8 دقائق قراءة

“لا تفارقني ذكريات منزلي”: تداعيات فقدان الملكية العقارية على النساء السوريات

فقدان الملكية العقارية من أبرز تداعيات الحرب التي تشهدها سوريا بعد اندلاع ثورتها. تعد النساء من الفئات الأكثر تضرراً، ويواجهنّ تحديات مضاعفة في استعادة حقوقهنّ.


13 نوفمبر 2024

عفرين- تجرعت أميرة الطويل مرارة فقدان ملكيتها العقارية مرتين، الأولى عندما غادرت مسقط رأسها في أحد أحياء دمشق إلى إدلب، مطلع عام 2012، بعد اعتقال النظام السوري عدداً من أفراد عائلتها، والثانية بعد تهجيرها القسري من بيتها في ريف إدلب الجنوبي عام 2019، كما قالت السيدة لـ”سوريا على طول” من مكان إقامتها الحالي في مخيم “الهلال الأحمر التركي” الواقع بمنطقة كفركرمين في ريف إدلب الشمالي.

انقطعت أخبار منزل الطويل في حي الزاهرة بدمشق بعد وصولها إلى مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا، ومن ثم علمت بأن “النظام أغلقه بالشمع الأحمر، دون معرفة مزيد من التفاصيل”، ما يعني عدم إمكانية التصرف به أو إشغاله من دون مراجعة النظام.

في مكان إقامتها بريف إدلب الجنوبي، بنت الطويل بيتاً بعد أن باعت مصاغها الذهبي وحصلت على دعم من أقاربها،  لكن في أواخر عام 2012، استهدف الطيران الحربي التابع للنظام منزلها بغارة جوية، وقتل زوجها آنذاك، وفقاً لها.

بما تبقى لديها من “قوة ودعم مجتمعي أعدت بناء جزء صغير من المنزل المدمر، وأقمت فيه مع أولادي الخمسة حتى لحظة تهجيرنا من ريف إدلب”، قالت الطويل، لتخسر منزلها الثاني وتسكن في مخيمات الشمال، حيث يشكل النازحون نصف سكان شمال غرب سوريا.

فقدان الملكية العقارية من أبرز تداعيات الحرب التي تشهدها سوريا بعد اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011. مع تهجير نحو 13.8 مليون نسمة داخلياً وخارجياً، وتضرر 40 بالمئة من البنية التحتية جراء الصراع، خسر العديد من السوريين والسوريات ملكياتهم العقارية، بما في ذلك حق الانتفاع منها، وهو حق عيني، يقع على ذات الشيء دون وساطة من شخص آخر، ويمنح صاحبه سلطة مباشرة بالانتفاع بالأملاك المنقولة وغير المنقولة من خلال استعماله واستغلاله مع بقاء أساس الملكية للمالك، كما عرفه القانون المدني السوري رقم 84 لعام 1949.

وتعد النساء من بين الفئات الأكثر تضرراً في فقدان الملكية العقارية، بسبب الأدوار الاجتماعية التي تتحملها المرأة في رعاية الأسرة وإدارة المنزل، ويواجهنّ تحديات مضاعفة في استعادة حقوقهنّ، خاصة إن كانت الملكية مسجلة قانوناً بأسماء أزواج أو آباء مختفين قسراً أو قتلوا خلال الحرب السورية.

وأشارت دراسة بحثية أجراها قسم الأبحاث النسوية في منظمة “النساء الآن للتنمية” بالتعاون مع مجموعة من النساء السوريات المهجرات إلى مناطق شمال غرب سوريا، بعنوان “ملكيتي حقي”، إلى أن القوانين الجديدة المتعلقة بأملاك المهجّرين والمهجّرات والمعتقلين والمعتقلات، التي أقرها النظام السوري، زادت من صعوبات وصولهنّ إلى أملاكهنّ أو نقلها إلى أسمائهنّ، إضافة إلى الأوضاع الأمنية التي تمنعهنّ من العودة إلى مناطق النظام للمطالبة بحقوقهنّ خوفاً من الاعتقال، وأيضاً تزيد الموروثات المجتمعية والاجتماعية من الصعوبات التي تواجهها النساء.

فقدان الوثائق

في أواخر 2016، انتهت العملية العسكرية التي شنها النظام السوري بدعم روسي ضد فصائل المعارضة في مدينة حلب، بأكبر عملية تهجير قسري في سوريا، إذ بلغ إجمالي عدد المهجّرين آنذاك نحو 400 ألف نسمة

نزحت سلمى الصالح (اسم مستعار) من حلب إلى مدينة اعزاز بريف المحافظة الشمالي، في ذاك التاريخ، لكنها فقدت وثائق ملكية منزلها، المسجل باسم زوجها، الذي قُتل في حلب قبل عملية “التهجير القسري”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

حاولت الصالح بيع المنزل غيابياً عن طريق محامٍ مقيم في مناطق النظام، أخبرها بقدرته على ذلك لقربه من السلطات، مقابل ألفي دولار أميركي. اقترضت السيدة المبلغ من قريبة لها في ألمانيا، لكنها اكتشفت أن المحامي يتحايل عليها “ولم تتم عملية البيع كما وعدني”، عدا عن أنه “طلب صوراً لي”، ربما من أجل ابتزازها، كما اعتقدت. 

يواجه ذوو وذوات القتلى والمفقودين والمختفين قسراً تحديات إضافية في سبيل حماية ملكياتهم العقارية وإدارتها، بسبب فقدان الوثائق الرسمية وتعقيد الإجراءات التي فرضها النظام، إضافة إلى عدم اعتراف النظام بوجود العديد من المغيّبين في سجونه أو مقتلهم، وبالتالي عدم إمكانية استخراج “شهادة وفاة” تسمح للورثة بإدارة أملاك الشخص المنقولة وغير المنقولة، كما عقّد عملية استخراج “وكالة قضائية” للمفقودين بعد أن ربط الحصول عليها بـ”الموافقة الأمنية”، كما جاء في التعميم رقم 30، الصادر في أيلول/ سبتمبر 2021. 

في الوقت الحالي، لا تجرؤ الصالح على الذهاب إلى مدينة حلب لإيجاد حلّ في مؤسسات النظام بخصوص مشكلتها العقارية “خشية الاعتقال”، ولم يعد لديها الثقة أو القدرة المالية على إجراء تجربة أخرى مع محامٍ آخر.

إضافة إلى ذلك، “تواجه النساء السوريات المهجرات اللواتي يحاولن المطالبة بملكياتهنّ تحديات مضاعفة”، بحسب الباحثة بيان المالح من قسم الأبحاث النسوية في منظمة النساء الآن، التي أعدت الورقة البحثية ، إذ رغم أن نسبة المهجّرات المطالبات بملكياتهنّ أو ملكيات ذويهنّ لا تزيد عن تسعة بالمئة من النساء المشاركات بالدراسة، إلا أنهنّ “كنّ يخاطرن بالذهاب إلى مناطق سيطرة النظام، أو توكيل نساء قريبات في تلك المناطق عوضاً عن الرجال خشية الاعتقال أو سوقهم للتجنيد الإجباري”، كما أوضحت لـ”سوريا على طول”.

النضال من أجل الحقوق

العديد من النساء اللواتي ركبنَ حافلات التهجير من مناطق المعارضة سابقاً إلى شمال غرب سوريا ليس لهنّ أنشطة معلنة ضد النظام السوري، ومع ذلك فإن “النظام ينظر إلى كل مهجّر على أنه معارض وإرهابي”، وبناء عليه “يتعامل بطريقة أمنية مع حقوقه، بما في ذلك منعه من التصرف في ملكياته العقارية، وأحياناً مصادرتها أو استخدامها دون موافقة صاحب الحق”، كما قال المحامي إبراهيم حومد، العضو في فرع نقابة المحامين الأحرار بحلب، لـ”سوريا على طول”.

وبينما يمكن للنساء خارج سوريا توكيل محامٍ أو شخص في مناطق النظام لينوب عنهنّ في إدارة ملكياتهم العقارية بموجب وكالة عامة أو خاصة من السفارات السورية المنتشرة “شريطة ألا يكون على صاحب أو صاحبة العقار منع تصرف أمني”، بحسب حومد، فإن النساء المقيمات في مناطق المعارضة محرومات من ذلك، ويتعيّن عليهنّ الذهاب إلى مناطق النظام أولاً لإجراء معاملاتهنّ أو توكيل غيرهنّ.

يزيد من تعقيد مهمة النساء المهجرات في حماية ملكياتهنّ العقارية أو التصرف بها “ضياع الوثائق الرسمية، لأنه يتعين عليها المطالبة بكشف بيان عقاري أولاً، لإثبات الملكية، ومن ثم السير بباقي الإجراءات، وهذا يتطلب جهداً مضاعفاً”، وفقاً لحومد.

من جهته، أصدر النظام عدة قوانين تنتهك حقوق المواطنين العقارية، من قبيل قانون التخطيط وعمران المدن، رقم 23 لعام 2015، الذي يتيح للوحدات الإدارية الاقتطاع من الملكيات الخاصة بحجة النفع العام، والقانون رقم 10 الذي يخوّله السيطرة على أملاك المهجرين والمهجّرات واللاجئين/ـات وكل من لم يتمكّن من تثبيت قيده في السجل العقاري خلال فترة محددة، ناهيك عن رفع الضرائب المتعلقة ببيع العقارات، عبر القانون رقم 15 لعام 2021، بنسبة 15 بالمئة من قيمة العقار مع فرض الموافقات الأمنية كشرط للبيع، وغير ذلك من “أساليب التحايل التي برر بها لنفسه الحق في نزع الحقوق من أصحابها”، وفقاً للمحامي حومد.

بناء على جملة العقبات التي تواجه النساء، اضطرت العديد منهنّ إلى “التعامل مع سماسرة مقربين من السلطة الحاكمة، يتقاضون أجوراً غير منطقية، تصل أحياناً إلى حدّ محاصصة صاحب أو صاحبة العقار، بأخذ نصف القيمة أو ربعها، حسب وضع المالك القانوني”، بحسب المحامي. 

تأكيداً على ذلك، قالت أميرة الطويل، أنها حاولت في عام 2015 إزالة ختم الشمع الأحمر (الحجز) عن منزلها لتتمكن من بيع العقار، مشيرة إلى أن المحامي طلب 1500 دولار لإزالة الحجز، ناهيك عن نصف قيمة المنزل حال بيعه.

وفي هذا السياق، قالت المالح من “النساء الآن” أن النساء يحتجن إلى العديد من الموارد من أجل المطالبة بملكياتهنّ أو استعادتها، وهذا يتطلب “عملية تغيير مجتمعي”، وتأتي “الموارد القانونية المعرفية في المقام الأول من التدريب على آليات المطالبة بالأملاك وغيرها، إضافة إلى توفر الدعم المالي والعمل على حملات المناصرة”، وهو ما ركزت عليه في دراستها.

آثار نفسية

بعد نزوحها من ريف إدلب الجنوبي، تنقلت الطويل عدة مرات، بدءاً من مخيم مخصص للأرامل في ريف إدلب، ومن ثم في منزل من دون إكساء في منطقة الدانا، شمال إدلب، وأخيراً انتهى بها الحال في مخيم الهلال الأحمر التركي في كفركرمين.

تعيش الطويل ظروفاً نفسية صعبة ما “أثر على علاقتي بأولادي ومعارفي”، ونظراً لتنقلها إلى أكثر من مكان خسرت “الدعم المجتمعي المحيط”، حيث “تشتت الناس في المخيمات والمناطق المختلفة شمال سوريا”، على حد قولها.

أشارت الدراسة البحثية الصادرة عن  وحدة الأبحاث النسوية في منظمة “النساء الآن للتنمية”، أن جميع النساء المشاركات، وعددهنّ 93 سيدة مهجرة من تسع محافظات سورية، يعانين من آثار نفسية، ويتمثل ذلك في “الخوف والشعور بعدم الأمان”، “عدم الاستقرار والانتماء لأي مكان”، و”خسارة المكانة الاجتماعية”، إضافة إلى الوصمة الاجتماعية، وتنعكس هذه الآثار على صحتهنّ وصحة أولادهنّ.

وتزيد ظروف التهجير من التداعيات النفسية على النساء، كما في حالة مرام العبد الله، 57 عاماً، التي نزحت من قرية معرة حرمة بريف إدلب الجنوبي إلى مخيمات دير حسان بريف إدلب الشمالي، عام 2019، بسبب القصف، وتلاشت آمالها بالعودة بعد سيطرة النظام على المنطقة في عام 2020، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

“لا تفارقني ذكريات منزلي السابق، كان واسعاً، ويضم ثلاثة غرف وصالة، والمطبخ مليئ بمرطبانات المربى والمخلّلات والأجبان، التي صنعتها بنفسي”، وفي فناء المنزل “كان عندنا شجرة جوز كبيرة، وأشجار ليمون وبرتقال زرعتهم بيديّ، وأيضاً تنور خبز”، على حد قولها. 

وأضافت العبد الله: “فكرة العيش في مكان مسقوف بقطعة قماش قاتلة، كلما نظرت إليها أتذكر منزلي الذي هجّرت منه قسراً”، مشيرة إلى أنها تعيش في حالة “شعور دائم بالقلق والخوف المرتبط بالخسارة وعدم الأمان، وغالباً ما أجد نفسي متأهبة وكأنني أنتظر حدوث شيء سيء في أي لحظة”.

لا تستطيع العبد الله العودة إلى منزلها أو التصرف فيه لأنه يقع في “منطقة عسكرية على خط التماس بين قوات النظام والمعارضة”، ولأنها غير قادرة على تحسين ظروفها المعيشية أو إيجاد سكن لائق لها تشعر بأن “الأمل في مستقبل أفضل يتضاءل شيئاً فشيئاً”، على حدّ وصفها.

فكرة طيّ صفحة الماضي، مع ما تحمله من حقوق وذكريات، أمر بالغ الصعوبة لدى الآلاف من النساء والرجال الذين يسكنون الخيام حالياً، ويعيشون ظروفاً مختلفة جذرياً عمّا كانوا عليه سابقاً.

في إحصائية لفريق “منسقو استجابة سوريا”، نُشرت في تموز/ يوليو، بلغ عدد المخيمات في شمال غرب سوريا 1904 مخيماً، يقطنها نحو مليوني شخص، وتشكل النساء 26 بالمئة من عدد سكان المخيمات، حالة العديد من النساء كحالة مرام العبد الله ومريم الطويل.

أثناء متابعة الجانب النفسي للسيدات المشاركات في بحث “ملكيتي حقي”، لاحظت الأخصائية النفسية رجاء الأحمد، المقيمة في شمال إدلب، “الكثير من ردود الأفعال والمشاعر التي اختبرتها النساء كمشاعر الحزن وعدم الرضا عن الذات والاكتئاب الحاد بسبب فقدان ملكياتهنّ، مشيرة إلى أن “نسبة ضئيلة منهن من  تجاوزن شعور الصدمة وتأقلمنَ مع واقعهنّ الحالي”.

وشددت الأخصائية النفسية الأحمد في حديثها لـ”سوريا على طول” على أهمية جلسات الدعم النفسي والتفريغ والتوعية حول آليات التعامل مع الضغوط النفسية والمشاعر والانفعالات بمختلف أنواعها، مستندة على ما لمسته أثناء حديثها من النساء المستهدفات.

وبما أن استعادة الحقوق العقارية أو عودتهنّ إليها لا يمكن على المدى المنظور، حاولت العديد من النساء على اتباع آليات للتأقلم مع واقعهنّ الحالي، كالحفاظ على العائلة المترابطة وإكمال التعليم أو الانخراط بالعمل، إضافة إلى جهودهنّ في تعزيز التماسك المجتمعي وتقديم المساعدة للنساء الأخريات، كما جاء في دراسة النساء الآن.

ومن جانب آخر، حاولت العديد من النساء اللواتي فقدن ملكياتهنّ العقارية إلى تهيئة أماكن سكنهنّ في شمال غرب سوريا بأجواء تحاكي منازلهنّ القديمة والاحتفاظ بقطع أو أشياء حملنها معهنّ من مواطنهنّ الأصلية، مثل المفاتيح القديمة، في رسالة تؤكد على إيمانهنّ بأنهنّ صاحبات ولا بدّ أن يعود الحق لأصحابه.

بالتزامن مع الدراسة التي أجرتها منظمة “النساء الآن للتنمية”، أنشأت مجموعات استشارية، لتوفير مساحة للنساء من أجل مشاركة تجاربهنّ ونقل خبراتهنّ، وأيضاً حاولت المنظمة تعزيز الوعي القانوني والتقني للنساء المستهدفات بما يخص وثائق الملكية العقارية وطرق حفظها وحمايتها، بحسب المالح، معدة الدراسة.

“لا يمكن للكلمات أن تصف شعور الإنسان بعد أن يُقتلع من منزل عاش فيه عشرين عاماً”، قالت أميرة الطويل، التي تعاطف المجتمع المحلي مع قضيتها على صعيد الأفراد والمنظمات، لكن رغم كل جهود الحشد والمناصرة لقضيتها وتأثيرها الإيجابي عليها إلا أن حنينها لمنزلها الأول في دمشق لا يمكن أن يعوضه شيء إلا العودة إليه.

تم إعداد هذا التقرير بالتعاون بين “سوريا على طول” و منظمة “النساء الآن للتمنية”،ضمن برنامج “صوتنا”.

شارك هذا المقال