من سيدرا إلى روان: انفجار بيروت يحيل أحلام السوريين إلى أشلاء
أتيت إلى هنا هرباً من الحرب والدمار. هذا يكفي، يجب أن أغادر البلد. إذا كان الشعب اللبناني بالكاد يحصل قوت يومه، فكيف يفترض أن نصمد نحن اللاجئون السوريون
16 أغسطس 2020
بيروت- بينما يتلمس خطواته نحو قبو المبنى المكوّن من 25 طابقاً، والذي يعمل فيه والده أيضاًَ ناطوراً (حارساً)، يشير محمود الكانو إلى المكان الذي كانت تقف فيه عائلته لحظة الانفجار الذي ضرب بيروت في 4 آب/أغسطس الحالي. حيث لا تزال تظهر بقع الدماء الجافة في المكان الذي كانت فيه سيدرا، شقيقة محمود ذات الستة عشر ربيعاً، والتي فارقت الحياة لحظة الكارثة. “ركام المبنى بأكمله سقط على عائلتي”، يقول الشاب السوري البالغ من العمر 26 عاماً، محدقاً في البرج الذي تحول إلى حطام زجاج وشظايا خشب وفولاذ، إذ لا يبعد أكثر من 400 متر عن مركز الانفجار في مرفأ بيروت، والذي راح ضحيته أكثر من مئتي شخص، إضافة إلى 6,000 مصاب، حتى الآن.
وقد أصيب والد محمود بنزيف في الدماغ، فيما تعاني والدته من إصابات في عمودها الفقري وكسر في ساقها، وهما يتلقيان العلاج حالياً في مستشفيين مختلفين ببيروت. كما أصيبت شقيقته هدى، ذات العشرة أعوام، بإصابة بالغة في عنقها، وأرسلت إلى مستشفى في البقاع، شرق لبنان، حيث “بقيت في العناية المركزة لأربعة أيام، كانت خلالها تتألم وتصرخ، لكن المستشفى لم يجر العملية [اللازمة]، لأنهم طلبوا منا 3,160 دولاراً ولم نكن نملك المبلغ”، كما يذكر محمود لـ”سوريا على طول”. بعدها، قامت منظمة غير حكومية، لم يستطع تذكر اسمها، بتغطية التكاليف، فأجريت العملية لهدى.
صورة تُظهر المبنى الذي تعيش عائلة محمود في قبوه ببيروت، 10/ 08/ 2020 (سوريا على طول)
وفيما تقيم العائلة المكونة من الأبوين وأولادهما الستة، واللاجئة من ريف حلب، في قبو المبنى المدمر، يعيش محمود في جونيه (شمال بيروت). ويعبر عن حسرته قائلاً: “لم يبق شيء من مسكن العائلة. خسرنا كل شيء، انهارت حياتي”. لكن مع ابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه، يستذكر تعطش سيدرا للمعرفة. إذ “كانت تطلب على الدوام الذهاب إلى المدرسة، لكن وضعنا الاقتصادي لم يسمح بذلك. وقد كانت تحاول تعلم الإنجليزية من خلال الفيديوهات والتلفاز”.
متجهاً إلى المطبخ، يحاول محمود تخطي حطام الأثاث المقلوب رأساً على عقب، ليأخذ بضع عبوات زيت زيتون. ورغم الدمار، فكل ما تبقى يمكن وضعه في صندوق سيارة، تبدو الرزنامة صامدة على الحائط. ويقول: “لن يرد المال عائلاتنا، لكني آمل أن يساعدنا العالم”. وما يزال حذاء والده مرمياً بين الأنقاض.
حذاء والد محمود يظهر بين الركام في فناء مسكنه الذي لا يبعد أكثر من 400 متر عن ميناء بيروت الذي دمره الانفجار، 10/ 8/ 2020 (سوريا على طول)
في شارعٍ مجاور، كان يفترض أن تغادر روان مستو ذات العشرين عاماً عملها الكائن في مطعم سيرانو، في يوم الانفجار، في الساعة الخامسة وأربع وخمسين دقيقة مساءً، أي قبل عشرين دقيقة من الكارثة، كما قالت والدتها منى جاويش لـ”سوريا على طول” من منزل العائلة في سن الفيل بضواحي بيروت الشرقية. وتعود أصول منى إلى مدينة حلب، شمال سوريا، لكنها تعتبر لبنان وطنها منذ العام 1997. وفي بيروت ترعرع أولادها الثلاثة، روان وريما وعلاء.
حين شعرت منى بالانفجار، لم تستطع الاتصال بروان، فأخذت بالسير عبر “حطام الأشجار والفولاذ والدماء” حتى وصلت إلى المكان الذي تعمل فيه ابنتها. هناك، أخبرها أحدهم أن روان تعرضت لإصابة طفيفة. وقد بقيت الأم تجول على مستشفيات المدينة حتى وقت متأخر من الليل؛ إذ “لم أدع مستشفى واحداً في المدينة لم أذهب إليه”، كما تضيف. لكن صباح اليوم التالي علمت أن ابنتها فارقت الحياة.
صادف عيد ميلاد روان يوم السبت، أي قبل يومين من الانفجار. وكما تستذكر والدتها: “قالت لي ’أنا مُتعبة، لنحتفل السبت المقبل‘. لكن بدلاً عن ذلك أجرينا مراسم دفنها”. وقد تكفل أصدقاء الشابة الراحلة بترتيبات الجنازة نظراً لوقع المصيبة التي حلت بعائلتها.
السوريتان سيدرا، ذات الستة عشر عاماً (يساراً)، وروان، البالغة عشرين عاماً، من ضمن ضحايا انفجار بيروت، 11/ 08/ 2020 (سوريا على طول)
وقد ذهلت منى بحجم التعازي التي وصتلها برحيل ابنتها. كما إن “صورتها متداولة في كل صفحات فيسبوك”، كما تقول. “كانت ابنتي محبوبة جداً. جميع زبائن المطعم يذكرونها”. مضيفة وهي تتأمل فيديوهات على هاتفها لروان تقدم تجارب أداء: “كان طموحها أن تصبح ممثلةً، وكانت تأمل أن ترتاد الجامعة. كانت تتطلع لتحقيق الكثير من الأحلام، لكن في لمحة عين انتهى كل شيء. لقد احترق قلبي”.
وما يزال صعباً على الأم “تقبل العزاء. فما زلت أريدها بيننا. لقد كانت ملاكاً”. وعلى شرفة منزل العائلة تتدلى لافتة كبيرة تحمل صورة روان، وتحتها عبارة: “لن ننساكي أبداً”.
لافتة تحمل صورة روان مستو تتدلى من شرفة منزل عائلتها في سن الفيل، 11/ 08/ 2020 (سوريا على طول)
مصابون منسيون
في حي جعيتاوي، لا تفارق مريم محمد الأحمد السرير الذي يرقد عليه ابنها موسى البالغ من العمر 13 عاماً. وقد كانت قدمت وأسرتها إلى لبنان من مدينة رأس العين شرق سوريا، قبل ست سنوات. وتعيش وزوجها وأولادهما الثلاثة في قبو مبنى في الحي.
نتيجة الانفجار، أصيبت مريم، البالغة من العمر 30 عاماً، بكدمات على ظهرها، فيما أصيب ابنها موسى الذي كان يقف على باب المنزل وقت الانفجار بجروح بالغة في الرأس. وقد توجهت الأسرة إلى مستشفيين لإسعافه، لكنهما كانا مكتظين بالمصابين. وكما تستذكر مريم: “كان الجرحى موضعين إلى جانب بعضهم بعضاً، والدماء تملأ المكان “.
لاحقاً، تم نقل الطفل إلى مستشفى أبو جودة في قرية جل الديب شمال بيروت. لكن “لإجراء تصوير [طبقي محوري] لرأسه، طلبوا 400 ألف ليرة [263 دولاراً بسعر الصرف الرسمي]”، كما تروي الأم، و”800 ألف ليرة لتصوير كامل الجسم، بالإضافة إلى أجور الطبيب”. ولأنه لم يكن بوسعهم دفع المبلغ، ضمد الأطباء الجرح فقط. علماً أن السوريين يواجهون أصلاً عقبات لا تحصى للوصول إلى خدمات الرعاية الصحية في لبنان.
مريم تجلس بجوار ابنها المصاب موسى في منزلهما ببيروت، 10/ 08/ 2020 (سوريا على طول)
بعد أسبوع من ذلك، بدأ موسى يعاني صعوبات في المشي، ما جعل والدته تضطر إلى حمله إلى الحمام. وتضيف أنه فقد السمع في أذنه اليسرى، فيما شفتاه متورمتان. وهو “لا يستطيع تناول الطعام غير السائل، لأنه لا يستطيع فتح فمه بسبب الإصابات”، كما “يعاني من نوبات ارتعاش متقطعة، وجسمه بارد دائمًا؛ لا أعرف ما إذا كان ذلك بسبب ما فقده من دم”.
صورة تُظهر جانباً من مبنى مستشفى القديس جورج (أو مستشفى الروم) الذي تضرر بشدة جراء الانفجار، 10/ 08/ 2020 (سوريا على طول)
صباح الاثنين الماضي، أحال الصليب الأحمر اللبناني موسى إلى مستشفى رفيق الحريري. لكن مريم تخشى إصابته بوباء كورونا (كوفيد-19)، كون مستشفى رفيق الحريري هو المستشفى الرئيس الذي يعالج المصابين بالوباء. كما إنها قد لا تتمكن من توفير أجرة سيارة التكسي إلى هناك. “لم تساعدني أي جمعية. يأتون ويطرحون الأسئلة من دون تقديم أي مساعدة “، كما تقول. ورغم أن عائلتها مسجلة لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإنهم لا يتلقون أي مساعدة مالية. وتضيف مستنكرة: “إذا لم أكن أنا بحاجة، فما هي المعايير التي نستحق المساعدة بموجبها؟ هل نتسول؟”.
“أتيت إلى هنا هرباً من الحرب والدمار. هذا يكفي، يجب أن أغادر البلد. إذا كان الشعب اللبناني بالكاد يحصل قوت يومه، فكيف يفترض أن نصمد نحن (اللاجئون السوريون)؟”
في الأثناء، يأتي صوت نحيب موسى الذي يقول وهو ويخفي وجهه بغطاء السرير: “أنا بس بدي اطلع من لبنان [أنا فقط أريد مغادرة لبنان]”.
منازل بلا شبابيك
مبنى في الكرنتينا تظهر عليه آثار الدمار، وخلفه ما تبقى من صوامع مرفأ بيروت، 10/ 8/ 2020 (سوريا على طول)
في حي الكرنتينا، على بعد كيلومتر واحد من مركز انفجار بيروت، تعمل مجموعة من السوريين في ورشة لتصليح السيارات وسط الأنقاض. وكما يروي طلال محمد، من محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، لـ”سوريا على طول”: “قبل ساعة من الانفجار، أغلقنا مرآب تصليح السيارات، فلم يكن أحدٌ هنا لحظتها”. و يعيش هذا السوري البالغ من العمر 40 عاماً مع عائلته في حي الأشرفية، أحد أحياء بيروت التي تضررت بشدة. رغم ذلك، فقد “نجا” منزله من الدمار لأن نوافذه كلها كانت مفتوحة. لكن، كما يضيف: “أطفالي، لا سيما الرضيع منهم، في حالة صدمة، وهم في رعب دائم حالياً”.
طلال محمد وحسن باقور (الثالث والرابع من اليسار) يقفان في ورشة تصليح السيارات اللتين يعملان فيها في الكرنتينا ببيروت، 10/ 8/ 2020 (سوريا على طول)
في شارع مواز لورشة تصليح السيارات، يعيش زميل طلال، حسن الباقور البالغ من العمر 50 عاماً، والقادم من مدينة حماة وسط سوريا. وقد أنقذه من الانفجار، كما يقول، أنه كان في مستشفى رفيق الحريري، على الجانب الآخر من المدينة، لإجراء غسيل الكلى اليومي. لكن منزله تضرر، و”ما من أحد يقدم لنا العون لإصلاح الأبواب والشبابيك”.
وقد لاقى الكارنتينا، وهو من الأحياء الفقيرة، اهتماماً أقل مقارنة بالأحياء الأكثر ثراءً، مثل مار مخايل. لكن صباح يوم الاثنين الماضي قام عشرات الشبان المتطوعين بإزالة الأنقاض وتقييم الأضرار في شوارعه.
من اليسار إلى اليمين: جمانة شعار وفاطمة خالد وغصون دودي، يجلسن في غرفة الجلوس بمنزل فاطمة، والتي تحطمت نوافذها، في الكرنتينا ببيروت، 10/ 8/ 2020 (سوريا على طول)
تسكن فاطمة خالد، اللاجئة من محافظة حماة، في المبنى المجاور لورشة تصليح السيارات. وقد تحطمت نوافذ منزلها وأبوابه. وتقول السيدة البالغة من العمر 48 عاماً، والتي ترك التفجير كدمة على كتفها: “لو كنا في المطبخ، لكنا في عداد الموتى”. موضحة: “لم نطلب عون أحد؛ على العكس، ساعدنا الجرحى وقدمنا الطعام والماء للمتطوعين”.
وتشتكي فاطمة وجاراتها اللواتي جلسن في غرفة الجلوس بمنزل فاطمة، وجميعهن سوريات مسجلات في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، من أنهن لا يحصلن على مساعدة مالية. وكما تقول إحداهن، وهي غصون دودي، ذات الخمسة والأربعين عاماً من مدينة حماة أيضاً، فإن “المساعدة الوحيدة التي نريدها هي إخراجنا من لبنان. لكننا لا نستطيع العودة إلى حماة”.
في الوقت ذاته، تدرك هؤلاء السيدات أنهن نجون مما هو أسوأ، فالأضرار المادية التي لحقت بمنازلهن يمكن إصلاحها، بينما على بعد شارع واحد، فقد أحمد صطيفي، وهو من إدلب، زوجته وابنتاه.
حداد مشتعل بالغضب
مع استمرار عمليات انتشال الجثث والتعرف على هوية أصحابها، ارتفع عدد قتلى انفجار بيروت إلى أكثر من 200 شخص، فيما تزال حصيلة الضحايا السوريين غير نهائية. إذ بحسب السفارة السورية في بيروت، بلغ عدد من قضى من السوريين إلى 43 شخصاً، حتى الآن. في المقابل، تم إبلاغ مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بوفاة 34 لاجئا. فيما ضمت آخر قائمة بأسماء الضحايا صادرة عن وزارة الصحة اللبنانية أسماء ثمانية سوريين فقط. علماً أن القائمة ضمت 152 اسما، العديد منهم مجهولي الجنسية.
وكما ذكرت رويترز، فقد تم تحذير السلطات اللبنانية في تموز/يوليو الماضي من أن وجود 2,750 طنا من نترات الأمونيا في مخزن بمرفأ بيروت يمثل خطراً أمنياً. ويقول محمود تعقيباً على تصرفات سلطات الميناء إن “ما فعلوه حرام. لا أحد فيهم يحمل حس المسؤولية، هم ليسوا بشراً”. وأضافت ريما مستو، شقيقة روان: “الله لا يسامحهم”.
قوات الأمن تطلق قنابل غاز مسيل للدموع على متظاهرين في ساحة الشهداء ببيروت، 8/ 8/ 2020 (سوريا على طول)
وقد أثار الانفجار غضباً عارماً في أوساط عائلات الضحايا والناجين والمصابين، وسكان بيروت بشكل عام، اتخذ شكل تظاهرات عارمة في 8 آب/أغسطس الحالي. وبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن كثيراً من اللبنانيين يرون أن “فساد الحكومة والنخب السياسية وعدم كفاءتهم” هي المسؤولة عن “انفجار 4 آب/أغسطس في ميناء بيروت، الذي دمر المدينة”. وعلى إثر ذلك، استقالت الحكومة اللبنانية، في 10 آب/ أغسطس، وعاد صدى هتافات ثورة تشرين الأول/أكتوبر الماضي ليتردد من جديد في شوارع بيروت.
وتستذكر ريما أنها كانت هي وشقيقتها تخرجان يومياً للمشاركة في”الثورة” (التظاهرات). لكنها الآن وعائلتها في حداد، ما منعها من النزول إلى الشوارع التي يجتاحها الغضب. مع ذلك، يخفف من حزن ريما شعورها أن “الجميع يريدون الثأر لروان، ولجميع الضحايا، والثأر لبيروت”.
نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور