مكفولون في بلادهم: النازحون في شمال شرق سوريا بين الروتين والتمييز
الإدارة الذاتية تفرض على المواطن السوري العربي في مناطق سيطرتها بشمال شرق سوريا استصدار بطاقة الوافد وتقيد حركته، فيما تستثني المواطن الكردي من ذلك
31 مايو 2021
عمان- أسوأ من الإجراءات الروتينية لتجديد “بطاقة الوافد”، أو ما يعرف بـ”الكفالة”، التي تفرضها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا على النازحين إلى مناطق سيطرتها، هو “نظرة الشك تجاه النازح العربي”، التي يستشعرها عبد الله السليم (اسم مستعار)، ابن مدينة دير الزور المقيم في مدينة الرقة، كما قال لـ”سوريا على طول”.
معاناة السليم تتجدد كل ستة أشهر. إذ للحصول على بطاقة الوافد أو تجديدها، يتعين على الشخص تقديم صورة عن الهوية الشخصية، وصوراً شخصية، وعقد إيجار، بالإضافة إلى وجود شخصين، أحدهما كفيل والآخر شاهد، على أن يكون “الكفيل حصراً من مركز المدينة التي يقيم فيها طالب الكفالة، فيما يخضع الشاهد للتحقيق من مكتب شؤون الوافدين”، بحسب السليم الذي اشتكى من “التعطل عن العمل لأكثر من يوم لاستكمال الإجراءات المطلوبة”.
ومنذ العام 2014، فرضت “الإدارة الذاتية” على الوافدين إلى مناطق نفوذها استصدار “بطاقة وافد”. ورغم إصدار الهيئة الرئاسية في المجلس التنفيذي للإدارة الذاتية قراراً يقضي بتسهيل إجراءات حصول السوريين الوافدين إلى شمال شرق سوريا على البطاقة، إلا أن معاناة هذه الشريحة مستمرة، مع استهداف مكونات عرقية دون غيرها، بحسب ما ذكرت مصادر عدة لـ”سوريا على طول”.
وتبدأ معاملة الوافد بتقديم ثبوتياته الشخصية إلى “الكومين” أو مختار الحي، وهي أصغر وحدة في الهيكل الإداري للإدارة الذاتية، للحصول على ورقة يتم تصديقها من “دار الشعب”، وهو مكتب يتبع للمجالس المدنية في شمال شرق سوريا، ويعدّ صلة الوصل بين مؤسسات الإدارة المدنية التابعة للإدارة الذاتية والمواطنين. بعد ذلك، يُقدّم الطلب لـ”مديرية السجل المدني” في المنطقة التي يقطنها طالب الكفالة أو بطاقة الوافد، لتقوم المديرية بدورها بتقديم الطلب إلى الأمن الداخلي من أجل التدقيق الأمني وإعطاء موافقة أمنية، بحيث “يستغرق الحصول على الموافقة من عشرة إلى خمسة عشر يوماً”، بحسب السليم.
لا استثناءات
حتى سنوات قليلة بعد اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011، كانت المحافظات السورية مفتوحة أمام جميع المواطنين من دون قيود. وكان لبعض القرارات الحكومية، من قبيل تعيين موظفي الدولة في محافظات أخرى، أو فرز العسكريين، مجندين أو متطوعين، في غير محافظاتهم الأصلية، دور في استقرار سوريين في غير محافظاتهم.
لكن تقطيع أوصال سوريا إلى مناطق نفوذ متعددة، تسبب في تقييد حركة المواطنين السوريين بين المحافظات، وتعزيز أزمة المناطقية، لينعكس ذلك على المقيمين أصلاً في غير مناطقهم الأصلية، كما الحال في مناطق شمال شرق سوريا التي تخضع لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وتديرها الإدارة الذاتية اللتان يهيمن عليهما المكون الكردي.
إذ رغم مرور 20 عاماً على إقامته في مدينة منبج بريف حلب الشمالي الشرقي، والتي تخضع الآن لسيطرة الإدارة الذاتية، يجد أبو محمد نفسه مضطراً لاستخراج “بطاقة وافد”، وتجديدها كل ستة أشهر، كما قال لـ”سوريا على طول”.
وعدا عن وصفه نظام “الكفالة” في شمال شرق سوريا بأنه “غير إنساني”، استنكر أبو محمد تطبيقه على المقيمين قبل اندلاع الثورة السورية. إذ “كيف يُفرض عليّ تجديد الإقامة مع عائلتي بعد سنوات من الإقامة هنا، وخدمتي في إحدى المؤسسات التي كانت تتبع للنظام السوري؟”.
وفيما تزامن فرض نظام الكفالة مع إعلان “قسد” حملتها العسكرية ضد تنظيم “داعش” في الحسكة، بدعوى ضبط أمن المنطقة، والقضاء على خلايا التنظيم، فقد سرى القانون على جميع المقيمين القادمين من خارج المحافظة، بما في ذلك المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام في مدينة الحسكة أو ما يعرف بـ”المربع الأمني”. إذ خلال محاولته زيارة دمشق مع عائلته، تلقى أحد سكان المربع الأمني في الحسكة تحذيراً “من الإدارة الذاتية بضرورة عودته رفقة زوجته، وهي من قيود دير الزور”، بحسب ما ذكر ناشط إعلامي لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن هويته لدواع أمنية.
وأضاف الناشط: “القيد المدني للزوج في الحسكة، لذلك يحق له الخروج والعودة إلى المنطقة، لكن الزوجة لا يسمح لها بالعودة من دون مرافقتها زوجها واصطحابهما للبطاقة العائلية”.
رداً على ذلك، نفى ممثل الإدارة الذاتية في الخارج، هوفان إبراهيم، اشتراط استصدار “بطاقة وافد” على كل المقيمين في شمال شرق سوريا، موضحاً أن المقيمين قبل العام 2011 “مستثنون من قانون الكفالة، شريطة تقديم كتاب من الكومين يشهد بأن هؤلاء ليسوا وافدين جدداً، ويوضح فيه كل الملابسات”.
واستشهد إبراهيم في حديثه إلى “سوريا على طول” بوجود عشرات العائلات من محافظات درعا وحمص وحلب “متواجدين في المنطقة منذ عشرين سنة، يمارسون حياتهم ويتنقلون من دون أي تقييد”.
نموذج عن بطاقة الوافد الصادرة عن الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا
انتهاك لحقوق المواطنة
سعياً لتحقيق “الأمن والأمان في منطقة عانت لسنوات من الإرهاب”، فرضت الإدارة الذاتية نظام الكفالة، بحسب ابراهيم، على أن “يتحمل الكفيل مسؤولية الأشخاص المكفولين”. معتبراً أن “هذا النظام حتى وإن اعترض عليه البعض باعتباره يطبق في حدود دولة واحدة، إلا أن ظروف الحرب والعمل على دحر الإرهاب يحتّم ذلك”.
وأضاف إبراهيم أن “تزايد موجات الهجرة إلى مناطقنا يتطلب وضع مثل هذه الضوابط والقوانين، التي ستزول في حال وصول إلى تسوية للأزمة السورية”.
يجب العمل بمبدأ الشفافية مع جميع الناس، وأن لا يكون ضبط الحالة الأمنية على حساب الأهالي في شمال شرق سوريا
لكن هذا لا ينفي بأي حال من الأحوال أن سياسة فرض “بطاقة الوافد” على المواطن السوري في بلاده تعد “مخالفة للمواثيق الدولية”، بحسب المستشار القانوني ومدير تجمع المحامين السوريين، غزوان قرنفل. موضحاً أن هذا النظام “غير قانوني لأنه يحرم السوري من حقه في التنقل والعيش في أي بقعة من أراضي الدولة وأن يكون آمناً على ماله ونفسه وعرضه”.
وحتى إن كانت مثل هذه السياسات “في إطار القوانين المحلية وتتناسب مع نصوص دساتير الدول، فإنها يجب أن تتوافق مع الالتزامات الدولية للدول، وضمن إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان”، قال عضو في منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة لـ”سوريا على طول”. مشدداً على أن “كل سياسة تفرضها القوى في حالة النزاعات المسلحة من شأنها تقييد حركة المواطنين هي خارج إطار قانون حقوق الإنسان”.
في السياق نفسه، ومع اعترافه بأن “الحالة الأمنية في شمال شرق سوريا معقدة”، شدد مدير منظمة العدالة من أجل الحياة، جلال الحمد، على ضرورة العمل “بمبدأ الشفافية مع جميع الناس، وأن لا يكون ضبط الحالة الأمنية على حساب الأهالي في شمال شرق سوريا”.
وأضاف الحمد لـ”سوريا على طول”: “نظام الكفالة هو نظام ظالم، يتعدى على الحقوق بذريعة حماية الحقوق”.
معضلة الديموغرافيا
في كانون الثاني/يناير 2014، صادقت الإدارة الذاتية على ميثاق العقد الاجتماعي الذي يسعى “لتحقيق العدالة والحرية والديمقراطية وفق مبدأ التوازن البيني والمساواة دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو العقيدة أو المذهب أو الجنس”. وقد نص الميثاق في المادة 43 منه على أن “لكل مواطن حق التنقل والانتقال وحرية السفر”.
لكن ما جاء في الميثاق، وما تعلنه الإدارة الذاتية في خطاباتها الرسمية، لا يعكسان حقيقة سياساتها وممارساتها على أرض الواقع، خصوصاً مع ملف النازحين في مناطق سيطرتها، كما أشارت مصادر عدة لـ”سوريا على طول”.
الإدارة الذاتية تفرض على المواطن السوري العربي استصدار بطاقة الوافد وتقيد حركته، فيما تستثني المواطن الكردي من ذلك
وقد شهدت المنطقة على مدار سنوات موجات نزوح من مناطق تنظيم “داعش”، أو خلال معارك طرده. كما استقبلت نازحين عرباً وكرداً من أرياف حلب والرقة والحسكة، على خلفية العمليات العسكرية التي شنها الجيش الوطني المدعوم من تركيا ضد “قسد”، ضمن عملية “غصن الزيتون” على مدينة عفرين في كانون الثاني/ يناير 2018، وعملية “نبع السلام” على مدينة تل أبيض بريف الرقة ومدينة رأس العين بريف الحسكة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
ورغم أن الإدارة الذاتية لم تميّز في قراراتها الرسمية المتعلقة بنظام “الكفالة” بين الوافدين إلى المنطقة على أساس عرقي أو طائفي، إلا أنها “تفرض على المواطن السوري العربي استصدار بطاقة الوافد وتقيد حركته، فيما تستثني المواطن الكردي من ذلك”، بحسب ما ذكرت المحامية خديجة، لـ”سوريا على طول”، طالبة عدم ذكر اسمها كاملاً لدواع أمنية.
واستشهدت المحامية، وهي من مدينة الرقة في شمال شرق سوريا، بما حدث معها خلال زيارة لها وطفلها إلى مدينة عين العرب (كوباني). إذ إن “الحاجز العسكري على حدود كوباني اشترط من أجل دخولي إلى المدينة الاحتفاظ بهويتي الشخصية على أن أستلمها عند خروجي”، وهذا “يفرض فقط على الشخص العربي القادم إلى كوباني”، بحسب قولها.
هذا التمييز أكده المهندس هوزان، وهو كردي من محافظة الحسكة، بأن “نظام الكفالة يطبق على العرب فقط”، وخصوصاً “القادمين من محافظات دير الزور والرقة وحلب”، كما قال لـ”سوريا على طول”. لافتاً إلى أن الإدارة الذاتية لم تشترط على النازحين الأكراد من عفرين ورأس العين استصدار “بطاقة وافد”، ولم تفرض عليهم نظام الكفالة، كما “لم تقيد حركتهم في حدود سيطرتها”.
وفسّر هوزان عمل الإدارة الذاتية بنظام “الكفالة” بأنه “محاولة لمنع حدوث تغيير ديموغرافي في المنطقة في حال سمحت لسكان المحافظات الأخرى دخول المنطقة من دون مستند”. كما أنه “سعي للحفاظ على وجود الأكراد ومنع أي محاولات لتوطين العرب في المنطقة كما حدث في فترات سابقة”، في إشارة إلى مشروع الحزام العربي الذي اتهمت الحكومة السورية بتنفيذه في العام 1975.
لكن ممثل الإدارة الذاتية في الخارج، هوفان إبراهيم، نفى التمييز بين الوافدين إلى شمال وشرق سوريا، إذ “لا أحد فوق القانون، وأي شخص من خارج مناطق الإدارة الذاتية تفرض عليه الإجراءات نفسها، بما في ذلك الكرد”، كما قال. مشدداً على أن العمل بموجب الكفالة “لا يستثني أحداً بسبب عرقه أو جنسه”. وقد “فرض [نظام الكفالة] على أهالي عفرين، لأن أماناتهم [قيودهم] تابعة لمدينة حلب”، بحسب قوله.
وحاول “سوريا على طول” الحصول على تعليق حول سياسة التمييز في فرض نظام الكفالة على المواطنين السوريين في شمال شرق سوريا من الرئيسة المشتركة لهيئة الداخلية (المماثلة لوزارة الداخلية) في الإدارة الذاتية، هيفي مصطفى، والتي شغلت سابقاً منصب الرئيسة المشتركة للهيئة التنفيذية للإدارة الذاتية في عفرين. لكن لم يتم تلقي أي رد.
وبحسب المحامية خديجة، فإنه “لا يوجد أي قرار رسمي أو ما يشير إلى وجود تمييز في تطبيق نظام الكفالة على أساس العرق أوالدين، لأن ذلك بمثابة إدانة للإدارة الذاتية”. لكن “عند دخولك عبر المناطق الحدودية للإدارة الذاتية، يمكنك أن تلاحظ حرية التنقل بالنسبة للمواطن السوري الكردي” مقارنة بالعربي.