لبنان وجهة للسوريين حتى بعد سقوط النظام السوري
على الرغم من تحسن الوضع السياسي والأمني في أجزاء كثيرة من سوريا، إلا أن آلاف السوريين استمروا في التدفق إلى لبنان بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي
26 فبراير 2025
بيروت- في صبيحة يوم الأحد، كان الهدوء يسود شوارع مخيم برج البراجنة في بيروت باستثناء بعض الدراجات النارية التي تمر من وقت لآخر، وأصوات أصحاب المتاجر وعمال المياومة يلقون التحية على بعضهم بلهجة سورية. يعيش في المخيم نحو 15 ألف سوري، وهو عدد يفوق بكثير عدد سكانه الأصليين من الفلسطينيين.
محمد خالد، 28 عاماً، واحد من أحدث سكان المخيم، وهو فلسطيني-سوري من حي ركن الدين الدمشقي، وصل إلى لبنان قبل شهر واحد، بعد أن دفع 150 دولاراً أميركياً لمهرب مقابل نقله عبر الحدود من سوريا. كان خالد من بين آلاف السجناء الذين تم إطلاق سراحهم من السجون السورية بعدما سيطرت المعارضة السورية على البلاد وأطاحت بنظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
“عشت مشاعر جميلة بعد عامين ونصف قضيتها في السجن ظلماً”، قال خالد لـ”سوريا على طول”، الذي أطلق سراحه من سجن عدرا في الضواحي الشمالية الشرقية لدمشق، مضيفاً: “سرت ثلاث ساعات مشياً على الأقدام حتى وصلت إلى منزلي والتقيت بابنتي”.
بعد شهر واحد ودّع ابنته البالغة من العمر ثلاث سنوات مرة أخرى، وتوجه إلى لبنان للبحث عن عمل، من أجل “إطعام عائلتي وتأمين سبل العيش لهم”.
قبل سجنه، عمل خالد في مجال البناء، أما اليوم في لبنان فهو منفتح على أي عمل يمكنه العثور عليه، مخططاً العمل لمدة عام واحد وتوفير ما يكفي من المال ثم يعود إلى سوريا. “التنقل [هنا] صعب من دون إقامة”، كما أضاف.
يستقر العديد من السوريين والفلسطينيين-السوريين القادمين إلى لبنان في مخيمات مثل برج البراجنة لتجنب التدقيق الأمني من قبل السلطات اللبنانية، التي تفوض الفصائل الفلسطينية بضبط أمن المخيمات، لكن إذا غامروا بالخروج من المخيمات دون إقامة فإنهم يعرضون أنفسهم لخطر الاعتقال والترحيل.
اقرأ المزيد: لبنان: السوريون يجدون ملاذاً آمناً في المخيمات الفلسطينية
تقدر الأمم المتحدة عدد السوريين الذين وصلوا إلى لبنان منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 بنحو 69 ألفاً، وقد يكون العدد الحقيقي أعلى بكثير من ذلك، لأن عمليات التهريب تجعل من الصعب تتبع جميع التحركات عبر الحدود.
ورغم تحسن الأوضاع الأمنية في أجزاء كثيرة من سوريا، ما يزال العديد من السوريين، مثل خالد، يتدفقون إلى لبنان لأسباب اقتصادية. عاد بعض اللاجئين الذين كانوا في لبنان عند سقوط النظام إلى بلدهم الأم، لكنهم رجعوا إلى لبنان مجدداً بعد أن وجدوا البيوت مدمرة والظروف المعيشية سيئة هناك، إضافة إلى قلة فرص العمل. مع رحيل نظام الأسد، تتعالى الأصوات المنادية بعودة اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلادهم، كما هو الحال في أوروبا.
عودة السوريين إلى لبنان
في الفترة بين تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، شنت إسرائيل حملة عسكرية مكثفة ضد حزب الله في معظم أنحاء لبنان، ما دفع نصف مليون سوري ولبناني إلى الفرار عبر الحدود إلى سوريا.
كانت عائشة عبد الله، 47 عاماً، التي تعيش أيضاً في برج البراجنة، من بين الذين فروا إلى سوريا، بعد أن سارت مع أطفالها التسعة لمدة ثلاث ساعات مشياً على الأقدام، من معبر المصنع الحدودي إلى سوريا. إذ تعرض المعبر لقصف إسرائيلي متكرر ما جعل العبور إلى دمشق غير متاح للسيارات.
ورغم أن عائلتها تنحدر من مدينة دير الزور شرق سوريا، إلا أنهم بقوا في دمشق، لأن منزلهم كان مدمراً، قائلة لـ”سوريا على طول”: ”عندما وصلنا إلى هناك لم نجد أي شيء، لا منزل، لا عمل، لا شيء”.
قبل أيام من سقوط النظام، قررت عبد الله الرجوع إلى لبنان. “بقيت شهرين ثم تركت ابنتيّ مع خالتهما في سوريا، وعدت [إلى لبنان] للعمل، كان سعر كيلو البطاطا 12 ألف ليرة سورية [0.81 دولار أمريكي في ذلك الوقت]“، وفقاً لها.
بلغ متوسط الراتب الشهري في سوريا 300 ألف ليرة سورية (20 دولاراً)، بينما دفعت عبد الله 290 دولار أمريكي لتهريبها إلى لبنان، بعد أن رفضت سلطات الحدود السماح لها بالدخول ببطاقة اللاجئ التي تحملها، الصادرة عن مفوضية شؤون اللاجئين.
ورغم أن فرص العمل محدودة في أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان، لدى عبد الله أمل أكبر بالعثور على وظيفة مقارنة بسوريا. قبل الحرب، كانت تعمل عاملة نظافة في الضاحية الجنوبية لبيروت، التي يسيطر عليها حزب الله، وتعرضت لحملة إسرائيلية شديدة إلى جانب مناطق أخرى ذات أغلبية شيعية في البلاد مثل سهل البقاع، وحينها نزحت عبد الله وكانت تبحث عن وظيفة جديدة.
عادت أم فيصل، 41 عاماً، إلى سوريا قادمة من لبنان، للمرة الأولى منذ عام 2017، في مطلع العام الحالي، أي بعد حوالي شهر من سقوط النظام، بينما بقي زوجها وأطفالها في لبنان. زارت السيدة والدتها المريضة في مدينة حلب، وكانت تفكر بالاستقرار في سوريا لكن سرعان ما تلاشت آمالها بذلك.
”منزلنا مدمر، ولا يوجد عمل، ولا توجد سيولة، والموظفون ليس لديهم رواتب”، قالت أم فيصل لـ”سوريا على طول”. بعد أسبوعين، عادت إلى لبنان بعد أن دفعت لمهرّب 100 دولار أمريكي من أجل عبور الحدود.
أرسل محمد فاضل، 40 عاماً، زوجته وأطفاله الخمسة إلى سوريا عندما اندلعت الحرب في لبنان في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وفي الشهر التالي، ذهب في رحلة استغرقت سبع ساعات إلى مدينة الرقة لزيارتهم، وكان في سوريا عندما سقط الأسد، قائلاً لـ”سوريا على طول”: “لم نعتقد أن يسقط بهذه السرعة”.
ومع ذلك، لم يتوانى فاضل عن التفكير في العودة إلى لبنان، لأن “الحكومة الجديدة تحتاج إلى الوقت، سنة على الأقل”، إضافة إلى ضرورة “رفع عقوبات قيصر حتى يتمكن الناس من العيش”، وإلا “سيبقى الوضع مخنوقا”، على حد قوله.
اقرأ المزيد: في مرحلة انتقالية حرجة: العقوبات تقف عقبة أمام تعافي سوريا
وقال فاضل: ”الوضع المعيشي تحت الصفر“. تأتي الكهرباء لمدة ساعتين يومياً، ومن المفترض زيادتها إلى ثماني ساعات يومياً بحلول أوائل آذار/ مارس، كما وعدت حكومة دمشق. وأضاف: ”أمي وأبي يعتمدان عليّ”، إذ يتقاضى والده المعلم في سوريا 20 دولاراً شهرياً كمعاش تقاعدي، وهو مبلغ لا يكفي لسد حاجته.
وفي لبنان، يحصل فاضل على 500 دولار شهرياً في عمله بإدارة متجر لإعادة تدوير المعادن في برج البراجنة. ورغم ارتفاع الإيجار والنفقات، إلا أنه يكسب أكثر مما كان سيكسبه في سوريا.
وبينما يتحفظ فاضل على الأوضاع في سوريا، يشعر عبد الله تفاؤل أكثر بمستقبلها، قائلاً: “إن شاء الله ستكون الحكومة الجديدة أفضل. الآن أفضل بالطبع”، لأن الرجال سابقاً “لا يستطيعون التنقل بسبب الخدمة العسكرية“.
في ظل النظام السابق، كان التهديد الدائم بالتجنيد الإجباري والاعتقال يحدّ بشكل كبير من حرية حركة العديد من الرجال، ومن الدوافع الرئيسية للهجرة. ورغم زوال هذا التهديد، إلا أن الوضع الأمني في سوريا ليس مستقراً تماماً، خاصة مع التوغل الإسرائيلي في جنوب غربي سوريا والتوترات مع قوات سوريا الديمقراطية في شمالها الشرقي.
ضغوط متزايدة على السوريين في لبنان
بالنسبة للعديد من اللاجئين السوريين، الذين يقدر عددهم بنحو 1.5 مليون لاجئ سوري في لبنان، لا تزال العودة الدائمة إلى سوريا غير ممكنة، على الأقل في الوقت الراهن، حتى وإن كانوا يواجهون عقبات شاقة في لبنان.
قالت أم فيصل بخوف: “بما أننا لا نملك إقامة، بإمكان [السلطات اللبنانية] إيقافنا في أي وقت”. إذ لا يمكن لعائلتها التقدم بطلب للحصول على الإقامة من دون كفيل لبناني، عدا عن أن الرسوم المرتفعة والأوراق المعقدة تمنع العديد من السوريين من تقديم الطلب.
وبالإضافة إلى الاعتقالات عند نقاط التفتيش وعمليات الترحيل، تتعرض مخيمات اللاجئين السوريين لمداهمات وتفكيك ممنهج من قبل قوات الأمن اللبنانية بوتيرة متزايدة في الأشهر الأخيرة، كما قال لـ”سوريا على طول”، محمد حسن، المدير التنفيذي لمركز وصول لحقوق الإنسان ومقره لبنان.
وأضاف حسن: “إن التضييق على اللاجئين السوريين في لبنان يزداد بشكل ملحوظ، ويأخذ أشكالاً متعددة من قبيل: الضغوط السياسية والأمنية والاجتماعية”، مشيراً إلى “تصاعد التصريحات الحكومية والحزبية التي تؤكد على ضرورة عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا، دون النظر إلى المخاطر الأمنية والسياسية التي سيواجهونها هناك“.
”هذه التصريحات المستمرة تغذي البيئة العدائية ضد اللاجئين وتزيد من الضغوط النفسية والاجتماعية عليهم”، بحسب حسن.
بعد أقل من أسبوع على سقوط النظام، دعا رئيس الوزراء اللبناني، نبيه ميقاتي، اللاجئين السوريين إلى العودة إلى ديارهم، مشيراً إلى ”المنافسة الشرسة على الوظائف والخدمات“. وقد كرر الرئيس اللبناني جوزيف عون هذه الدعوات، داعياً إلى إعادتهم ”في أقرب وقت ممكن”.
وقالت المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، ليزا أبو خالد، أنه “لم تحدث أي تغييرات جوهرية في السياسة” في لبنان منذ سقوط نظام الأسد، مضيفةً أن المفوضية تناقش سبل “دعم الحكومة اللبنانية في مساعدة اللاجئين المستعدين للعودة”.
وقالت مصادر تحدثت إليها “سوريا على طول” في برج البراجنة أن المساعدات النقدية التي تقدمها المفوضية للاجئين توقفت في بداية شهر شباط/ فبراير. وتحركت المفوضية لخفض الإنفاق في نهاية كانون الثاني/ يناير، بعد أن أعلنت الولايات المتحدة -وهي مانح دولي رئيسي يمثل خُمس ميزانية المفوضية لعام 2024- تجميد معظم المساعدات الخارجية.
تواصلت “سوريا على طول” مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان للحصول على توضيح بشأن وقف المساعدات النقدية، لكنها لم تتلق أي رد حتى لحظة نشر هذا التقرير.
رداً على ذلك، قالت ليزا أبو خالد: ”تحافظ المفوضية وبرنامج الأغذية العالمي على برنامج نقدي مشترك لم يتم إنهاؤه“. ومع ذلك، ”من المرجح أن يتأثر البرنامج بتراجع التمويل المتاح في عام 2025، مما سيؤثر بدوره على عدد الأشخاص الذين سيتمكنون من الاستفادة من المساعدات النقدية“.
وفي الوقت الذي ما يزال فيه العديد من السوريين يفضلون العيش والعمل في لبنان تضيق الجدران عليهم، إذ منذ كانون الثاني/ يناير، لم تعد تستطيع ابنة أم فيصل، البالغة من العمر 12 عاماً، الذهاب إلى المدرسة.
في الصيف الماضي، أعلنت بلديتان على الأقل عن ضرورة حصول اللاجئين السوريين على إقامة ليتمكنوا من استئجار منزل أو العمل أو تسجيل أطفالهم في المدرسة.
وفي هذا العام، حذت بلديات بيروت والمرج وعيتيت حذوها، إذ منعت حتى المسجلين كلاجئين لدى المفوضية من الالتحاق بالمدارس الحكومية، وفقاً للمركز العربي لحقوق الإنسان، علماً أن الأطفال السوريين الذين لا يحملون إقامة منعوا من الالتحاق بالمدارس في عام 2021، إلا أن القانون لم يُنفذ إلا مؤخراً.
في الوقت الراهن، تم تعليق أحلام ابنة أم فيصل في دراسة الأدب العربي، وتقف العائلة حائرة أمام خيارين صعبين: سوريا أو لبنان.