مقال رأي: في الذكرى السنوية الـ 75 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان: على الأمم المتحدة تعيين مقرر خاص بشأن الإفلات من العقاب
مع مرور 75 عاماً على تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يدعو الناشط الحقوقي والباحث القانوني السوري، منصور العمري، الأمم المتحدة إلى اتخاذ إجراءات للتصدي لمسألة "الإفلات من العقاب"، بما فيه تعيين مقرِّر خاص معني بمسألة "الإفلات من العقاب" على الجرائم الدولية: جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، وجريمة العدوان.
10 ديسمبر 2023
في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، يُحتفى بيوم حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم إحياءً لذكرى تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مثل هذا اليوم من عام 1948. مرَّ 75 عاماً على هذا الإعلان، الذي تصفه الأمم المتحدة بـ”واحدٍ من أهم التعهدات الرائدة في العالم”.
تحتفي الأمم المتحدة بهذا اليوم هذا العام باحتفال تاريخي تحت عنوان “مبادرة حقوق الإنسان 75“. تتجلى أحد أهداف الأمم المتحدة في الذكرى الـ 75 في “إلهام الناس لخلق حركة إنسانية مشتركة وتمكينهم في الوقت ذاته من النضال من أجل حقوقهم، واتخاذ الإجراءات اللازمة في هذا الصدد”، وهو الهدف الذي يمهِّد له الطريق عديد من السوريين وشركائهم منذ سنوات.
كأعضاء في المجتمع المدني السوري، نناضل محلياً ودولياً من أجل حقوقنا وحقوق الجميع الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والتي تتضمن:
- المادة 3: لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه.
- المادة 5: لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة.
- المادة 7: الناس جميعاً سواءٌ أمام القانون، وهم يتساوون في حقِّ التمتُّع بحماية القانون دونما تمييز.
- المادة 9: لا يجوز اعتقال أيِّ إنسان أو حجزُه أو نفيُه تعسُّفاً.
تنص المادة 8 من الإعلان على أنَّ: “لكلِّ شخص حقُّ اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصَّة لإنصافه الفعلي من أيَّة أعمال تَنتهك الحقوقَ الأساسيةَ التي يمنحها إيَّاه الدستور أو القانون”.
في سوريا، استباح النظام السوري وحكوماته المتلاحقة القانون الوطني وانتهكت كل مافيه، وطبقته بطريقة انتقائية فجَّة بما يتعارض مع سيادة القانون وأبسط ركائز الشرعية القانونية، ناهيك عن انتهاكات المادتين 7 و8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. صمم نظام الأسد القانون الوطني بطريقة تحمي الجناة وتمنحهم الحصانة المطلقة مهما شنُعت جرائمهم.
أخرجت هذه الممارسات عدداً لا يحصى من السوريين من مظلة قانون بلادهم، وحرمتهم من الحصول على الحقوق الأساسية والحماية في كنفه، وأرسلت بهم إلى المنفى، مبحرين في شتى أنحاء العالم بحثاً عن نظام قانوني يعتنقونه ويطبقونه.
بعد جهود عظيمة وتضحيات لا حصر لها و خيبات كثيرة، وجد السوريون ضالتهم المنشودة في عالمية القانون الدولي والولاية القضائية العالمية للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وقد ضخت الجهود السورية بالتضافر مع الشركاء الدوليين نفساً جديداً في القانون الدولي وماهية استخدام الولاية القضائية العالمية.
أسفرت الفظائع الجماعية التي تعرض لها السوريون لأكثر من عقد من الزمن، والفظائع الجماعية التي تعرض لها ضحايا آخرون في بلاد أخرى، عن خلق علاقة وطيدة بينهم وبين القانون الدولي. بالنسبة للسوريين حالياً، أصبح القانون الدولي هو قانونهم الوطني المفقود، وهو الملاذ الأخير للعديد من الضحايا حول العالم.
اليوم في الذكرى السنوية 75 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بات من المُلِّح جداً أكثر من أي وقت مضى تطوير استراتيجية عالمية، بما في ذلك تعيين مقرِّر خاص للأمم المتحدة معني بمسألة الإفلات من العقاب، لتعزيز القانون الدولي والمساءلة عن الجرائم الدولية المنتشرة كالنار في الهشيم، وصون السلم والأمن الدوليين. أرضية هذه الاستراتجية منصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ووضعها يَفي بتعهدات الإعلان وأهداف الأمم المتحدة المعلنة لحماية حقوق الإنسان.
ارتفاع أعداد ضحايا الفظائع الجماعية حول العالم مؤشر مرعب لا بدَّ أن يدفعنا للتصرف حيال ذلك. الإفلات من العقاب ليس حكراً على بلد بعينه، وإنما هو وباء عالمي يتجاوز الحدود الدولية. قُتل مئات الآلاف وشُرد الملايين وفي سوريا وفلسطين وإسرائيل والسودان واليمن وأوكرانيا وليبيا وأماكن أخرى، بسبب الفظائع الجماعية المرتكبة دونما مساءلة وما يزال الملايين يعانون من عواقب هذه الجرائم.
تمكن الجناة، سواء كانوا حكومات أو جماعات مسلحة غير حكومية من الإفلات من العقاب طويلاً، ويقلدون الأساليب الإجرامية واستراتيجيات بعضهم البعض لتجاوز العقوبات والمحاسبة.
مكافحة الإفلات من العقاب مدرجة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، أصدرت ميشيل باشيليت، التي كانت آنذاك مفوِضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بياناً حول آليات المساءلة والمكافحة العالمية للإفلات من العقاب، مؤكدةً أن “سيادة القانون والمساءلة أسس لا غنى عنها للحماية الفعَّالة لحقوق الإنسان” من خلال ردع الانتهاكات ومنعها، ومواجهتها والتصدي لها بطريقة فعالة عند حدوثها.
المساءلة هي عملية تُحمِّل مرتكبي الجرائم المسؤولية عن جرائمهم من خلال فرض العقوبات. الإفلات من العقاب أو انعدام العقوبة يؤدي إلى تعطيل النظام القانوني برمته، وذلك من خلال إبطال مبدأ قانوني لا غنى عنه ألا وهو: الردع.
الإفلات من العقاب يفضي إلى ذات المخاوف المطروحة في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي حذرت من أن “تناسي حقوق الإنسان وازدرائها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني”، مشددة على ضرورة أن “يتولى القانون حماية حقوق الإنسان حتى لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم”.
إن المفهوم السائد بأنَّ الجناة سيعاقبون على ما اقترفته أيديهم يردع من ارتكاب الجرائم مستقبلاً ويصون الأرواح. يمكن أن يكون الردع مباشراً أو غير مباشر. معاقبة فرد أو حكومة أو جماعة مسلحة يقلل من احتمالية ارتكابهم لجريمة أخرى خشية نيلهم عقوبة أخرى قد تكون أسوأ من سابقتها. كما أنَّ معرفة الأفراد والحكومات والجماعات المسلحة بالعقوبات التي نالها آخرون، تقلل من احتمالية ارتكابهم الجرائم لتيقنهم بأنهم لن يفلتوا من العقاب.
عندما يرى الضحايا أنَّ مرتكب الجريمة ينال عقابه، فسيعلمون أن الإجراءات الجنائية نافذة، وتؤدي ما هو مناط بها. تحول عملية مساءلة الجناة دون وقوع جرائم محتملة مستقبلاً من خلال ترسيخ الإيمان بآليات العدالة ومبدأ القصاص بالمثل.
مكافحة الإفلات من العقاب تساعد الناجين وذوي الضحايا في رحلتهم للتعافي مما عانوه من الأذى. الإفلات من العقاب عقبة في طريق التعافي. تعاني نسبة عالية من الناجين من هشاشة نفسية كبيرة سببها عدم مساءلة الجناة.
دور الأمم المتحدة في مكافحة الإفلات من العقاب
في سياق الالتزام بالتعهدات المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يمكن للأمم المتحدة، بل ينبغي لها، أن تُظهر استجابة ملموسة إزاء انتشار الفظائع الجماعية من خلال وضع استراتيجية فعالة لمكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم الدولية.
ويجب على الأمم المتحدة أن تؤدي دوراً قيادياً في مكافحة الإفلات من العقاب. إن التصدي لمسألة الإفلات من العقاب، لا تعني معاقبة الجناة فحسب، إنما العمل على تحقيق الحقوق الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإنقاذ الأرواح وحماية المستضعفين، بما في ذلك الأطفال والنساء، الذين من المرجح أن يكونوا الأكثر معاناة من الفظائع الجماعية.
إن تعيين مقرر خاص يتمتع بالمصادر الكافية للبحث في مسألة الإفلات من العقاب على الجرائم الدولية يعدّ خطوة أولى. كما أنَّ إنشاء فريق عمل من الخبراء هو خطوة ضرورية أخرى. ويمكن لخبراء الأمم المتحدة إجراء فحص تفصيلي لأسباب وعواقب الإفلات من العقاب. وينبغي لها تقييم إجراءات الاستجابة الحالية وتطوير أدوات جديدة، بما في ذلك تعزيز التحقيقات الوطنية ومقاضاة الجرائم الدولية.
ويتعين على الأمم المتحدة العمل على إنشاء منتدى عالمي لتبادل أفضل الممارسات في مجال التصدي للإفلات من العقاب، بما في ذلك الأساليب الناجعة في فرض القانون الجنائي الدولي.
تتضمن عملية مكافحة الإفلات من العقاب عرقلة المساعي الرامية لتطبيع العلاقات السياسية مع مرتكبي أبشع الجرائم، كما تتضمن التدقيق والمراقبة الدقيقة لأي تمويل إنساني في مناطق سيطرة مرتكبي الجرائم، لضمان عدم إسهام تلك الأموال في المزيد من الفظائع الجماعية.
تم نشر هذا التقرير أصلاً في الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.