مراسم الدفن والعزاء تزيد من معاناة مسيحيي دمشق وريفها في ظل الأزمة الاقتصادية
يعاني المسيحيون من "مراسم ما قبل الدفن وبعده، في ظل الغلاء الذي طال كل شيء"، يزيد من هذه المعاناة "تمسك بعض الطوائف المسيحية بعادات وتقاليد مكلفة".
31 مايو 2022
دمشق- إذا كانت ظروف الحياة صعبة بالنسبة للقاطنين في مناطق سيطرة النظام السوري، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد بفعل الحرب، وتدهور سعر صرف الليرة السورية، فإن “مراسم” الموت لا تقلّ صعوبة، ولا تفرّق بين الوفيات على أساس الدين أو الطائفة.
بعد أكثر من أحد عشر عاماً على الحرب في سوريا، التي دفعت بأكثر من 90% من سكان سوريا إلى ما دون خط الفقر، ترهق مراسم دفن الموتى والعزاء المسيحيين والمسلمين على حدّ سواء، حتى صار الموت عبئاً ثقيلاً على أصحاب الدخل المحدود في كل الطوائف والأديان.
ويعاني المسيحيون من “مراسم ما قبل الدفن وبعده، في ظل الغلاء الذي طال كل شيء”، وفقاً للمطران عطا الله، الذي يعمل في بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، يزيد من هذه المعاناة “تمسك بعض الطوائف المسيحية بعادات وتقاليد مكلفة”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
وتراجعت نسبة المسيحيين في سوريا بالنسبة لإجمالي عدد السكان من 10% قبل عام 2011 إلى 3% حالياً، ويقدر عدد المسيحيين الحالي بنحو 638 ألف نسمة، بحسب أرقام صادرة عن منظمة “الأبواب المفتوحة”.
طقوس وعادات الدفن
تجري مراسم دفن موتى المسيحيين في سوريا، بما في ذلك دمشق وريفها، عبر طباعة “النعوة” ولصقها على باب الكنيسة وفي الحي الذي يقطن فيه المتوفى وعلى باب منزله، ومن ثم يجتمع الناس أمام منزل الفقيد لمرافقة الجنازة إلى الكنيسة، حيث “يقام قدّاس وصلاة على الميت”، ومن ثم يسير موكب الجنازة، رفقة المطران أو الخوارنة إلى المقبرة، بحسب المطران عطا الله.
وكانت فخامة الجنازة سابقاً “تعكس مكانة المتوفى الاجتماعية والمالية”، لكن اليوم أصبحت أغلب الجنائز “عادية”، بحسب المطران، معرباً عن أسفه أن تكون “الفوارق حتى في الموت”. هذه الفوارق تتراوح بين “دعوة عدة طوائف ورهبانيات وجمعيات خيرية، وجوقة موسيقية تعزف الألحان الجنائزية، وأكاليل الورود الطبيعية” أو دعوة “قسّ واحد وأكاليل من الحديد المستأجرة”.
قبل آذار/ مارس 2011، كانت تكاليف الدفن ومراسم العزاء تتراوح بين 35 و45 ألف ليرة سورية (700 و900 دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف آنذاك)، وتتوزع على: ثمن التابوت، رسوم افتتاح الكنيسة، أجور الخوري، إضافة إلى ما يسمى “لقمة الرحمة”، وهي تقديم الطعام على روح المتوفى، كما قال فهد، الذي توفي والده قبل شهرين، ودفن في مسقط رأسه بقرية عرنة في ريف دمشق.
اليوم، تصل تكاليف مراسم الدفن والعزاء عند المسيحيين في دمشق وريفها إلى مليون ليرة سورية (253 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية البالغ 3945 ليرة للدولار)، من دون “لقمة الرحمة” التي يحاول المسيحيون الاستغناء عنها في هذه الظروف، وفقاً لفهد.
ومع أن المبلغ الحالي بالدولار أقل من نصف المبلغ قبل 2011، إلا أنه يتزامن مع أزمة اقتصادية غير مسبوقة تشهدها البلاد، ويعادل عشر أضعاف متوسط الرواتب الحكومية في سوريا، المقدّر بنحو 92 ألف ليرة (23 دولاراً).
وعليه، اضطر فهد، 44 عاماً، إلى استدانة 750 ألف ليرة (190 دولاراً)، لتغطية تكاليف مراسم دفن والده، إذ لا يكفي راتبه البالغ 120 ألف ليرة (30 دولاراً)، لقاء عمله كموظف حكومي في دمشق، لتغطية النفقات.
رسوم الكنيسة
في نيسان/ أبريل الماضي، توفي والد طوني، المقيم في حي الدويلعة الدمشقي، ونظراً للظروف الاقتصادية للعائلة “اختصرنا تكاليف الدفن ومراسم العزاء للحد الأدنى”، كما قال الشاب الذي يعمل في صيانة الأدوات الكهربائية بالدويلعة.
ودفعت عائلة طوني، 37 عاماً، 50 ألف ليرة سورية (12.5 دولاراً) لاستئجار سيارة دفن الموتى، التي نقلت والده من المستشفى إلى مقبرة باب شرقي، و350 ألف ليرة (89 دولاراً) ثمن تابوت، وبدلاً من توزيع الطعام على المعزّين، المعروف بـ”لقمة الرحمة”، اكتفت العائلة بتقديم القهوة المرّة، كما قال طوني لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن العائلة “لم تدفع رسوم افتتاح الكنيسية لأن كنيستهم تموّل من الرعية”.
تختلف جنائز المسيحيين من منطقة إلى أخرى، بحسب “العادات والتقاليد المتبعة في كل منطقة”، ولا يمكن حدوث “الاختلاط بالدفن بين الطوائف المسيحية: الأرثوذكس، الكاثوليك، والبروتستانت، فلكل طائفة مدفن [مقبرة] خاص بها”، كما قال الخوري جوني لـ”سوريا على طول”.
وأحياناً، يضطر بعض المسيحيين إلى دفع “رسوم افتتاح الكنيسة في وقت الجنازة”، وفقاً للخوري، وتصل تكلفة افتتاحها إذا كانت تتبع للبطريركية مالياً إلى 100 ألف ليرة (25 دولاراً)، ويفرض هذا الرسم “كمصاريف للخوري وجوقة المرتلين، إضافة إلى حاجة الكنيسة للتنظيف بعد العزاء”، بحسب الخوري. أما إذا كانت الكنيسة “ممولة من الرعية [الناس]، فلا تأخذ الكنيسة رسم افتتاح وتسمى في هذه الحالة سمحة نفس”.
يضاف إلى ذلك، الأجور التي يطلبها بعض الخوارنة والمطارنة، وتصل إلى 300 ألف ليرة (76 دولاراً)، مقابل القدوم إلى مراسم الدفن، كما قال الخوري، المقيم في منطقة باب شرقي بدمشق، وهي أحد أماكن وجود المسيحيين بالعاصمة، وتوجد فيها مقبرة لدفن المسيحيين.
دفن بالتابوت
ترفض بعض العائلات المسيحية دفن موتاها من دون تابوت، وهي من طقوس “دفن الموتى عندنا ولا يمكن التخلي عنها تحت أي ظرف”، وفقاً لفهد، الذي اضطر إلى دفع 300 ألف ليرة (76 دولاراً) ثمن التابوت، معتبراً أنه “لا يمكن وضع جثة المتوفى في التربة من دون تابوت”.
ولا يوجد نصّ أو عرف ديني يلزم ذوي المتوفى بهذا التكاليف، خصوصاً الدفن بالتابوت، بحسب المطران عطا الله، مشيراً إلى أن ذوي المتوفى يمكنهم “الاكتفاء بافتتاح الكنيسة واستقبال المعزّين فقط”، لكن العادات هي التي تحكم.
ذات مرّة طلب المطران من الناس “الاستغناء عن الدفن بالتابوت لارتفاع كلفته المادية”، لكنهم “رفضوا رغم ظروفهم المادية السيئة”، كما قال المطران، مشيراً إلى أن ذوي المتوفى “يصرّون على بعض مراسم الدفن والعزاء رغم كونها تقليداً وليس فرضاً دينياً”.
حتى سيارة دفن الموتى “يمكن الاستغناء عنها، ورفع النعش على الأكتاف في حال كانت المسافة قريبة بين أهل المتوفى والمقبرة”.
ومع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية للسوريين، بما في ذلك المسيحيين، بدأت بعض العائلات تتخلى عن طقوس الدفن والعزاء، بحسب الخوري جوني، مستدلاً على ذلك ببعض العائلات المسيحية في مدينة قطنا وبلدة جديدة عرطوز بريف دمشق، حيث “تخلّى ذوو المتوفى عن شراء التوابيت نظراً لارتفاع أسعارها وسوء أوضاعهم”.