7 دقائق قراءة

من السيادة إلى التبعية: كيف تهدد الحرب الروسية الأمن الغذائي في سوريا

أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية للسلع الأساسية، ولا سيما الحبوب وزيوت الطهي. ومن المرجح أن يؤثر ذلك على الأمن الغذائي في سوريا ، التي تعاني أصلاً من نقص وتضخم مرتفع.


بقلم ليز موفة

22 مارس 2022

باريس- أحد عشر عاماً على اندلاع الثورة السورية الغنية بالأحداث، أسهم في تأجيجها واتساع رقعتها حالة السخط الشعبي من ارتفاع أسعار المواد الأساسية وانعدام الأمن الغذائي، وسط عجز حكومي عن اتخاذ أي تدابير من شأنها الحدّ من معاناة المواطنين.

في كانون الثاني/ يناير الماضي، ارتفع متوسط سعر السلة الغذائية الشهرية، التي تقدمها المنظمات الإنسانية للعائلة الواحدة، إلى 225,398 ليرة سورية، أي ما يعادل 90 دولار أميركي بحسب سعر الصرف الرسمي، مسجلة زيادة بنسبة 86% خلال عام واحد.

ولسوء الحظ، تتزامن محنة السوريين مع ازدياد مستويات الجوع عالمياً بسبب ارتفاع تكاليف الغذاء، ففي العام الماضي، وصلت المحاصيل الأساسية إلى أعلى سعر عالمي لها منذ عقد؛ إذ ارتفعت أسعار القمح بنسبة 38% والذرة بنسبة 40%.

ويرجع جزء من هذه الزيادة إلى جائحة كوفيد-19 التي تسببت بتعطل سلاسل التوريد، بما في ذلك إنتاج الأسمدة وتكاليف الشحن، كما أسفر الجفاف في أمريكا الجنوبية، وهي أكبر مُصدّر للذرة وفول الصويا، عن انخفاض إنتاج العديد من المواد الغذائية الأساسية.

ومن المتوقع أن تتفاقم مستويات الجوع عالمياً هذا العام عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، فأوكرانيا وروسيا تنتجان وحدهما ما يزيد عن 30% من القمح، و30% من الشعير، و20% من الذرة وأكثر من %70 من زيت عباد الشمس على مستوى العالم. 

وفي هذا العام، ربما لن يجد الكثير من هذا الإنتاج طريقه إلى الأسواق الدولية، إذ إن أوكرانيا أوقفت صادرات القمح استعداداً للتداعيات الإنسانية للحرب، فيما أوقفت روسيا صادرات نترات الأمونيوم – مكوِّن رئيسي في معظم الأسمدة – وهي المنتج الأكبر لها في العالم.

ويقع الشرق الأوسط على شفا الأزمة الغذائية القادمة، بحسب ما حذّر خبراء مراقبون للأسواق الزراعية، خاصة أن القمح يشكل جزءاً أساسياً في معظم الأنظمة الغذائية للمنطقة، وهي من أكبر مستوردي القمح الأوكراني والروسي. ومن المرجح أن يتأثر إنتاج الغذاء المحلي جرّاء الارتفاع العالمي في أسعار الوقود والمبيدات والأسمدة.

كل ذلك، يدفع إلى التساؤل عن  تأثير الأزمة الراهنة على الأمن الغذائي في سوريا، حيث تعرض القطاع الزراعي للدمار جرّاء عقدٍ من الحرب، ومعاناة 13 مليون شخص، أي أكثر من نصف السكان، من انعدام الأمن الغذائي.

ويتباين مدى التأثير الوشيك للغزو الروسي لأوكرانيا على سوريا بين ثلاث مناطق تحكمها كيانات مختلفة: النظام السوري، والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، والمعارضة في شمال غربي البلاد، وجميعها تتعرض لتحديات فريدة من نوعها فيما يتعلق بإنتاج المحاصيل المحلية وإمكانية استيراد المواد الغذائية.

مناطق سيطرة النظام

كانت سوريا إلى ما قبل عام 2011 سلة الخبز الإقليمية، كونها تنتج من الحبوب ما يفوق استهلاكها، لكنها منذ بداية الحرب تحولت إلى الاعتماد شيئاً فشيئاً على القمح المستورد، ويزداد مستوى اعتماد حكومة دمشق على الاستيراد مقارنة بمناطق النفوذ الأخرى، كون 70% من حقول القمح السورية تتركز في شمال شرق البلاد، أي خارج سيطرة النظام.

ويشكل القمح نقطة ضعف قاتلة للنظام، الذي يقف عاجزاً عن إطعام مواطنيه، ولكنه يتحمل المسؤولية الأكبر عن تدهور هذا القطاع نتيجة قصف المخابز والبنى التحتية الزراعية ومحطات المياه وصوامع الحبوب والأراضي الزراعية، بدعم  روسي، لينتهي المطاف بسيطرته على أراضٍ محروقة.

اقرأ أيضاً: تصعيد النظام الأحدث شمال غرب سوريا: إثارة للهلع وحرق للمحاصيل 

في السنوات الأخيرة، صارت الطوابير الطويلة أمام الأفران جزءاً لا يتجزأ من ملامح دمشق، رغم ارتفاع أسعار الخبز. في شباط/ فبراير 2020، أضافت حكومة دمشق الخبز إلى نظام “البطاقة الذكية“، الذي يتيح للعائلات الحصول على حصص من السلع الأساسية بالسعر المدعوم. وعدا عن أن المخصصات لا تسدّ احتياجات المستفيدين، استبعدت دمشق، في كانون الثاني/ يناير، مئات الآلاف من النظام الدعم الذي فاق طاقة الدولة.

وتسببت العقوبات الغربية بمزيد من عجز دمشق في تأمين الطحين، بما في ذلك عقوبات قيصر التي دخلت حيز التنفيذ في أيار/ مايو 2020، التي تحظر التعامل مع الحكومة السورية والكيانات المدرجة على القائمة السوداء. ورغم الاستثناءات الإنسانية والطبية الموجودة، عملت العقوبات على تثبيط الاستثمارات والصادرات بفاعلية، وجعلت البنوك تنأى بنفسها عن المعاملات المتعلقة بسوريا، ما أدى إلى انهيار مستمر وغير مسبوق في سعر صرف الليرة السورية.

ولأن النظام منبوذٌ في الأسواق الدولية من جهة، ويعاني من تدهور عملته الوطنية، لم يجد مصدراً للاعتماد عليه إلا روسيا، إذ بلغ استيراد دمشق، عام 2020، من القمح الروسي 675 ألف طن، وفي عام 2021 استوردت 400 ألف طن. 

ولا سبيل أمام دمشق غير مواصلة الاعتماد على إنتاج روسيا الضخم من الأسمدة والحبوب في عام 2022، إلا أنّ ذلك غير ممكن ما لم يتسن للبضائع عبور البحر الأسود وتركيا. إذ غادرت السفن ممرات الملاحة في البحر الأسود خشية أن تعلق في الصراع.

وفي حال انقطع خط الإمداد الروسي، من المستبعد أن تحل إيران مكانها في سد احتياجات دمشق، مع أنها أكبر منتج للقمح في المنطقة، إذ من المُقدر أن ينخفض ​​إنتاج القمح الإيراني بنسبة 20% هذا العام نتيجة الجفاف الشديد.

وكذلك، يبدو أن الحرب على أوكرانيا عمّقت أزمة العملة السورية، ففي غضون عشرة أيام من الغزو الروسي، خسرت الليرة السورية حوالي 7% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي، وهو أكبر انخفاض لها منذ أيلول/ سبتمبر 2021.

وفي خطوة استباقية لارتفاع أسعار النفط والنقل والأغذية الأساسية المتوقع، أعلن مجلس الوزراء، الأسبوع الماضي، أنه سيقنن السلع الأساسية مثل القمح والسكر وزيت الطهي، إضافة إلى ترشيد الإنفاق العام تحسباً لارتفاع تكاليف الاستيراد.

وكالعادة، يدفع المدنيون ضريبة الأزمة، لا سيما في مناطق سيطرة المعارضة، فمن المرجح أن يتأثر مخيم الركبان بشدة، كون المخيم محاصر من النظام، ولم تصله أي قافلة إنسانية، منذ أيلول/ سبتمبر 2019، أي أن 10 آلاف نسمة يعتمدون كلياً في تأمين المواد الغذاء من السوق السوداء بمناطق سيطرة النظام، عبر مجموعة من المهربين، وسرعان ما ارتفع سعر الطحين في المخيم الذي يعاني من أزمة طويلة الأمد في تأمينه.

شمال غرب سوريا

تلقي الحرب في أوكرانيا بظلالها على الوضع الإنساني في شمال غرب سوريا من خلال: ارتفاع تكاليف المساعدات والتحديات اللوجستية لإيصالها.

تعتمد مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا، التي تمتد على معظم محافظتي إدلب وحلب، بشكل كبير على المساعدات القادمة عبر الحدود التركية. ويقطن في هذه المناطق نحو خمسة ملايين نسمة، ثلاثة ملايين منهم تقريبا من النازحين داخلياً، معظمهم يتلقون مساعدات غذائية بطريقة أو بأخرى.

ويدعم برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة (WFP) نحو ستة ملايين شخص في سوريا، ثلثهم يقطن في الشمال الغربي. وهو أيضاً يشتري من أوكرانيا وروسيا أكثر من نصف كميات القمح، وهذا يعني أن التكاليف التشغيلية له ستتأثر بشكل مباشر بالحرب الراهنة.

وبالتزامن مع ذلك، فرضت الأسواق المجاورة التي ترفد المنظمات غير الحكومية بالكثير من المساعدات الغذائية مزيداً من التدابير الوقائية، إذ أعلنت مصر مؤخراً، باعتبارها إحدى المصادر الزراعية في المنطقة، أنها ستمنع تصدير السلع الأساسية، من قبيل منتجات القمح والعدس والفول للأشهر الثلاثة المقبلة، وفي 14 آذار/ مارس حذت الجزائر حذوها.

الأمر الأكثر إثارة للقلق، أزمة الليرة التركية، وانشغال أنقرة بتخزين السلع الأساسية لكبح التضخم الحاصل، ففي  أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا وسعت تركيا قائمة الصادرات الرئيسية المزمع تقييدها بناء على رؤية وزارة الزراعة. وحظرت تصدير زيوت الطهي، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار في أسواق شمال غرب سوريا. وبالتزامن مع هذه القيود المفروضة ما تزال بعض الشحنات الإنسانية المُرسلة إلى سوريا عالقة على الحدود.

ومن شأن التوترات المتصاعدة بين روسيا والغرب أن تهدد أيضاً تجديد آلية الأمم المتحدة لإيصال المساعدات عبر الحدود. من جهة قانونية،  تتوقف إمكانية الأمم المتحدة على إدخال البضائع والكوادر والأموال إلى سوريا من تركيا على قرار سنوي لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومن خلاله يتم تجاوز الحاجة لتصريح من الحكومة السورية لعبور البلد، وفي تموز/ يوليو المقبل تنتهي صلاحية العمل بموجب القرار.

وكانت الدول تتمكن من تمرير القرار في مجلس الأمن، رغم التهديدات الروسية باستخدام حق النقض (الفيتو)، لكن هذا العام، قد تكون المفاوضات أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، لا سيما إذا حاولت روسيا استغلال حق “الفيتو” بشأن سوريا لانتزاع تنازلات من الدول الغربية فيما يتعلق بأوكرانيا.

إن عدم تجديد قرار الأمم المتحدة يعني أن الأمم المتحدة لن تتولى تيسير إدخال المساعدات عبر معبر باب الهوى الحدودي، وبذلك تترك للمنظمات غير الحكومية مهمة إيجاد طريقة لإيصال مئات الشاحنات المُحمّلة بالمساعدات عبر الحدود. 

كذلك سينقطع التمويل عبر الحدود فجأةً، ورغم أن هناك إمكانية لإعادة توجيه بعضه من خلال المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية، إلا أنّ هذه الجهات الفاعلة لا تتمتع بذات المستوى من الثقة على المستوى المالي من قبل الدول المانحة، وليس لديها القدرة على استبدال الآلية الضخمة للأمم المتحدة القائمة حالياُ.

اقرأ أيضاً: دروس “اليعربية”: خطوط التماس ليس بديلاً من آلية إيصال المساعدات عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا

شمال شرق سوريا

تزرع محافظات الحسكة والرقة ودير الزور في شمال شرق سوريا نحو 80% من القمح والشعير السوري، وفيما يفترض أن يكون تأثرها بالحرب في أوكرانيا أقل من مناطق النفوذ الأخرى، هناك مؤشرات على أنها قد تكون عرضة للخطر أيضاً، وقد تواردت الأنباء عن نقص الطحين في عدد من المخابز، ما دفع السلطات المحلية السماح لأصحابها بإنتاج الخبز من الدقيق المخلوط مع الذرة.

أيضاً، تترنح المنطقة تحت وطأة الجفاف الشديد، الذي حلّ بها العام الماضي وأسفر عن تدمير أراض ينمو فيها القمح بعلاً في شمال شرق سوريا والعراق المجاور. وفي نيسان/ أبريل 2021، حذّر المرصد العالمي للجفاف من “أسوأ” موجة جفاف في تاريخ سوريا الحديث، حيث انخفض المحصول حينها أكثر من %60 مقارنة بعام 2020.

ويحين موعد حصاد القمح في شمال شرق سوريا، الذي يزرع شتاءً، في حزيران/ يونيو أو تموز/ يوليو المقبلين، لذا ما يزال من المبكر التنبؤ بموسم حصاد 2022. لكن في حال انخفض مستوى الإنتاج إلى أرقام مشابهة للعام الماضي، سيتعين على السلطات المحلية تعويض انخفاض الإنتاج بزيادة الاستيراد، وبذلك ستصبح أكثر عرضةً للتأثر بوطأة الحرب في أوكرانيا.

أيضاً، سيؤثر الاضطراب العالمي في إنتاج الأسمدة على سبل العيش المحلية، في وقت يعتمد 70% من السكان على القطاع الزراعي لكسب قوت عيشهم، ويكافح المزارعون من أجل مواجهة التكاليف المتزايدة للوقود والبذور والمدخلات الأخرى.

ومع ذلك، فإن الإدارة الذاتية بقيادة الأكراد، التي تسيطر على شمال شرق سوريا، في وضع أفضل من دمشق للتعامل مع الأزمة، خاصة أنها أُعفيت مؤخراً من عقوبات قيصر، مما يمنحها مزيداً من الوصول إلى الأسواق الدولية.

هل تصمد؟

بالنظر إلى تأثير الحرب في أوكرانيا، من الواضح أن سوريا، بكل مناطق نفوذها، أكثر عرضة للتغيرات الخارجية الكبيرة واضطرابات السوق العالمية، بعد أن انتقلت البلاد من حالة الاكتفاء الذاتي نسبياً في التسعينيات إلى حالة من التبعية الكاملة اليوم.

الوضع الراهن هو نتيجة عقد من الحرب، خاصة الاستهداف غير القانوني والممنهج للنظم الغذائية، وهي جزء من انتهاكات أخرى للقانون الدولي. وحتى يومنا هذا، تواصل أطراف الصراع المختلفة، على رأسها نظام الأسد وروسيا، تقويض الأمن الغذائي لسوريا من خلال قصف محطات المياه وحرق الأراضي الزراعية.

إن اعتماد سوريا الحالي على المساعدات بالكاد يلبي احتياجاتها ولن يسهم في إعادة بناء السيادة الغذائية للبلاد، فغالباً ما يُخصص التمويل الإنساني لـ”حالات الطوارئ”، التي صارت دائمة بعد عقد من الحرب، مما يعكس محنة ملايين النازحين في شمال غرب سوريا الذين ما يزالون يعيشون في خيام “مؤقتة” بعد مرور عشر سنوات.

وفي الآونة الأخيرة، تحول المانحون والمنظمات غير الحكومية للتشدق بكلمات رنانة جديدة من قبيل “المرونة” و”سبل العيش”، قائلين إنهم سيكرِّثون الكثير من التفكير والتمويل لبناء الموارد المحلية والمعرفة. ومما لا شك فيه أن الحرب في أوكرانيا أكدت أن هذا التحول مطلوب وبشدة، لكن يبقى الزمن كفيلاً بإثبات ما إذا كان يمكن تحقيق الأهداف المرجوة أم لا.

تم نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية سلام الأمين

شارك هذا المقال