مسنة من اللاذقية: الجنون بعينه أن لا أرى ابنتي وهما لا تبعدان عني سوى بضع كيلومترات!
عندما تتذكر أم رهف، المسنة ذات الـ71 عاما، زوجها الراحل […]
14 فبراير 2017
عندما تتذكر أم رهف، المسنة ذات الـ71 عاما، زوجها الراحل هاني، تمر في مخيلتها صور الأيام السعيدة: طفولتها في مدينة اللاذقية الساحلية حيث كان لقاؤهما الأول، السنوات التي أمضياها معا، وابنتيهما.
تقول أم رهف، لمراسلة سوريا على طول، نورا حوراني، من منزلها في اللاذقية، الخاضعة لسيطرة النظام، “الحياة في ذلك الوقت كانت بسيطة وجميلة، والناس كانت تساعد بعضها البعض، الكل كان كعائلة واحدة”.
بعد موت زوجها، منذ ما يقارب العشر سنوات، أصبح منزل أم رهف خاليا إلا منها. حيث تعيش كل من ابنتيها اللتين اعتادت زيارتهما “كل شهر”، قبل الحرب، مع زوجيهما وأطفالهما، في بلدة صغيرة في جبل الأكراد.
وتقع البلدة اللتي تعيش فيها ابنتا أم رهف، على بعد 35 كم فقط من مدينة اللاذقية، ولكن كونها خاضعة لسيطرة الثوار يجعل من وصول أم رهف إليها أمرا صعبا للغاية.
وأدى انتشار الحرب في مناطق متعددة إلى تقسيم العائلات والأصدقاء، حيث تقول أم رهف أن حواجز وحدود “من صنع أيدينا”، باتت تفصل منطقة عن الأخرى.
رسم كريستين جبران. تصوير: الذاكرة الإبداعية للثورة السورية.
وأشارت أم رهف إلى أنه ليس بمقدورها الذهاب إلى مناطق المعارضة بأمان، وكذلك لا تستطيع ابنتاها المجيئ إلى مناطق سيطرة النظام.
وهكذا، تُرِكت أم رهف لتعيش سنواتها الأخيرة وحيدة، وخائفة من الموت في بيتها دون أن يعرف أحد ذلك.
حيث تقول “أحياناً أكون مريضة، ولا أستطيع الخروج، فأبقى في منزلي دون طعام لأيام، آكل ما تبقى من فتات الخبز الناشف المتبقي لدي”.
وتضيف “كثيرا ما أشعر بالحرج من طلب المساعدة من الغرباء فهم لديهم أشغالهم”.
- أم رهف، من اللاذقية، امرأة في السبعينات من العمر، توفي زوجها بمرض القلب قبل 10 سنوات، لديها ابنتان متزوجتان وتعيشان في مناطق سيطرة المعارضة في جبل الأكراد، في ريف اللاذقية.
كيف أثر انقطاع بناتك عنك على حياتك اليومية؟
بعد الحرب وحرماني من زيارتهم يعطف علي بعض الجيران ويساعدوني بإحضار أغراضي من طعام ودواء.
أحياناً أكون مريضة، ولا أستطيع الخروج، فأبقى في منزلي دون طعام لأيام، آكل ما تبقى من فتات الخبز الناشف المتبقي لدي. وكثيرا ما أشعر بالحرج من طلب المساعدة من الغرباء فهم لديهم أشغالهم.
أقضي أيامي خوفاً من الموت في منزلي دون أن يشعر بي أحد، وأخفي ما استطعت دموعي وأوضاعي عندما تتصل بي إحدى بناتي لتطمئن علي.
“سوريا قبل وبعد”، لمصطفى جانو. تصوير: الذاكرة الإبداعية للثورة السورية.
لديك ابنتان، تعيشان في منطقة قريبة في جبل الأكراد، على بعد 35 كم فقط بعيدا عنك. هل لك أن تحدثيني عن العقبات التي تحول بينك وبين زيارتهما؟ هل حاولت أي منهما زيارتك طوال هذه المدة؟
لدي ابنتان متزوجتان، تعيش كل منهما مع عائلتها في قرية صغيرة في جبل الأكراد، تسيطر عليها قوات المعارضة.
رأيتهم آخر مرة منذ سنة ونصف تقريبا، وأنا من ذهبت لزيارتهم على اعتبار أنني امرأة مسنة ونسبة الخطورة أقل من ناحية المساءلة الأمنية.
النظام سيوجه لي تهمة التوجه الى أماكن المعارضة، وسيعتبرون أنني أقوم بمساعدتهم بنقل معلومات أو التمويل. أما بنتاي فمن المؤكد أن مصيرهما ومصير أطفالهما وزوجاهما سيكون الاعتقال في حال فكروا بزيارتي، ويكفي أن يكونوا من سكان مناطق تخضع لسيطرة المعارضة لتكون كفيلة باعتقالهم وتلفيق تهمة الإرهاب لهم.
هل بإمكانك أن تحدثيني قليلا عن زوجك؟ كيف التقيتما؟
تعرفت على زوجي في الحي القديم الذي كنت أسكنه عندما كنت أعيش مع أمي وأبي قبل أن أتزوج، حيث كان يعيش في نفس الحي. في ذلك الوقت كانت الحياة بسيطة والناس تقريباً كلها تعرف بعضها البعض فمدينة اللاذقية مدينة صغيرة، تقدم بطلب الزواج مني عندما كنت في 24 من العمر وكان هناك خطبة وحفلة زواج تقليدية.
بصراحة كنت سعيدة جداً بزواجي، ولم أذكر في فترة زواجي أن تخاصمنا ليوم كامل على التوالي، كان زوجي موظفا حكوميا وراتبه بسيط ، ولكن كان يحاول جاهداً أن يؤمن لي كل احتياجاتي، لم يكن ينقصني شيء أبداً، فالحياة في ذلك الوقت كانت بسيطة وجميلة والناس كانت تساعد بعضها البعض الكل كان كعائلة واحدة.
هل توقعت في أي وقت مضى أن تكون حياتك كجدة على هذا النحو؟ عندما كنتِ أصغر سنا، كيف كانت تعيش النساء المسنات في عائلتك؟ هل تمنيت يوما أن تعيشي كحياتهن عندما تكبرين؟
في الواقع نحن عشنا ظروف الحرب والحصار قبل ذلك في حرب تشرين 1973 مع إسرائيل، ولكن كانت تلك الحرب مختلفة، كانت مع عدو خارجي وليس بين أبناء الشعب الواحد، حرب تشرين زادت الناس ترابطاً وألفة الكل يساعد بعضه، اليوم نحن نقتل بعضنا، الأخ يقتل أخاه والأسر تشتتت بين مؤيد ومعارض وكأن لعنة حلت على هذا الشعب.
لا أستطيع أن أدرك كيف أنني أعيش ضمن حدود بلدي وأرضي ولا أتمكن من دخول مدينة أخرى أو قرية قريبة لطالما قضيت فيها ذكريات جميلة وكأنها أرض محتلة محرمة، كيف يمكن أن لا أرى ابنتي وهما لا تبعدان عني سوى بضع كيلومترات، هذا هو الجنون بعينه، حواجز وحدود داخل بلدنا ومن صنع أيدينا.
المسنون في عائلتي عاشوا حياة طبيعية، كانوا يتلقون الرعاية من أبنائهم وأحفادهم حتى توفوا بعزة وكرامة ومراسم تأبين كريمة، إذا توفيت اليوم سأموت غريبة ذليلة وربما لن أجد من يخرج في جنازتي .
توفي زوجك هاني قبل بدء الحرب بعدة سنوات. عندما تفكرين به الآن، هل تتمنين لو أنه بجانبك؟ أم أنك سعيد لأنه لم يرى هذه الحرب؟
عندما أتذكر زوجي وأتذكر ذلك الزمن الجميل أقارن بين وضعي سابقاً ووضعي الآن. لم يخطر على بالي أبداً أن أصل إلى هذا الوضع الذي أنا عليه الآن، الوحدة والشقاء، لطالما كان بيتي لا يخلو من الضجيج والحياة. لم أتخيل للحظة أن يأتي زمان لا أجد فيه أحد يطمئن علي أو يطرق بابي، اليوم ينقصني كل شيء.
أحياناً أتمنى لو كان زوجي بقربي في أيامي الصعبة، لكن عندما أفكر بالحرب والحرمان والفقر والدمار الذي حل بالبلد أقول في نفسي بأن روحه ارتاحت من رؤية ما وصلنا إليه اليوم، من الأفضل له أنه لم يرى القتل والتشرد ويسمع ما حل بأقربائه وجيرانه وأبناء شعبه.
أتمنى لو أنني توفيت كما توفي زوجي منذ زمن طويل ولم أعش سنوات الحرب هذه، أعتقد أن روحه ترقد بسلام الآن.
ذكرتِ أنكِ ذهبتِ لزيارة ابنتيك منذ عام ونصف تقريبا رغم الخطر، حدثيني كيف كانت رحلتك؟ ولماذا عدتِ إلى المدينة؟
بعد خروج القرية التي تعيش فيها ابنتاي عن سيطرة النظام منذ 2013، بقيت مدة سنتين و6 أشهر لم أراهما فيها، وقبل الحرب اعتدت ان يقوموا بزيارتي كل شهر، فأنا امرأة في السبعينات من العمر وزوجي متوف وأعيش وحدي في منزلي، ليس لدي أحد يرعاني إلا بناتي.
لم أستطع تحمل بعدهن عني أكثر من ذلك، وقررت أن أذهب لرؤيتهما مهما كان الثمن، وعدني ابن جارتي الذي لديه أصدقاء من الشبيحة على الحواجز، أن يذهب ويرافقني ولكنه طلب مبلغا من المال ليقوم بتوزيعه كرشوة للحواجز.
دفعت قرابة 1500 دولار رشاوي، ومررنا على 5 حواجز من اللاذقية حتى آخر حاجز في مناطق سيطرة النظام.
رافقني الخوف من المجهول طيلة الرحلة، وفي كل لحظة كنت أدعو أن تمر الأمور على خير.
عند الحاجز الأخير تركني ابن جارتي حيث لا يستطيع أن يكمل في مناطق المعارضة، في هذه الأثناء كنت على تواصل مع أزواج بناتي الذين استقبلوني عند حاجز المعارضة في تلك المنطقة طبعا بمساعدة الجيش الحر.
مشيت قرابة الساعة على الأقدام وتابعت بعدها بالسيارة حتى وصلنا.
فرحتي كانت لا توصف عندما رأيتهم، تمنيت لو أستطيع أن أبقى معهم للأبد، فأيامي أصبحت معدودة بالحياة وأريد أن أمضيها بقرب من أحب.
بقيت عند بناتي مدة أسبوعين وبعدها عدت الى بيتي في اللاذقية.
لكني عدت بنفس الطريقة حيث أن الشبيحة اشترطوا على ابن جارتي العودة، وأخذو جميع ما نملك من أوراق ثبوتية لضمان عودتي وأخذ المزيد من الرشاوي.
ترجمة: سما محمد