهجوم] لا تُمحى من ذاكرتي وذاكرة كل من عاش الحدث. لكن أشد المشاهد قسوة أن ترى أطفالاً يلفظون آخر أنفاسهم اختناقاً وأنت عاجز عن مساعدتهم”. مستذكراً موقفاً كان دافعاً لاستكمال مساهمته في إنقاذ الضحايا رغم مشارفته على الانهيار. إذ بعد شعوره بتعب وإعياء شديدين “قررت الوصول إلى النقطة الطبية لإيصال عدد من المدنيين والتوقف عن العمل”. لكن أثناء ذلك، وفيما كان يضع طفلاً كان يحمله على الأرض “أمسك الطفل بيدي. فشعرت أنه يستنجد بي لأقوم بأي شيء يجعله يتنفس، ولم يكن في اليدّ حيلة. هذا الموقف دفعني إلى البكاء، كما أعطاني أيضاً قوة غريبة لأواصل عملي”. وبعد ساعة أخرى من العمل، انهار الحراكي، كما يستذكر، “أمام النقطة الطبية، فلم أعد قادراً على المواصلة”.

أطفال قضوا نتيجة الهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية ممددين على أرض أحد المنازل، 22/ 8/ 2013 (مركز توثيق الانتهاكات)

ونظراً لعدد المصابين الكبير مقابل ضعف الإمكانات الطبية في المنطقة، “تم نقل عشرات المصابين إلى مدن وبلدات الغوطة الشرقية الأخرى، بما فيها مدينة دوما التي امتلأت نقاطها الطبية بالمصابين”، بحسب ما قال لـ”سوريا على طول”، من مكان إقامته حالياً في فرنسا، الناشط الإعلامي هيثم بكار الذين كان موجوداً في الغوطة الشرقية وقت المجزرة، وأدلى بشهادته لاحقاً أمام هيئات حقوقية. مضيفاً أن “غالبية المصابين الذين وصلوا إلى دوما كانوا قد فارقوا الحياة”.

بين أوباما ومحاكمة الحريري

عشية الذكرى السابعة لمجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، أدانت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، سليم عياش، أحد أعضاء حزب الله اللبناني الأربعة المتهمين باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في بيروت، في شباط/فبراير 2005، بسيارة مفخخة.

ورغم أن محاكمة الحريري غير مرتبطة مباشرة بـ”مجزرة كيماوي الغوطة”، فإنها تقدم مع ذلك مؤشراً بشأن مساءلة نظام الأسد وحلفائه عما ارتكبوه من مجازر بحق السوريين. ذلك أن إدانة عياش من دون إثبات مسؤولية حزب الله ونظام الأسد، المتهمين الرئيسين باغتيال الحريري، “يعزز المخاوف الموجودة أساساً من تحويل القضايا إلى قضايا ضد أفراد وليس ضد أجهزة وحكومات وأنظمة تقود عمليات وجرائم بشكل ممنهج”، كما قال لـ”سوريا على طول” مدير المناصرة والسياسات في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، د. محمد كتوب.

يتعزز ذلك مع الموقف الفعلي لإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما من مجزرة الغوطة. إذ رغم تحذيره نظام الأسد من أن استخدام الأسلحة الكيماوية “خط أحمر ستكون له عواقب”، فقد كان أقصى ما فعله أوباما إبرام اتفاق مع روسيا لنزع سلاح النظام الكيماوي. وهو ما عنى إطلاق يد الأسد وحلفائه باستهداف السوريين بكل سلاح متاح غير كيماوي. وليثبت لاحقاً أيضاً عدم التزام روسيا والأسد بالاتفاق، ومواصلة شن هجمات كيماوية، موثق بعضها من منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، ضد مناطق المعارضة.

مع ذلك، فإن وجود تقارير وأدلة وبيانات وتحقيقات أجرتها لجان دولية، من قبيل بعثة تقصي الحقائق الخاصة بمنظمة الأسلحة الكيماوية، “أشارت بأصابع الاتهام إلى النظام السوري، تؤكد أن الجريمة لم يعد بالإمكان إنكارها”، بحسب د. كتوب. مستدركاً بأن “مسار العدالة بحاجة إلى رغبة سياسية من الدول أصحاب القرار والنفوذ في الشأن السوري، وهو ما لن يتحقق عبر مجلس الأمن بسبب تدخل روسيا المستمر واستخدامها “الفيتو” ضد قرارات أقل من تلك التي تسعى إلى تحقيق مسار العدالة ومحاسبة المجرمين في سوريا”.

الأمر ذاته أكد عليه عبد الرحمن دباس، من مركز توثيق الانتهاكات في سوريا (VDC)، وهو البرنامج المسؤول عن التوثيق في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير (SCM). إذ إن “كل ما لدينا من صور وأدلة وشهادات [على مجزرة الكيماوي] متاح لأي تحرك دولي نحو العدالة”، كما قال دباس لـ”سوريا على طول”، لكن “حتى اليوم لا يوجد تحرك دولي من قبل لجان تحقيق دولية لتحديد الفاعلين وإدانتهم في هذه الجريمة بالذات”.

ووفقاً لدباس، فإن فريق مركز توثيق الانتهاكات كان متواجداً في الغوطة الشرقية وقت المجزرة، حيث أجرى زيارات ميدانية للمناطق المستهدفة، “وقمنا بتصوير الصواريخ المحملة بالغاز التي سقطت”. كما “زرنا عدة أماكن كانت فيها حيوانات نافقة نتيجة الاستهداف، بالإضافة إلى شهادات ذوي الضحايا والناجين والأطباء ومسؤولي الدفن”.

مقبرة جماعية لدفن الضحايا الذين سقطوا في استهداف القوات الحكومية لمدينة زملكا في الغوطة الشرقية بالكيماوي، 21/8/2013 (مركز توثيق الانتهاكات)

ورغم أن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، حمّلت النظام السوري، في تموز/يوليو الماضي، المسؤولية عن شن هجمات بغازي السارين والكلور على بلدة اللطامنة بريف حماة الشمالي العام 2017، فإنها “لم تجر أي تحقيق حول هذه الحادثة بالذات”، كما ذكر دباس. هذا عدا عن “بعض الحوادث الأخرى التي تم إثبات تورط الحكومة السورية فيها بشكل واضح، ما زال التحرك بشأنها ضمن الأروقة الدبلوماسية من دون خطوات جدية نحو العدالة”.

إنكار بعد القتل

بالتوازي مع سعي منظمات حقوق إنسان سورية إلى تحقيق العدالة لضحايا الغوطة وسواها، بما في ذلك محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا، أطلق ناشطون سوريون بينهم ناجون من مجزرة كيماوي الغوطة الشرقية حملة “لا تخنقوا الحقيقة“، بهدف مواجهة “البروباغاندا المضادة التي تتفاقم وبدأت تصل إلى مسامع السوريين”، كما قال د. كتوب أحد المشاركين في الحملة. لافتاً إلى أن “الحكومة السورية وحلفاءها، لاسيما الروس، يطلقون بروباغاندا تجاه استخدام السلاح الكيماوي. ورغم أن التقارير الحقوقية التي أصدرتها الجهات الدولية تثبت الجرائم بشكل محكم، فإن الحملات المضادة، وغالبيتها إعلامية أو صادرة عن مراكز أبحاث، بدأت تحدث ضجيجاً. لذلك وجب تفنيدها”.

ومع حالة الإحباط التي يعيشها سوريون إزاء تحقيق العدالة في بلادهم، رأى الناشط الإعلامي بكار، المشارك أيضاً في حملة “لا تخنقوا الحقيقة”، أن “كل الناجين وشهود العيان والمؤسسات المعنية بحقوق الإنسان يتحملون مسؤولية الإدلاء بشهاداتهم وعدم الصمت، بغض النظر عما إذا كان المجتمع الدولي سيحاسب المجرمين أم لا”. مشدداً على ضرورة تغيير السوريين مفهوم “ما الفائدة من المحاكم الدولية؟ وماذا قدم العالم لنا؟”. إذ “يجب أن نستخدم أي منبر لإيصال صوتنا وفضح النظام”، كما قال. 

لكن بالنسبة للحراكي فإن “الأدلة والوثائق التي جمعت من المجازر كفيلة بإعدام المجرم من سنوات”. ولذلك “لم يعد عندنا ثقة بتحقيق العدالة. بالنسبة لي لا أعول شخصياً على المجتمع الدولي ولا المحكمة الجنائية الدولية”. 

شارك هذا المقال