من جيب المواطن: المجتمع الأهلي يمول التعليم الحكومي في درعا
يعتمد أهالي حوران على حلول بديلة لتعويض نقص الكوادر التعليمية في المحافظة، من قبيل: دفع مكافآت مالية شهرية لحث المعلمين على الاستمرار في التدريس بالمدارس الحكومية ذات الرواتب المتدنية وترميم المدارس وصيانتها.
7 يونيو 2024
باريس- يتقاضى أبو حسام، 40 عاماً، المعلم في المدرسة الثانوية بمدينة إنخل شمال درعا، راتبين شهرياً، الأول من وزارة التربية التابعة للنظام السوري، والآخر من اللجنة الأهلية في المدينة لقاء عمله في التدريس.
في أيلول/ سبتمبر 2023، عاد أبو حسام للتعليم في مدرسة المدينة استجابة لـ”طلب الأهالي”، بعد سنوات من الانقطاع، كما قال المعلم الذي بدأ مسيرته المهنية في عام 2008، واستمر بالتدريس في ثانوية إنخل حتى عام 2013، عندما سيطرت فصائل المعارضة على المدينة، ليواصل عمله بعد هذا التاريخ تحت مظلة مؤسسات المعارضة.
وعليه، قررت مديرية تربية درعا التابعة للنظام فصله نهائياً من وظيفته، وبعد توقيع التسوية بين دمشق وفصائل درعا، في صيف 2018، رفضت المديرية تسوية وضع أبو حسام وإعادته إلى وظيفته، حاله حال الكثير من المعلمين أمثاله، كما قال لـ”سوريا على طول”.
وبما أن قطاع التعليم في محافظة درعا يعاني من نقص حاد في أعداد الكوادر التعليمية، لا سيما أصحاب الاختصاص منهم، نتيجة مجموعة من العوامل المتعلقة بالهجرة والنزوح، أو التسرب الوظيفي بسبب تدني الرواتب، أو فصلهم من حكومة دمشق، اعتمد أهالي عدة مدن في حوران على حلول بديلة لتعويض هذا النقص، وتحملوا أعباء دفع مكافآت مالية شهرية لحثهم على الاستمرار في التدريس بالمدارس الحكومية، ذات الرواتب المتدنية.
عاد أبو حسام إلى التعليم في ثانوية إنخل مطلع العام الدراسي الحالي، ضمن مبادرة أطلقتها اللجنة الأهلية في مدينة إنخل لمواجهة نقص المعلمين، بصفته متعاقداً وليس موظفاً ثابتاً، واللجنة المسؤولة عن دفع راتبه الثاني، ومقداره 500 ألف ليرة سورية شهرياً (33.7 دولار أميركي، بحسب سعر الصرف في السوق الموازية البالغ 14800 ليرة للدولار الواحد)، يحصل عليه كمبلغ إضافي إلى جانب راتبه من تربية النظام، وقيمته 400 ألف ليرة (27 دولار).
نقص الكوادر التعليمية
في مدينة إنخل، بلغت نسبة نقص معلمي الصفوف الابتدائية نحو 20 بالمئة، أما بالنسبة للمواد العلمية مثل الفيزياء والرياضيات والكيمياء، بلغت نسبة النقص نحو 80 بالمئة، كما قال الأستاذ خالد (اسم مستعار)، إداري في إحدى مدارس إنخل، لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن هويته لدواع أمنية.
“أكثر من نصف الكادر التعليمي في ثانوية إنخل من خارج ملاك مديرية التربية، ويحصلون على رواتبهم من لجنة الحي، التي شكلها أولياء أمور الطلبة”، قال المعلم أبو حسام، مشيراً إلى أن “إجمالي راتب المعلم من مديرية التربية ولجنة الأهالي يتراوح بين 800 و900 ألف ليرة شهرياً [54 و 60 دولار]”، وهذا المبلغ ضعف راتب المعلم في مدارس النظام غير المدعومة من الأهالي.
في بلدة بصر الحرير شرقي درعا، بلغت نسبة النقص في الكوادر التعليمية، داخل ملاك مديرية التربية والتعليم بدرعا أكثر من 70 بالمئة، وهو ما اضطر الأهالي والقائمين على ملف التعليم في البلدة إلى تعويض النقص بمعلمين “من خارج الملاك، سواء معلمين سابقين مفصولين أو متقاعدين، أو مدرسين بالوكالة وطلبة جامعات”، كما قال أنس الحريري (اسم مستعار)، مدير مدرسة في البلدة وعضو في لجنة أهلية لمتابعة ملف التعليم.
اقرأ المزيد: باستقالة أو من دونها: التسرب الوظيفي يجتاح مؤسسات النظام السوري
وأشار الحريري إلى أن أكثر التخصصات التي تعاني من نقص المعلمين هي “اللغة الإنجليزية والفرنسية والرياضيات والعلوم”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.
“إن تدني الرواتب” الحكومية واحدة من أكبر المشاكل التي تواجه العملية التعليمية في سوريا، بحسب الأستاذ خالد، الإداري في مدرسة بإنخل، مشيراً إلى أن “راتب المعلم الوكيل بعد الزيادة وصل إلى 300 ألف ليرة سورية [20 دولار]، وهو مبلغ لا يتناسب مع المصاريف الشهرية”.
وأضاف الأستاذ خالد: “لذلك الذين لا يجدون عملاً هم من يتوجهون إلى التعليم بصفة وكيل، وغالبية هؤلاء من الإناث، إذ تشكل الإناث الوكلاء 99 بالمئة في إنخل”.
ولأجل التغلب على هذه المشكلة، تشكلت “لجنة حي” من أولياء الأمور والوجهاء، لكل مدرسة من مدارس إنخل، مطلع العام الحالي، مهمتهم جمع المال من الأهالي والمغتربين لدعم قطاع التعليم، وبذلك “صار جميع المدرسين الوكلاء يأخذون راتباً ثانياً إضافة إلى الراتب الأصلي”، بحسب الأستاذ خالد.
في ثانوية إنخل، يدفع الأهالي نحو 6.5 مليون ليرة (439 دولار) شهرياً لثمانية معلمين من خارج الملاك، كما قال عضو في اللجنة الأهلية الخاصة بمتابعة المدرسة الثانوية في إنخل، لـ”سوريا على طول”.
وبدوره، اعترف مسؤول في مديرية تربية درعا، التابعة للنظام، أن المديرية “تنازلت عن جزء من مهامها لصالح المجتمع الأهلي، لتعويض النقص الحاد في الكوادر من خارج الملاك، ودفع مكافآت مالية لتحسين الظروف المعيشية للمعلمين، لأن ضعف الرواتب دفع الكثير من المعلمين والإداريين إلى ترك وظائفهم في مديرية التربية”، كما قال لـ”سريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.
وأكد المسؤول على أن درعا “تواجه أزمة حقيقية في توفير المدرسين، لا سيما تخصصات اللغتين الإنجليزية والفرنسية، والفيزياء والكيمياء والرياضيات للمرحلة الثانوية”.
“دبروا راسكم”
في مطلع العام الدراسي الحالي، بقيت إحدى مدارس إنخل من دون معلم للغة الإنجليزية لمدة ثلاثة أسابيع متواصلة، وبعد تواصل المدير مع مديرية تربية درعا جاء الرد: “دبروا راسكم”، ولهذا “أبلغ مدير المدرسة الطلبة بضرورة دفع عشرة آلاف ليرة عن كل طالب شهرياً، من أجل التعاقد مع معلم”، على حد قول أبو حسام.
وفي مدينة جاسم أيضاً “تعتمد العملية التعليمية على الأهالي لتسيير شؤونها، سواء بتعويض نقص المعلمين، أو بتأمين حمايتهم وتنقلهم، ودفع رواتب جيدة لهم”، كما قال وسيم حسان (اسم مستعار)، معلم في مدينتي جاسم وإنخل بريف درعا الشمالي، لـ”سوريا على طول”.
تعاقدت اللجنة الأهلية في إنخل مع حسان للعمل في إحدى مدارس المدينة، لقاء راتب شهري مقداره 900 ألف ليرة شهرياً (60 دولار)، كما تعاقدت معه مدرسة في مدينة جاسم، التي تبعد سبعة كيلومترات إلى الغرب من إنخل، لكن المعلم اشترط على مدرسة جاسم “تأمين كتاب استثنائي صادر من مديرية التربية يسمح لي بالمرور على الحواجز العسكرية دون اعتقالي أو سوقي للخدمة العسكرية”، وفقاً له.
عزا حسان سوء قطاع التعليم في سوريا إلى “عجز وزارة التربية عن تحسين واقع التعليم بسبب قلة الدعم والصلاحيات من قبل الحكومة”، ولأجل تحسين التعليم “يتوجب على الحكومة دعم وزارة التربية بموازنة سنوية مخصصة ومنح رواتب لائقة للمدرسين للعيش بكرامة”.
ولا يقتصر دور اللجان الأهلية في درعا على دعم رواتب الكوادر التعليمية، وإنما تحمل على عاتقها مسؤوليات أخرى، من قبيل ترميم المدارس وصيانتها وتوفير مستلزماتها.
تشرف اللجنة الأهلية المعنية بمتابعة قطاع التعليم في بلدة بصر الحرير على ترميم المدارس وصيانتها وتوفير احتياجاتها، إضافة إلى تأمين الكوادر التعليمية حتى لو تطلب الأمر “استقدامهم من البلدات المجاورة”، وتتولى اللجنة “دفع مكافآت شبه شهرية لهم، مع توفير المواصلات للمعلمين من خارج البلدة من المدارس وإليها”، كما قال مصدر مسؤول في مجلس بلدية بصر الحرير لـ”سوريا على طول”.
توفير الكوادر التعليمية للصفوف الابتدائية “أقل صعوبة من الثانوية”، بحسب المسؤول، الذي قال بأن لجان مدينته تعاقدت مع معلمين “من القرى المجاورة للتدريس في ثانوية بصر الحرير وتعويض النقص في كوادرها”، لافتاً إلى أنهم خصصوا “مبالغ مالية إضافية لرواتبهم الرسمية، بدعم من المجتمع المحلي، إضافة إلى توفير وسائل النقل أو دفع تعويض عنها”.
لا يختلف الحال كثيراً في بلدة أم ولد، شرقي درعا، إذ يتكفل المجتمع المحلي أيضاً بدفع رواتب بعض المدرسين لتعويض النقص في بعض التخصصات، سواء من داخل البلدة أم خارجها، مع تحمل أجور مواصلاتهم من المدارس وإليها، كما قال أبو محمد، مدرس سابق في أحد مدارس البلدة، لـ”سوريا على طول”.
ومع الأعباء المادية التي يواجهها المجتمع المحلي لدفع رواتب المعلمين في بلدة أم ولد، خاصة الذين يتم استقطابهم من خارج البلدة، سعت اللجان في العام الدراسي الحالي إلى “الاكتفاء بالكوادر التعليمية من البلدة، حتى لو كانوا من أصحاب شهادات غير متخصصة أو من الطلبة الجامعيين حالياً أو المنقطعين، أو حتى من طلبة الجامعات”، بحسب أبو محمد.
وأشار أبو محمد إلى أن بلدته تعاقدت “مع بعض المعلمين المطلوبين للخدمة العسكرية أو المعارضين للنظام، ولأن هؤلاء لا يمكن توفير عقود عمل رسمية لهم تم التكفل بدفع كامل رواتبهم من قبل الأهالي فقط”، أي أنهم يحصلون على راتب واحد من جهة واحدة.
ومع أهمية الدور الذي يلعبه المجتمع المدني لصون العملية التعليمية في درعا، إلا أنه يسهم في تخلي “الدولة” عن مسؤولياتها، إذ بحسب أبو محمد “تدفع الدولة كل قرية أو بلدة إلى التكفل بتشغيل المدارس واستمرارها”.
والمشكلة الأكبر أن نقص الموارد البشرية في قطاع التعليم يؤدي إلى “الاستعانة بأشخاص غير كفؤ للتدريس، وهو ما ينعكس على جودة التعليم والتحصيل العلمي للطلبة”، وفقاً لأبو محمد.
انحدار التعليم
“تسير العملية التعليمية في مدينة إنخل نحو الهاوية، بسبب النقص الحاد في المدرسين من ذوي الاختصاص”، بحسب الأستاذ خالد، الإداري في مدرسة بإنخل، لافتاً إلى أن “غالبية معلمي الصفوف الابتدائية هم وكلاء يحملون الشهادة الثانوية فقط”.
وفي بعض الأحيان “اضطررنا إلى دمج العديد من الصفوف”، كأحد الحلول لتعويض النقص الحاصل في الكوادر التعليمية، بحسب الأستاذ خالد.
واشتكى خالد من “حالة الفوضى وعدم الانتظام، وتغيب المعلمين الوكلاء”، معتبراً أن هذا السلوك سببه “إدراكهم بالحاجة الماسة لهم وعدم وجود بديل عنهم، لذا فالمدير مجبر على تجاوز أخطائهم”.
وبدوره، قال المسؤول من مديرية تربية درعا: “صار المعلمون الوكلاء يتحكمون بالقرار التربوي، من حيث تعيينهم بالمدارس التي يرغبون بها حصراً، ويرفضون المدارس التي تكون بحاجة ماسة لهم، ويفرضون شروطهم على إدارة المدرسة مثل الحصول على راتب إضافي، أو التساهل في الدوام”.
وأيضاً، أسهم التسرب الوظيفي الحاصل في وزارة التربية والتعليم في الاستغناء عن بعض المناصب بمدارس حوران، بحسب المسؤول، مشيراً إلى أن “غالبية المدارس لا يتوفر فيها مدير أو معاون مدير أو أمين سر أو أمين مكتبة”، وهو ما انعكس سلباً على سير العملية التربوية “لأن المدير الإداري لا يمكنه بمفرده متابعة سير العملية التربوية بالشكل المطلوب من حيث أداء المعلمين وأساليب التدريس وطرائق التعلم وتنمية مهارات المدرسين”.
لمواجهة التسرب الوظيفي من الدوائر الحكومية السورية، اتخذت حكومة النظام عدة قرارات للحد من طلبات الاستقالة، لا سيما وزارة التربية والتعليم، التي أصدرت في أيلول/ سبتمبر 2023 قراراً يقضي بإيقاف العمل بالتفويضات الممنوحة لمديري التربية في المحافظات السورية، التي كانت تخولهم قبول طلبات الاستقالة.
“لو سمحت وزارة التربية بالاستقالات لما بقي معلم أو مدير مدرسة”، قال المسؤول في المديرية، محذراً من أن “العملية التربوية مستمرة في الانهيار في حال بقي الوضع المادي والرواتب على وضعها الراهن”.
وختم أبو حسام: “العملية التعليمية تسير بالمراهنة على دعم الأهالي، لأن الحكومة غير مكترثة إن نجح التعليم في درعا أو لا”، متسائلاً: “ماذا لو توقف هذا الدعم؟”.