محمد علي شاكر: ينبوع فن كردي لا توقفه حرب
"في الحرب لا يتوقف الفن. ورغم أن الحرب معناها الخراب، فإن الموسيقي يتكيف، ويمكنه في مثل هذه الظروف تقديم أغان حماسية، تحفّز الدفاع عن الوطن، وتثير الهمم"
19 يناير 2020
بنحو 270 قصيدة نظمها ولحنها على مدار نصف قرن، وقدمها هو ومغنون كرد آخرون، استحق الفنان محمد علي شاكر وصفه بأنه “أحد ينابيع رأس العين”، المدينة التي استقر فيها وبدأ مشواره الفني قبل نحو 50 سنة، قادماً من مدينة الدرباسية، مسقط رأسه، في محافظة الحسكة.
وقد كان ولوج شاكر عالم الفن ثورة بحد ذاته، كونه ينحدر “من عائلة ذات خلفية دينية”، كما قال لمراسل “سوريا على طول” محمد عبدالستار إبراهيم، فكان أن ابتدأ مشواره في ترتيل القرآن الكريم وترديد الأناشيد الدينية. ومنذ العام 1969 اتجه إلى كتابة الأشعار وتلحينها لشقيقه محمود عزيز الذي سبقه إلى عالم الفن.
لكن هذا الإبداع الشعري-الفني يكاد يكون مجهولاً لكثير من السوريين بسبب سياسة تهميش وإقصاء المواطنين الأكراد التي ميزت حكم حزب البعث، ولاسيما في ظل الأسد الأب والابن، والتي كان أحد أهم ركائزها عدم الاعتراف باللغة والثقافة الكرديتين، بحيث لم يكن بمقدور الفنانيين الأكراد، بالتالي، تقديم إبداعاتهم في سوريا إلا من خلال أشرطة التسجيل (الكاسيت)، وفي مرحلة ما عبر الإذاعة الكردية في بغداد التي تأسست في تشرين الثاني/ نوفمبر 1939، وتوقفت في آذار/مارس 2003 مع الغزو الأميركي للعراق.
وفيما كان يفترض أن تكون الثورة السورية التي بدأت شرارتها في آذار/مارس 2011 نهاية حقبة المعاناة، فإن المفارقة أن شاكر أجرى هذه المقابلة مباشرة عقب نزوحه، ضمن نحو 300 ألف مدني آخرين، عن مدينة رأس العين، نتيجة العملية العسكرية التركية “نبع السلام”، التي انطلقت في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019 ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في منطقة شرق الفرات.
نود العودة بك إلى نشأة الفنان محمد علي شاكر، والبيئة التي خرج منها
نشأت في بيت فلاح. وقد كان لهذه البيئة انعكاس على شخصيتي وفني. فرغم أنها بيئة بسيطة، وفر والدي لي ولشقيقي محمود الجو المناسب لممارسة هوايتنا الموسيقية بحرية كاملة، كتعويض عمّا فقده. إذ منع جدي المتدين والدي من ممارسة موهبته الموسيقية بالعزف على آلة الطنبور الكردية.
طالما أن والدك كان يفضل آلة الطنبور التي اشتهر بها الأكراد، لماذا خرجت عن الموروث الكردي وعزفت على العود؟
في أواخر ستينيات القرن الماضي كان أبي فلاحاً في إحدى القرى القريبة من رأس العين، وكنا نعمل معه. وكان في قرية مجاورة لنا الشاعر يوسف البرازي (بي بهار) الذي عمل مدرساً في مدرسة القرية، ويملك آلة العود.
مع بدء العطلة الصيفية، عزم المعلم البرازي على العودة إلى قريته الأصلية، فعرضنا عليه شراء العود التي كان يدربنا عليها، بمبلغ 25 ليرة سورية. فربما كانت الصدفة، التي أتاحت لنا شراء هذه الآلة التي لم تكن توجد غيرها آنذاك، هي سبب بدايتي مع العود.
ثم إن العود آلة كردية أيضاً، جلبها السومريون من جبال زاغروس [ضمن جبال كردستان الواقعة بين إيران والعراق وتركيا] إلى جنوب العراق قبل أكثر من 2000 عام قبل الميلاد. وكان عندنا في المنزل آلة أخرى نعزف عليها قبل العود هي المزمار؛ فكنا نتناوب على العزف على الآلتين.
كشاعر وفنان كردي عشت زمني ما قبل ثورة العام 2011 وما بعدها، كيف أثر ذلك فيك شخصياً كما في أعمالك؟
حافظت على عطائي الشعري والموسيقي. وكتبت ولحنّت ما أملاه ضميري عليّ تجاه شعبي المنكوب قبل الثورة وبعدها. فكتبت أشعاراً ولحنت أغانٍ قومية لمدن عفرين وكوباني وقامشلو [القامشلي]، وعن الشهيد أيضاً.
لكن بعد العام 2011، وخاصة ثورة شعبي، ازداد شعوري القومي، لأننا كنا قبل ذلك نضطر إلى الغناء بغير لغتنا لأن الغناء بلغتنا الكردية ممنوع.
“الينبوع” لقب أطلق عليك كناية عن أن الفنانين الأكراد من سوريا وإيران وتركيا والعراق شربوا من أشعارك، رغم ذلك كنت مغيباً، فما السبب؟
مثلي مثل كل الشعراء والملحنين الأكراد، إذ نادراً ما يذكر اسم المؤلف والملحن، عدا عن أني شخصياً لا أهتم بالأضواء كثيراً، يكفيني أن اسمي يذكر في أي مقابلة صحفية مع شقيقي محمود.
وفي الفترة الأخيرة وجدت اهتماماً أكبر من الإعلام، وتم تسليط الضوء على أعمالي، فأجريت مقابلات وحصلت على تكريمات.
وأعتقد أن تغييبي عن الإعلام ليس متعمداً، فكما هو مألوف دائما الشهرة تذهب للمغني، وحتى كلمات الأغنية تنسب له فيما بعد.
من جهة أخرى، مثلت قوميتي الكردية عائقاً أمام انتسابي لنقابة الفنانين السوريين. وحتى أرشيفنا الموسيقي غير معترف به، عدا عن أنه لا توجد أي جهة رسمية سورية تعمل بسياسة حفظ حقوق التأليف والطبع، الأمر الذي أفسح المجال أمام كثير من الفنانيين لغناء أشعاري وألحاني من دون موافقتي. بل ووصل الأمر بالبعض حد سرقة الأغنية والادعاء بأنه كاتبها وملحنها. وعلى سبيل المثال، فإن أغنيتي “Ez dil ketim wan çanan” [عشقت هاتين العينين] يغنيها أكثر من 50 مغن، وباستثناء فنانة واحدة، لم يذكر أي منهم اسمي.
عندما نتحدث عن فن كردي، شعراً وغناء، ما هي جوانب التميز وما هي جوانب الالتقاء والتمازج والتأثير المتبادل في البيئة الأوسع، العربية والشرق أوسطية عموماً (تركية وإيرانية)؟
لا أعتقد أن هناك تمايزاً في الموسيقى، وإنما في الطابع أو الأسلوب الموسيقي. إذ لكل شعب طابعه الخاص.
فالموسيقى الغربية تقسم إلى قسمين فقط، هما الصوت ونصف الصوت. أما في الموسيقى الشرقية، فيقسم الصوت إلى أربعة أقسام، هي ربع الصوت، ونصف الصوت، وثلاثة أرباعه، والصوت الكامل.
كذلك، تقسم الموسيقى الغربية إلى سلمين رئيسين، هما سلم (Do) الكبير، وسلم (Do) الصغير. أما في الموسيقى الشرقية الإيرانية القديمة فكان هناك 365 مقاماً، لكل يوم مقام، والمقام الرئيس هو مقام “الرست”. وحديثاً لا يتداول إلا عدة مقامات أشهرها الرست، والبيات، والصبا، والنهاوند، والكرد، والسيغا. وهذه من جوانب الالتقاء، فالسلم الموسيقي مقام “الرست” هو نفس المقام ونفس الأبعاد الموسيقية، الشيء المختلف هو الطابع أو الأسلوب لجميع القوميات الشرقية.
تحتفل بـ”اليوبيل الذهبي” وأنت نازح عن مدينتك رأس العين. كيف تصف لنا شعورك؟
هذا قدرنا. خرجنا بملابسنا وتركنا كل شيء خلفنا؛ بيتي بما فيه وذكريات حياتي، وكذلك آلاتي الموسيقية وألبوماتي كلها.
تركت خلفي آلة كمان فرنسية عمرها أكثر من 200 عام، والعود، وألبومات الصور، وبعض الأشرطة الصوتية (الكاسيت).
حزين لأنني لم أصطحب تلك الأشياء معي. كنت أعتقد بأن الأمر لن يطول وسنعود قريباً، ولم أتوقع أن يكون هناك غزو ونهب لبيوتنا كما حصل. إذ أخبرتنا جارات لنا زرن سري كانيه [رأس العين] أن الحي كله مسروق، وقد تحول إلى ثكنات عسكرية، بما في ذلك منزلي الذي صار قبوه سجن.
مقابل ذلك، لا أخفيك أن السعادة تغمرني بحلول “اليوبيل الذهبي”. إذ نتج عن الخمسين سنة نظم وتلحين 270 أغنية، وتلحين 30 أغنية لشعراء آخرين. كذلك غنى شقيقي محمود وآخرون 170 أغنية لي، و30 أغنية غنيّتها بنفسي.
كيف تقرأ انعكاس الحرب على الفن عموماً، والفن الكردي على وجه الخصوص؟
رغم التأثير السلبي للحرب على الفن، فإن النشاطات الفنية لا تتوقف، من قبيل دورات تعليم العزف أو الفنون الأخرى.
في الحرب لا يتوقف الفن. ورغم أن الحرب معناها الخراب، فإن الموسيقي يتكيف، ويمكنه في مثل هذه الظروف تقديم أغان حماسية، تحفّز الدفاع عن الوطن، وتثير الهمم. أنا، على سبيل المثال، لم يمر حدث شعبي علي إلا وكتبت عنه شعراً ولحنّت الشعر ليتحول إلى أغنية. وقد لحنّت أغانٍ عن البيشمركة، والشهيدة ليلى قاسم [الناشطة السياسية كردية عراقية التي أعدمت على يد السلطات العراقية العام 1974]، وأحداث حلبجة [التي شهدت مقتل 5000 مدني في كردستان العراق، بالأسلحة الكيماوية العام 1988، ضمن ما سماه نظام صدام حسين “عملية الأنفال”]، وكركوك، وعفرين، وكوباني، وحتى عن الصحافية الكردية شفاء غردي التي استشهدت في الموصل.