“كارثة” تسعير القمح في شمال شرق سوريا تنذر بتداعيات أكبر في الموسم القادم
بناء على جدوى زراعة القمح في موسم الحصاد يخطط المزارعون في سوريا للدورة الزراعية الجديدة، لكن تسعيرة الإدارة الذاتية ستدفع المزارعين إلى العدول عن زراعة أراضيهم
3 يونيو 2024
لعدة أيام في الأسبوع الماضي، جلس جميل عبد الله حسو، في منتصف الشارع بسوق مدينة عامودا، شمال شرقي سوريا، مع مزارعين آخرين احتجاجاً على تحديد هيئة الزراعة والري التابعة للإدارة الذاتية سعر شراء محصول القمح من مزارعي مناطق نفوذها بقيمة 31 سنتاً للكيلوغرام الواحد.
تلّقى جميل خبر تحديد التسعيرة، الصادر عن هيئة الزراعة والري التابعة للإدارة الذاتية، في 26 أيار/ مايو، وهو متجهاً إلى أرضه في ريف عامودا، ولوقع الخبر “كدت أتسبب بحادث سير، لأن التسعيرة ستسبب بخسارتي وتراكم الديون علي لسنوات”، كما قال المزارع لـ”سوريا على طول”.
قوبل تخفيض سعر القمح عن العام الماضي، الذي بلغ آنذاك 43 سنتاً للكيلو غرام الواحد، باستهجان عام تمثل باحتجاجات شعبية عمت محافظات الرقة ودير الزور والحسكة بشمال شرق سوريا، حمل المحتجون/ات لافتات كتب عليها، “أرزاقنا ليست تجارة مرابح لكم”، و”سقيناها بدمنا ما نبيعها ببلاش”.
وطالب المحتجون بسعر أعلى من العام الماضي، نظراً لارتفاع تكاليف الزراعة وقلة دعم الإدارة الذاتية للقطاع الزراعي، فيما عبّر ناشطون عن استيائهم من قرار الإدارة الذاتية معربين عن تضامنهم مع المزارعين، الذين يشكلون عصب اقتصاد المنطقة المعروفة بسلة غذاء سوريا، لا سيما بالنسبة للمحاصيل الاستراتيجية مثل القمح.
في هذا الوقت من كل عام، يرتفع ضجيج الحصادات في أرياف شمال وشرق سوريا، التي ينتقل أصحابها من أرض إلى أخرى، وأكوام من الأكياس البيضاء المعبأة بالقمح مصفوفة في الأراضي، بينما تتوزع خيام، يتخذها العمال مكان استراحة لهم، على أطراف الطرق التي تفصل بين منطقة وأخرى. في موسم الحصاد يفوق ضجيج الأرياف على صخب المدن لكن “المزارع فقد متعة هذه الأيام بسبب القرار”، بحسب حسو.
مع زخم الاحتجاجات المستمرة لأيام، توقع المتضررون تعديل التسعيرة، لكن أصوات المتحجّين لم تلق صدى ايجابياً من الإدارة الذاتية، التي رفضت عبر مؤتمر صحفي، العدول عن قرار التسعيرة، علماً أنها اعترفت بأن التسعيرة “قد لا تناسب معايير التكلفة والربح”.
وبررت الإدارة تسعيرة القمح بـ “الحصار الاقتصادي والهجمات والاعتداءات المتكررة من قبل العدوان التركي على البنية التحتية للاقتصاد”، وهذا بدوره أدى إلى “خسائر فادحة في الاقتصاد وعدم قدرة الإدارة الذاتية على إعطاء هامش ربح كبير للإخوة المزارعين، إضافة لانخفاض سعر القمح عالمياً”، كما جاء في البيان.
ومع فقدان أمل تعديل الأسعار، بدأ بعض المزارعين في شمال شرق سوريا بتوريد محصول القمح إلى مراكز الاستلام التي حددتها الإدارة الذاتية في وقت سابق.
موسم خاسر
في نيسان/ أبريل، قال نائب الرئاسة المشتركة في هيئة الزراعة والري، أحمد يونس، أن الإدارة الذاتية بصدد تحديد التسعيرة التي ستكون “مفاجأة سارّة” للمزارعين، لكن الواقع كانت “كارثة”، على حد وصف جميل حسو، مشيراً إلى أن دفع 28 ألف دولار أميركي، وهي تكاليف الفلاحة، الزراعة، البذار، السماد، المبيدات، والتكاليف الصناعية، ولا يشمل المبلغ أجور الأيدي العاملة وتكاليف بعد الإنتاج من حصاد وتعبئة ونقل.
توقع حسو، الذي يزرع 250 دنماً في ريف عامودا بمحافظة الحسكة، أن ينتج الدونم الواحد من أرضه 250 كيلوغراماً من القمح، أي أن إجمالي الإنتاج 62.5 طناً وقيمته حسب السعر المحدد 19.375 دولاراً، أي بخسارة تصل إلى أكثر من ثمانية آلاف دولار دون احتساب تكاليف ما بعد الإنتاج.
“الكارثة” التي حلّت بالمزارع حسو ليست الأولى التي تضرب موسم المزارعين في شمال شرق سوريا، إذ عدا عن الخسائر الفادحة التي تسببت بها قلة الأمطار في الأعوام السابقة، كان عام 2019 عام الحرائق التي التهمت أكثر من 79 ألف دنم من الأراضي الزراعية لمحصولي القمح والشعير.
وعدا عن خفض التسعيرة، وعدت هيئة الزراعة على لسان نائب رئيسها يونس المزارعين بتأمين مستلزماتهم من “أكياس التعبئة”، إلا أنه لم تلتزم بوعدها، إذ اضطر المزارعون إلى شراء الأكياس. وقبل ذلك، اضطروا إلى شراء كميات من المحروقات لسقاية أراضيهم، إذ لم تقدم الإدارة الذاتية سوى كميات قليلة من المحروقات بالسعر المدعوم، كما قال عدد من المزارعين لـ”سوريا على طول”.
اقرأ المزيد: أزمة المحروقات وضعف الدعم يهددان سلة غذاء سوريا شمال شرقي البلاد
استلم حسو 6750 لتراً من المازوت المدعوم بسعر 1100 ليرة سورية للتر الواحد، التي غطت سقاية أقل من نصف أرضه لمرة واحدة، بينما اضطر شراء أكثر من 11 ألف لتراً بسعر 4800 ليرة بسعر “المازوت الحر” بتكلفة تصل إلى 3520 دولاراً.
الكمية التي استلمها حسو بالسعر المدعوم هي عبارة عن دفعة ونصف الدفعة من أصل ثماني دفعات كان من المقرر استلامه من الإدارة الذاتية، التي خصصت من 10 إلى 15 لتر مازوت لكل دونم في الدفعة الواحدة، لكن المزارعين لم يستلموا مخصصاتهم، وفي أحسن الأحوال استلموا من ثلاث إلى خمس دفعات فقط.
وبينما كان جالساً في مضافته بقرية توبز، الواقعة على الطريق الواصل بين مدينتي القامشلي وعامودا، مع إخوته وأقربائه، شارك فرزند خلو، شيخ عشيرة الميرسنية في منطقة الجزيرة، الذي يمتلك 80 دونماً من الأرض المزروعة بالقمح، الأرقام المدونة على دفتر صغير وصفه بـ”دفتر حساب الخسائر، عوضاً عن حساب الأرباح” مع “سوريا على طول”.
وكما جاء في الدفتر، بلغت “تكاليف الزراعة والحصاد 2500 دولار، بينما الوارد في أفضل الأحوال من القمح لدي هو 2480 دولاراً، هذا إن لم تعتبره لجنة الفحص التابعة لهيئة الزراعة معيوباً ووافقت على شرائه بـ31 سنتاً”، بحسب خلو.
وكانت هيئة الزراعة والري قد ذكرت في قرارها أن القمح سيخضع لنظام الدرجات العددية، أي أن سعر 31 سنتاً للكيلوغرام ينطبق على المحصول ذي الجودة الأفضل.
تداعيات القرار
تجري العادة لدى مزارعي شمال شرق سوريا، في موسم الحصاد، أن يحتسب المزارع جدوى إنتاج أرضه من أجل بدء التخطيط للدورة الزراعية الجديدة، ووفقاً للمعطيات المدونة في “دفتر الخسائر”، لن يتمكن خلو من الحفاظ على سوية الإنتاج في العام القادم، وهو ما قد يحول دون زراعة أرضه.
“أفضل عدم زراعة أرضي على أن أزرعها وأخسر”، قال خلو، مشيراً إلى أنه يفكر في “زراعة البقوليات في العام القادم وأبيعها للتجار”. قاطعه أحد الجلوس في مضافته قائلاً: “اتركها جرداء، ستوفر عليك الخسارة”.
وفي هذا السياق، قالت الناشطة المدنية نهلة العلي، وهي إحدى المتضامنات مع مطالب مزارعي محافظة دير الزور، التي تنحدر منها، أن من تعرفهم “لن يزرعوا أراضيهم بالقمح في العام القادم، سواء كانوا من أصحاب الحيازات الصغيرة الذين يخزنون قمحهم ولا يبيعوه أو أصحاب الحيازات الكبيرة، الذين بالكاد سيستردّون رأس مالهم”.
لن تنعكس أزمة القمح، التي أحدثها التسعير، على المزارعين فحسب، وإنما ستؤدي الأزمة إلى “تضاؤل فرص العمل، ما سيؤثر على اقتصاد سكان المنطقة الذين يعملون في أعمال مرتبطة بالموسم الزراعي”، كما قال الإقتصادي سيوريوس عبد المسيح، الذي يعمل محاسباً مالياً مع المزارعين منذ عام 1987.
وأضاف عبد المسيح في حديثه لـ”سوريا على طول”: “سيفقد أكثر من 30 عاملاً فرصة العمل في أرضي العام القادم، لأنني لن أزرعها بسبب الخسائر التي تكبدتها”,
قدّرت الإدارة الذاتية، في بيانها الصادر في 28 أيار/ مايو، الذي تمسكت فيه بتسعيرتها، تكلفة إنتاج الكيلوغرام الواحد بـ29 سنتاً، وهو “رقم غير دقيق”، بحسب الاقصادي عبد المسيح، مقدراً تكلفة إنتاج الكيلوغرام الواحد من القمح المروي بـ 30 سنتاً، “دون احتساب أجور الحصاد التي تصل إلى 7 بالمئة من إجمالي المبيع، وتكاليف التعبئة والشحن والنقل”.
إنفوغراف يوضح تكاليف إنتاج كيلوغرام القمح في الأراضي المروية والبعلية (المعتمدة على الأمطار)، تم الاعتماد على الأرقام التي وفرها الاقتصادي سيوريوس عبد المسيح. صورة: سليم عبد المسيح. تصميم: بهاء برهان
خيارات ضئيلة
تعد منطقة شمال شرق سوريا، سلة غذاء سوريا من المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والشعير والقطن، وتشكل هذه المحاصيل مصدر دخل أساسي لسكان المنطقة.
ارتفاع تكاليف الزراعة سنوياً، وقلة دعم الإدارة الذاتية، دفع العديد من المزارعين في الجزيرة السورية (التي تضم أراض من الحسكة والرقة ودير الزور) إلى تقليص المساحات المروية في الموسم الحالي، والتوجه إلى الزراعة البعلية أو إلى زراعة المحاصيل العطرية كالكمون والكزبرة والسمسم، وفقاً لما رصدته “سوريا على طول” في تقرير سابق.
نظرياً، يمكن للمزارعين في شمال شرق سوريا توريد محاصيل القمح لمراكز الحكومة السورية، التي حددت سعر شراء محصول القمح للموسم الحالي بـ5500 ليرة سورية (36 سنتاً حسب سعر صرف الدولار في السوق السوداء، و 40 سنتاً حسب سعر الصرف في مصرف سوريا المركزي)، لكن “الإدارة الذاتية سوف تمنع توريد القمح لمراكز الحكومة”، كما جرى العام الماضي، بحسب خلو، الذي أكد على أنه “من حق المزارع بيع محصوله للأعلى سعراً”.
تعليقاً على ذلك، قال المزارع جميل حسو: “بكل تأكيد، الحكومة تمنعنا من بيع المحصول للحكومة السورية، الأمر الذي يتركنا بلا حول ولا قوة”.
أما في دير الزور، توقعت الناشطة المدنية نهلة العلي، تهريب المزارعين إنتاجهم عبر نهر الفرات إلى مناطق النظام، من أجل الحصول على سعر أعلى رغم ما تحمله هذه الخطوة من “تهديد أمنهم وسلامتهم وأمن وسلامة المنطقة”.
“بغض النظر عن تبخيس الإدارة الذاتية بحقنا، لن أبيع القمح خارج المنطقة، لأنني أعي تماماً أهمية هذا المحصول الاستراتيجي”، قال جميل حسو، حاسماً قراره رغم ما سيلحق به من خسارة تؤثر على الظروف المعيشية له ولعائلته.