قطع الدعم الغذائي عن ملايين السوريين: أزمة الاستجابة بنيوية تتعلق بغياب “الحلول المستدامة”
يعاني ملايين السوريين من آفة الجوع، لاسيما مع إيقاف جميع المساعدات الغذائية العينية التي يقدمها برنامج الأغذية العالمي هذا الشهر، ويرجع ذلك جزئياً إلى تخفيض التمويل الأمريكي. ومن المتوقع تخفيض المساعدات الأمريكية بنسبة تصل إلى 50 بالمئة في جميع القطاعات الإنسانية في عام 2024، وفق مصادر إنسانية رفيعة المستوى.
16 يناير 2024
مرسيليا- فقد ملايين السوريين شريان حياتهم هذا الشهر، بعد تعليق برنامج الأغذية العالمي لجميع المساعدات الغذائية العينية في أنحاء سوريا بسبب العجز غير المسبوق في الميزانية، ويعود ذلك إلى حد كبير لخفض حكومة الولايات المتحدة تمويلها، كما قالت مصادر رفيعة المستوى عاملة في المجال الإنساني لـ”سوريا على طول”.
لا ينحصر دعم الوكالة الأمريكية للمساعدات الدولية (USAID)، من خلال مكتب المساعدة الإنسانية (BHA) التابع لها على برامج الأمم المتحدة مثل برنامج الأغذية العالمي، بل إنها تمول أيضاً المنظمات غير الحكومية في سوريا بشكل مباشر.
ومن المتوقع في هذا العام أن يُخفِّض مكتب BHA تمويله للعديد من البرامج بنسبة تصل إلى 50 بالمئة في جميع القطاعات الإنسانية، بحسب مصدرين رفيعي المستوى في المجال الإنساني في شمال شرق سوريا.
“لا شك أن لغزة تأثير على سوريا”، قال مصدر عامل في المجال الإنساني، في إشارة إلى الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب الإسرائيلية في غزة. وأشار المصدر الآخر إلى أن التخفيضات متوقعة “في جميع القطاعات [الإنسانية]”، بما في ذلك “النشاطات القائمة في المخيمات”، باستثناء مخيم الهول الذي يضم عائلات مقاتلي تنظيم “داعش”.
يعتمد برنامج الأغذية العالمي في تمويله على الحكومات في المقام الأول، إلى جانب التبرعات الخاصة. أسهمت الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الجهة المانحة الأكبر لبرنامج الأغذية العالمي، بنحو 207 مليون دولار في عام 2024 حتى تاريخ 15 يناير/كانون الثاني، وقدمت في عام 2023، ثلاثة مليارات دولار، بعد أن كان 7.2 مليار دولار في عام 2022.
وأسهمت ألمانيا، ثاني أكبر جهة مانحة، بمبلغ 127 مليون دولار في هذا العام حتى الآن، و1.3 مليار دولار في عام 2023، ومبلغ 1.8 مليار دولار في عام 2022.
وفقاً لخطة إدارة برنامج الأغذية العالمي خلال 2024-2026 الصادرة في أواخر عام 2023، توقع البرنامج التابع للأمم المتحدة أن يتلقى عشرة مليارات دولار في عام 2024، بينما يحتاج 22.7 مليار دولار لتلبية المتطلبات التشغيلية.
وفي سوريا، حتى قبل تقليص التمويل الأخير لبرنامج الأغذية العالمي، “لم يكن مستوى المساعدات يتماشى مع حجم الاحتياجات”، كما قال سليم الجرك، مدير القسم الإعلامي في منظمة شفق، إحدى الشركاء المنفذين لبرنامج الأغذية العالمي، مضيفاً في حديثه لـ”سوريا على طول”: “وعليه، إذا تناقصت المساعدات، سيتفاقم الوضع الإنساني الصعب، وسيزداد عدد الأشخاص الذي يعيشون تحت خط الفقر”. يُذكر أنَّ 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر.
ويشكل التمويل الأمريكي المباشر للمنظمات غير الحكومية العاملة في سوريا تحدياً صارخاً آخر. في مناطق سيطرة المعارضة، شمال غرب سوريا، الذي يضم أكثر من أربعة ملايين شخص نصفهم نازحون، فإن الولايات المتحدة هي الجهة المانحة الأكبر لتقديم الخدمات، كما أوضحت نيكول هارك، مديرة مكتب سوريا في منظمة ميرسي كور لـ”سوريا على طول”.
“أصبح التعايش صعباً جداً”
بالنسبة للسيدة ليلى، 41 عاماً، التي تعيش مع أطفالها الستة في شمال غرب سوريا، كان فقدان المعونة الغذائية المقدمة من برنامج الأغذية العالمي الضربة الأخيرة في سلسلة من الضربات على مدار سنوات.
في بادئ الأمر، هُجِّرت من موطنها الأصلي في حماة إلى محافظة إدلب، ثم تدمر منزلها في ناحية جنديرس التابعة لعفرين بفعل الزلزال، الذي ضرب سوريا وتركيا في السادس من شباط/ فبراير 2023، ما اضطرهم إلى النزوح مرة أخرى، ولكن إلى أحد المخيمات.
“أصبح التعايش صعباً جداً” قالت ليلى لـ”سوريا على طول”، وزاد من معاناة العائلةا أن زوجها المصاب بالتهاب الكبد (ب) لم يتمكن من العمل منذ أربع سنوات. وفي كل مرة تُخفَّض فيها المساعدات، تغرق العائلة في مزيد من الديون لسد احتياجات معيشتهم الأساسية.
في تموز/ يوليو 2023، فقد نحو 45 بالمئة من السوريين البالغ عددهم 5.5 مليون نسمة، نصيبهم من المساعدات الغذائية المقدمة من برنامج الأغذية العالمي. بقيت عائلة ليلى من بين المستفيدين من المساعدات، ولكن مرة واحدة كل شهرين بدلاً من مرة في الشهر. وفي كانون الثاني/ يناير الحالي، قُطِع الدعم كلياً عن 3.2 مليون كانوا ما يزالون يتلقون المساعدات بعد شهر تموز/ يوليو عائلة ليلى من بينهم.
وجاء هذا بعد تخفيض برنامج الأغذية العالمي مساعداته الغذائية للسوريين داخل سوريا وفي دول الجوار ودول أخرى في جميع أنحاء العالم مراراً في الأشهر الأخيرة.
يعاني البرنامج الغذائي التابع للأمم المتحدة في عام 2024 من عجز تمويلًي غير مسبوق تصل نسبته إلى 60 بالمئة، بسبب زيادة الاحتياجات وتناقص المساهمات، وكان في عام 2023 قد أمن أقل من نصف المبلغ اللازم لتمويل عملياته العالمية البالغ 23.5 مليار دولار.
“ليت المساعدات ترجع للناس المهجرين الذين أجبروا على مغادرة منازلهم إلى المخيمات… نتمنى أن ترجع حتى نعيش” قالت ليلى بحسرة، كون عائلتها تعتمد اعتماداً كلياً على المساعدات الغذائية لتأمين لقمة العيش، حتى أنهم يبيعون قسماً منها لشراء الخبز والدواء والأغذية الأخرى غير المتضمنة فيها.
بحسب تقديرات برنامج الأغذية العالمي فإن 12.9 مليون سورياً، أي أكثر من نصف السوريين سيعانون من آفة الجوع هذا العام، بالإضافة إلى تعرض 2.6 مليون شخص آخرين لخطر الوقوع في دائرة انعدام الأمن الغذائي.
وتوقع مصدر إنساني مشارك في عملية إيصال مساعدات برنامج الأغذية العالمي عبر الحدود، طلب عدم الكشف عن اسمه، بإمكانية استئناف المساعدات الغذائية، وإن كان على نطاق مصغَّر، ملمحاً إلى احتمالية تقديم المساعدات مباشرة من قبل هيئة الأمم المتحدة، بدلاً من الشركاء المنفذين -المنظمات الموجودة على الأرض الممولة لتوزيع المساعدة نيابة عنها- ليعود الحال كما كان سابقاً.
وأشار المصدر إلى أن بعض الشحنات المباشرة لبرنامج الأغذية العالمي كانت تتم عبر خطوط التماس، أي من مناطق سيطرة النظام إلى شمال سوريا، بدلاً من تسليمها عبر الحدود من تركيا، وإن لم يتم الإعلان عن ذلك. إذا سلم برنامج الأغذية العالمي المساعدات بشكل مباشر، فقد يعني ذلك أنها جميع المساعدات الغذائية ستُرسل عبر خطوط التماس.
في شمال غرب سوريا، الذي تسيطر عليه المعارضة، تقدَّر نسبة أولئك الذين يعتمدون على مساعدات الأمم المتحدة بـ 75 بالمئة، وطريقة إيصال المساعدات بالنسبة لهم هي مسألة جوهرية.
ومن أجل ضمان وصول المساعدات لا بدَّ أن ترسل عبر الحدود وليس عبر خطوط التماس من الأراضي التي يسيطر عليها النظام، خشية أن يتم حجبها أو تحويل مسارها من قبل دمشق، لكن مستقبل إيصال المساعدات عبر الحدود من قبل برنامج الأغذية العالمي أو وكالات الأمم المتحدة الأخرى يكتنفه الغموض والضبابية.
آلية إيصال المساعدات عبر الحدود
منذ تموز/يوليو عام 2014، أتاحت آلية إيصال المساعدات عبر الحدود -التي أُنشئت بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة- شحن المساعدات الأممية إلى سوريا عبر تركيا دون الحاجة إلى موافقة من النظام.
ولكن في تموز/ يوليو 2023، استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) في التصويت الأخير لتمديد الآلية، ما جعل مسألة التسليم عبر الحدود أمراً مناطاً بدمشق ولها أن تأذن به أو لا. وبعد الفيتو الروسي، أتاح النظام السوري إمكانية التسليم عبر الحدود لمدة ستة أشهر حتى 13 كانون الثاني/ يناير 2024.
في 12 كانون الثاني/ يناير، قبل يوم واحد من الموعد المقرر لانتهاء المدة المحددة، توصلّت الأمم المتحدة إلى اتفاق مع دمشق لتمديد إيصال شحنات المساعدات الأممية عبر الحدود من تركيا لمدة ستة أشهر أخرى، أي حتى 13 تموز/ يوليو 2024.
لكن، بموجب الاتفاقية الأخيرة سيقتصر العمل على معبر باب الهوى فقط لمدة ستة أشهر، ولن يتم فتح معبري باب الراعي وباب السلامة، اللذين وافق النظام على فتحهما في أعقاب زلزال شباط/ فبراير 2023 وسيستمر عملهما حتى 13 شباط/ فبراير 2024 فقط، وسيؤثر إغلاقهما على “سهولة وسرعة” توصيل المساعدات، بحسب الجرك، لاسيما في ظل ما وصفه بـ “الوضع الإنساني متزايد الصعوبة”.
منذ عقد من الزمن، تُقلص الأمم المتحدة فترات تجديد إيصال المساعدات عبر الحدود تدريجياً: من عامين إلى عام واحد، وأخيراً إلى ستة أشهر. هذه الضبابية في عملية الإيصال المستدام تدفع الجهات المانحة إلى استصدار منحات قصيرة المدى لا تتمتع “بالاستدامة أو التخطيط على المدى الطويل”، وفقاً للجرك.
في ظل عدم إمكانية التوصيل عبر الحدود، فإن شحنات مساعدات الأمم المتحدة ستأتي حصرياً عبر مناطق سيطرة النظام السوري، الذي له “تاريخ طويل في تسييس المساعدات والتلاعب بها واستخدامها كأسلحة”، كما قال الدكتور محمد كتوب، الخبير في مجال المناصرة للاستجابة الإنسانية.
ويخشى الجرك أن يلجأ النظام إلى سياسة “تجويع الجميع”. كشفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها الصادر عام 2019 عن تحويل مسار المساعدات الممنهج لصالح شخصيات وجماعات مسلحة تابعة للنظام، إضافة إلى منع المساعدات عن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
التداعيات على القطاعات المختلفة
لا يهدد تقليص التمويل وخفض المساعدات دعم المعونات الغذائية العينية وحدها فحسب. ففي شمال غرب سوريا، تتأثر مخيمات النازحين، التي يقيم فيها نحو 1.7 مليون نسمة، بشكل كبير، كما ذكرت هارك من منظمة ميرسي كور، علماً أن منظمتها من ضمن المنظمات التي اضطرت إلى وقف الخدمات في تلك المخيمات.
وأشارت هارك إلى أنَّ التداعيات المترتبة على المياه والصرف الصحي وخيمة جداً. مع توقف دعم الخدمات التي يعتمد عليها المهجَّرون مثل محطات ضخ المياه “ليس أمام العائلات سوى اللجوء إلى دخلها المحدود لشراء المياه من مصادر خاصة تفتقر إلى مراقبة الجودة”، ما يزيد من مخاطر تجدد تفشي وباء الكوليرا. “يواجه شمال غرب سوريا باستمرار مداً وانحساراً في حالات الكوليرا، ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الظروف التي تفضي إلى زيادة الحالات”، بحسب ما أضافت.
منذ أيلول/ سبتمبر 2022، عندما تم تسجيل تفشي وباء الكوليرا لأول مرة منذ اندلاع الحرب في سوريا، واجه شمال غرب سوريا عدة موجات من الكوليرا، لاسيما في أعقاب زلزال شباط/ فبراير، إذ بلغت الحالات ذروتها في نيسان/ أبريل 2023 بواقع 13000 حالة.
اقرأ أكثر: مخيمات إدلب تسجل إصابات بـ”الكوليرا”: وباء جديد يحل على سوريا وسط بيئة صحية هشة
في ظل تقليص الدعم الأمريكي، توقع مصدر دبلوماسي أوروبي أن تتدخل الجهات الإقليمية الفاعلة، مثل تركيا، لسد الفجوة. وقد يعني هذا أن تقوم جهات مؤسسية مثل الأمم المتحدة أو الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بتمويل المشاريع. يذكر أن السعودية قدمت 100 مليون دولار لتمويل مشاريع أمريكية ترمي إلى إرساء الاستقرار في شمال شرق سوريا.
وقد يعني هذا أيضا تخطي المؤسسات الدولية وتجاوزها كلياً. وفي هذه الحالة، يمكن حرمان مناطق معينة من المساعدات لأسباب سياسية. على سبيل المثال، من المرجح أن يُحرم شمال شرق سوريا، الذي تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بقيادة الأكراد، من المساعدات القادمة مباشرة من أنقرة لأن تركيا تعتبرها قوى إرهابية.
غياب برامج التعافي المبكر
إنّ خفض المساعدات وما يفرضه من تهديد مستمر هو عَرضٌ يرجع لمشكلة بنيوية أكبر: إذ تم تجميد الاستجابة الدولية للأزمة السورية منذ 13 عاماً لتبقى محصورة في مرحلة الاستجابة الطارئة، دون إيجاد حلول مستدامة.
“ما تزال الأزمة مستمرة منذ أكثر من عقد من الزمن، وما زلنا نتحدث عن المساعدة الطارئة”، قال أحد المصادر الإنسانية في شمال شرق سوريا.
“كان المانحون ووكالات الأمم المتحدة على علم بأنًّّ هذه اللحظة ستأتي يوماً ما، ومع ذلك لم يفعلوا شيئاً على مر تلك السنين”، قال كتوب، لافتاً إلى أنَّ البرمجة السورية ما تزال في مرحلة الطوارئ، وليس في مرحلة التعافي المبكر، لأن نظام المساعدات الإنسانية “بيروقراطي جداً ومسيّس جداً”.
التعافي المبكر وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي هو الانتقال من المساعدات الإنسانية إلى التنمية التي تسمح بـ”عملية مستدامة للتعافي من الأزمة”، ويشمل هذا إعادة تأهيل “الأسواق وسبل العيش والخدمات وقدرات الدولة لتعزيزها ورعايتها”.
تعد برامج بناء القدرة على الصمود “استراتيجية رئيسية للخروج من المعونات الغذائية المنتظمة” نحو تحقيق “الاستدامة” بحسب المصدر الإنساني العامل في شمال شرق سوريا. ويمكن أن يشمل ذلك “مشاريع سبل العيش، ومشاريع تنمية القدرات، وتحسين نوعية البرامج النقدية، وزيادة التركيز على التكيف مع تغير المناخ”، ولا سيما في مجال “استدامة الزراعة” في بلد كانت مكتفية ذاتياً في إنتاج الغذاء قبل الحرب.
ومع ذلك، فإن برامج التعافي المبكر اليوم تمثل أقل من 9 بالمئة مما هو مطلوب، وفق كتوب. وفي سياق عدم وجودها، حذر من أن المجتمعات الهشة ستظل “تعتمد على المساعدات”، ما يجعل عواقب تقليص المساعدات “مروعة”.
تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور