في مرحلة انتقالية حرجة: العقوبات تقف عقبة أمام تعافي سوريا
بعد سقوط نظام الأسد، تشهد سوريا لحظة حاسمة في تاريخها، لكنها ما تزال مكبلة بالعقوبات الدولية. ومع شروع السوريين في رحلة شاقة لإعادة الإعمار، يبرز السؤال المُلِح: هل يجب رفع هذه العقوبات؟
17 يناير 2025
مرسيليا- وسط موجة من الحماسة والفرح، سارع آلاف السوريين النازحين إلى ديارهم بعد سقوط نظام الأسد، قبل ستة أسابيع تقريباً، لكن ما وجدوه كان صادماً: مدنٌ مدمرة، منازل سُويّت بالأرض أو تعرضت لأضرار جسيمة، ومجتمعات تعاني من غياب الخدمات الأساسية.
إن الموارد اللازمة لعودة السوريين إلى وطنهم وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، خلال 14 عاماً من الثورة والصراع، هائلة. ولا تزال العقوبات الدولية، التي استهدفت نظام الأسد، تشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق ذلك.
تخضع سوريا للعقوبات الدولية منذ 45 عاماً، ما يجعلها واحدة من أكثر الدول تعرضاً للعقوبات في العالم. وفي عام 2011، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات إضافية، رداً على القمع الوحشي الذي مارسه بشار الأسد ضد المشاركين في الثورة الشعبية.
على مدار سنوات، تزايدت العقوبات الأميركية تدريجياً، إلى أن بلغت ذروتها في عام 2019 بإقرار قانون قيصر، الذي استهدف شخصيات مرتبطة بالنظام، وقطاعات اقتصادية، ومؤسسات مالية، كما شمل القانون أطرافاً ثالثة، حال عدم التزامها بالعقوبات. وفي الشهر الماضي، مدد الرئيس جو بايدن العمل بالقانون لمدة خمس سنوات إضافية.
انتهى حكم الأسد، الذي استهدفته العقوبات الدولية، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، بعد هجوم خاطف استمر 11 يوماً فقط، قادته هيئة تحرير الشام بمشاركة فصائل المعارضة. فرّ بشار الأسد من البلاد، وأصبح زعيم الهيئة، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) القائد الفعلي للدولة، وعين بدوره حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال حتى آذار/ مارس من هذا العام.
رحل الأسد، لكن العقوبات ما تزال مفروضة على سوريا، باستثناء إعفاء جزئي من العقوبات أصدرته الولايات المتحدة هذا الشهر، وهي خطوة غير كافية، بحسب خبراء والسلطات المحلية في دمشق، كونها مؤقتة ولا تشمل الاستثمارات الخاصة اللازمة للتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار.
أما الاتحاد الأوروبي، لم يخفف العقوبات حتى الآن، رغم دعوات من بعض الدول الأعضاء لتعليقها مؤقتاً في قطاعات النقل والطاقة والمصارف.
تأثير العقوبات
رغم أن العقوبات لا تستهدف مباشرة قطاعات الصحة والتعليم والزراعة والسكن والمياه والصرف الصحي، إلا أنها تؤثر عليها بشكل غير مباشر، وفقاً لدراسة أجرتها الأمم المتحدة عام 2024. تزيد العقوبات من صعوبة استيراد هذه القطاعات للسلع والمعدات اللازمة، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى نقص في الإمدادات، أو انخفاض في جودتها، أو ارتفاع تكلفتها، ناهيك عن أن العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة تسبب نقصاً في الوقود ما يؤثر على جميع القطاعات الخدمية.
وتترك العقوبات أيضاً آثاراً كارثية على الاقتصاد والتجارة، إذ إن “أقوى تأثير لها يتمثل في الحد من الاستثمارات في القطاع الخاص”، كما أوضح الخبير الاقتصادي السوري كرم شعار، لافتاً إلى أن العقوبات “تحد من تدفق الأموال من الخارج بسبب العقوبات القطاعية المفروضة على القطاع المصرفي”، ما يجعل التجارة “أكثر صعوبة”. الإعفاء الجزئي الأخير للعقوبات الأميركية لم يشمل رفع العقوبات عن هذين القطاعين باستثناء التحويلات المصرفية غير التجارية.
الإعفاءات الأميركية من العقوبات “محدودة جداً في نطاقها”، بحسب شعار، الذي أوضح أنها “تركز أساساً على الاستثناءات الإنسانية”، وللمرة الأولى تسمح بتمويل المؤسسات الحكومية السورية. تشمل القطاعات المستثناة الكهرباء والنفط، وهما قطاعين مهمين لتوفير الخدمات الأساسية.
في بلد تنهار فيه الخدمات العامة، يعد هذا الإعفاء بمثابة متنفس ضروري، إذ تزود المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء (الحكومية) معظم المناطق في سوريا بالكهرباء لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً فقط، بينما أعلنت الحكومة الجديدة عن خطط لزيادة المدة إلى ثماني ساعات خلال الشهرين المقبلين بدعم من تركيا وقطر.
لكن الإعفاء لا يسمح بـ”الاستثمار بشكل عام، سواء من قبل القطاع الخاص أو الدول التي تسعى إلى تقديم مساعدات لإعادة الإعمار”، وفقاُ لشعار. قدّر تقييم أجراه البنك الدولي، عام 2022، الأضرار في المدن الرئيسية السورية بما يتراوح بين 8.7 و11.4 مليار دولار.
ومع “ضرورة” الإعفاء الأميركي إلا أنه “بعيد عن أن يكون كافياً” بصورته الحالية، لافتاً إلى أن “ما فعلته الإدارة [الأميركية] الحالية هو أقصى ما يمكنها القيام به دون تقييد حركة الإدارة المقبلة” برئاسة دونالد ترامب، الذي يستعد لتولي منصبه هذا الشهر.
حتى المعاملات التي لا تخضع للعقوبات غالباً ما تتعطل بسبب الإفراط في الالتزام بها، بحسب الخبير السوري في مجال المناصرة للاستجابة الإنسانية، الدكتور محمد كتوب، موضحاً لـ”سوريا على طول” أن الجهات الفاعلة في جميع القطاعات، بما في ذلك المنظمات الإغاثية، توسع نطاق تطبيق العقوبات إلى ما يتجاوز المطلوب قانونياً، نتيجة تعقيدها والخوف من العواقب.
وأضاف كتوب أن “القطاع الخاص الدولي والشركات والبنوك يمارسون الكثير من الإفراط في الالتزام، ما يجعل أي معامل للسوريين -سواء داخل البلاد أو خارجها- غاية في التعقيد”.
بالنسبة للقطاع الإنساني، يعني هذا المزيد من التدقيق والمراقبة والإبلاغ، وهو ما يتسبب في “التأخير والحاجة إلى قدرة إدارية أكبر”، بحسب كتوب. ونتيجة لذلك، ترتفع تكاليف التشغيل بالنسبة للمنظمات الإنسانية التي تعمل بموارد محدودة نظراً لتراجع التمويل المستمر.
“العقوبات من شأنها أن تمنع تعافي اقتصادنا وأن تبقي البلاد معتمدة على المساعدات الخارجية”، قال كتوب. بتمويل قطاع المساعدات فقط يتم تهميش الدولة وإبقاؤها ضعيفة، فيما تترك الخدمات الحيوية -مثل التعليم، الصحة، المياه والصرف الصحي- للمنظمات الإنسانية، كما هو الحال منذ فترة طويلة.
قال إياد نجار، مدير العلاقات العامة في وزارة الاقتصاد بحكومة تصريف الأعمال لـ”سوريا على طول”: “مع زوال نظام الأسد، الذي كان السبب الرئيسي في فرض هذه العقوبات، بات من الضروري رفع العقوبات بشكل كامل لإعطاء فرصة حقيقية للسوريين ببناء وطنهم وتحقيق الاستقرار والتنمية”.
وتوقع نجار أن يسهم الإعفاء الأميركي “في تسهيل تدفق السلع والخدمات الأساسية”، ومع ذلك “سيظل تأثير هذه الخطوة محدوداً نظراً للطبيعة المؤقتة للترخيص”. إن عمليات الشراء قد تستغرق أشهراً أو حتى سنوات، خاصة في مجالات البنية التحتية، ما يعني أن الإعفاء قد يمنع التجار من الوفاء بالتزاماتهم إذا لم يتمتعوا برؤية طويلة الأمد.
العقوبات كأداة ضغط
فرضت العقوبات على سوريا في البداية لانتزاع تنازلات من نظام الأسد، لكنها استخدمت كأداة لتحقيق أهداف أخرى خلال الأسابيع الأخيرة.
قالت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الأحد الماضي، أن وزراء الخارجية الأوروبيون سوف يجتمعون في 27 كانون الثاني/ يناير الحالي لمناقشة تخفيف العقوبات، مشيرة إلى أن أي قرار سيكون مشروطًا بضمان “عدم وجود تطرف”، ودمج النساء و”المجموعات المختلفة”، في إشارة إلى الأقليات الدينية والعرقية في سوريا.
أما الولايات المتحدة لم تفصح -علناً- عن الشروط التي يجب على دمشق الالتزام بها لرفع العقوبات بشكل كامل.
“أنا ضد العقوبات الاقتصادية على بلدي. هذا كان موقفي سابقاً، وما زال كذلك”، قال الدكتور كتوب، وهذا لا ينفي دعمه للعقوبات المستهدفة ضد شخصيات النظام والمتورطين في جرائم الحرب، لكن المشكلة أن “الدول التي تفرض العقوبات [القطاعية] تستخدمها كأداة سياسية بدلاً من أن تكون أداة للمساءلة”، وفقاً له.
من جانبه، وصف المحامي السوري والناشط في مجال حقوق الإنسان، أنور البني، العقوبات المفروضة على نظام الأسد بـ”الممتازة” معتبراً أنها أسهمت في إسقاطه. ومع ذلك، ذهب إلى ما قاله كتوب بأن العقوبات يجب أن تُرفع حالياً.
ومع أنه “لا يمكن القول أن هناك حكومة شرعية تمثل جميع السوريين، ومع ذلك هناك الهواجس الرئيسية الآن هي الوضع المعيشي والاقتصادي، وإذا لم يتم التعامل معه سريعاً فسوف يؤثر على أمن البلاد”، كما أوضح البني لـ”سوريا على طول”.
وشدد البني على ضرورة التعامل مع سوريا كما تم التعامل مع قبل مع لبنان، أي لا يجب أن تبقى سوريا تحت وطأة العقوبات بسبب المخاوف الغربية من هيئة تحرير الشام، مشيراً إلى أن “حزب الله على قائمة التنظيمات الإرهابية، وكان جزءاً من الحكومة اللبنانية، ومع ذلك لم يتم فرض عقوبات على لبنان بأكمله بسبب حزب الله”.
ورأى البني أن هناك طرقاً أخرى غير العقوبات يمكن أن تمارس بها الدول ضغطاً دولياً، مثل تعليق الاعتراف الدولي بسوريا عبر ربط عضويتها في الأمم المتحدة بتشكيل حكومة انتقالية شاملة.
ورغم ذلك، ذهب البني إلى أن العقوبات الاقتصادية والمالية يجب أن تُرفع بالكامل فقط عند تشكيل حكومة انتقالية “بدعم من جميع السوريين”، واصفاً الحكومة الحالية بأنها “مؤقتة وصلت إلى السلطة بحكم السيطرة العسكرية، وليس بحكم تمثيلها للشعب السوري”.
وفيما يتعلق بالانتخابات، لم توضح وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، في تصريحاتها ما إذا كانت ألمانيا ترى أن “الإدارة السورية الجديدة” التي “تشمل الجميع وتنعم بالسلام” لا بد أن تكون منتخبة ديمقراطياً أم لا. في تصريح سابق لأحمد الشرع (الجولاني) قال أن إجراء الانتخابات قد يستغرق أربع سنوات تقريباً.
“من المستحيل إجراء انتخابات الآن. حالياً يمكنك شراء العدد الأكبر من الأصوات بسلة غذائية”، بحسب المحامي البني، لذا “يجب السماح للناس بالراحة قليلاً، بالأكل، بمناقشة السياسة، وبالحديث عن الأحزاب”.
وعلى غرار البني وكتوب، رأى كرم شعّار أنه يجب رفع العقوبات التي تستهدف القطاعات الاقتصادية، لأنها فرضت بناءً على “ممارسات لم تعد قائمة.” ومع ذلك، يعتقد أنه يجب الإبقاء على العقوبات المفروضة على شخصيات النظام، لضمان أن الأموال التي سرقوها تعود “ولو جزئياً إلى الشعب السوري”.
أما بالنسبة للعقوبات المفروضة على هيئة تحرير الشام، فالمسألة أكثر تعقيداً، بحسب شعار، لافتاً إلى أن “عقوبات مكافحة الإرهاب تُطبق بصرامة أكبر، كما أنها معقدة للغاية”، وأشار إلى أن الهيئة، التي تُعد الآن القوة الرئيسية في إدارة العمليات العسكرية المسيطرة على معظم الأراضي السورية مصنفة كمنظمة إرهابية من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، كونها كانت تابعة سابقًا لتنظيم القاعدة.
رفع هذه العقوبات يجب أن يكون “مشروطًا بوعود من الحكومة المؤقتة بالالتزام بمعايير التشاركية، والانتقال الديمقراطي، والاستمرار في إدانة تاريخ الجماعة الإرهابي”، بحسب شعار، وبالتالي “يمكن رفع العقوبات بشكل دائم لاحقاً إذا أوفت بوعودها”.