من قلب الغوطة الشرقية: كوميديا سوداء تعكس واقع الحصار
يبدأ المشهد كما تبدأ العديد من مشاهد السلسلة المصورة، شابان […]
18 فبراير 2018
يبدأ المشهد كما تبدأ العديد من مشاهد السلسلة المصورة، شابان يستلقيان في مزرعة، تحيط بهما أشجار الفاكهة والذرة، ومجموعة من الدجاج تنقر الأرض بحثاً عن شيء تأكله.
الأول، عامر- أصلع ووجه دائري – يستلقي على سرير معدني، مرتدياً قميصاً أزرقاً مغبرّ، تطل أصابع قدمه عبر ثقب في جوربه، وتتدلى نظارته المعلقة على الهيكل المعدني للسرير بجانبه.
والآخر، صبحي – أكثر نحافة من عامر- يجلس على الأرض الترابية، ظهره مستند إلى السرير وساقيه ممتدتان على الأرض، تغطي قبعة عينيه، وتحميها من أشعة الشمس في الصيف، تاركة مساحة لدخان السجائر للخروج من فمه.
يخاطب عامر صديقه “المدن المحاصرة متل أي أكلة معلبة“.
صبحي ينفث سيجارته بصمت، ويستمع لما يقوله عامر.
يتابع عامر “إلها شروط… وإلها مدة صلاحية، الطاقة البشرية للحصار أبو سنة، سنتين بالكثير”.
صبحي إلى اليسار، وعامر إلى اليمين، في مشهد من السلسلة المنشورة على الإنترنت، تصوير: من الغوطة.
حديث عامر وصبحي هو جزء من إحدى حلقات سلسلة “خدني جيتك” المصورة، وهي عبارة عن سلسلة من القصص الكوميدية السورية التي يتم إنتاجها وتصويرها داخل ضواحي الغوطة الشرقية، التي تسيطر عليها المعارضة، شرق دمشق.
ويقترب الحصار الذي يفرضه النظام السوري على الغوطة الشرقية من الذكرى السنوية الخامسة له، في نيسان المقبل، وفي المنطقة التي تضم حوالي ٤٠٠ ألف نسمة، يعاني الأهالي من نقص في المواد الغذائية، كما أن قصف النظام يحصد الأرواح يومياً، ويؤدي الاقتتال بين فصائل المعارضة المحلية إلى إبعاد السكان عن أقاربهم وخدمات الرعاية الطبية ومحاصيلهم الزراعية.
يقول أعضاء فريق “خدني جيتك”، السلسلة التي أطلقت في عام ٢٠١٦ تحت اسم “سيجارة”، لسوريا على طول، أنها تهدف إلى إظهار جانب مختلف لواقع الحياة تحت الحصار في الغوطة الشرقية، من خلال الكوميديا السوداء.
ويقول حكم القوتلي، مخرج مقيم في القطاع الأوسط بالغوطة الشرقية، أشرف على إخراج حلقات سلسلة خدني جيتك “اليوم عندما تحدث أي شخص عن الغوطة سيقول لك: حزن وألم وحصار وجوع وغيرها، ونحن بالفعل لدينا كل هذا”.
ويتابع القوتلي لسوريا على طول “ولكن لدينا أيضاً شعب حي، يضحك ويغني ويمزح. بدو يعيش بالنتيجة”.
تصور حلقات سلسلة خدني جيتك، ومدة كل منها خمس دقائق تقريباً، محادثة بين شخصية عامر وصبحي التي قام بأدائها اثنين من سكان الغوطة الشرقية وهما عامر الموهباني وأحمد حمدان، وغالباً ما يدور حديثهم حول الأحداث المختلفة في سوريا خلال الحرب، في مزرعة بالقطاع الأوسط الزراعي، في الغوطة الشرقية.
ويخترق صوت إطلاق النار والغارات الجوية أحياناً جدران المزرعة، وهو تذكير بمشاهد اليأس وقسوة الحصار التي تشكل محور التغطية الإعلامية المحلية والدولية للغوطة الشرقية، وفي الأخبار، تظهر صور الغوطة المحاصرة الأسواق المقصوفة والجثث المترامية والدخان المتصاعد.
ولا تتجاهل “خدني جيتك”، السلسلة المصورة التي يدعمها اليوم تلفزيون سوريا، والذي يتخذ من تركيا مقراً له، تلك الحقائق المحزنة في الغوطة، لكنه يناقشها عن طريق الكوميديا الساخرة والصداقة التي لا تتزعزع بين الشخصيتين.
يقول كاتب السيناريو مضرعدس “أحاولأن أجعل المشاهد يرىقصتناومعاناتنا،ورغمكلالألم أجعلهيضحك!”.
“لا شيء جاهز”
يسأل صبحي صديقه عامر في مشهد من خدني جيتك “قولتك تنحل ع جنيف تسعة؟”، في إشارة إلى المدينة التي انهارت فيها محادثات السلام، والتي توسطت فيها الأمم المتحدة، في كانون الأول الماضي.
يأتي السؤال بينما يلعب الصديقان الشطرنج على ضوء الشموع، مستخدمين حبات بسكويت بيضاء وسوداء كأحجار شطرنج.
“ليش؟ وصلنا لتسعة؟”
يرد صبحي “والله ما بعرف، من جنيف أربعة ما عاد عديت”.
يقول عامر، وهو يتناول إحدى حبات البسكويت “مارح تنحل أبداً…اطلع شوفنا وين، لسا تحت الحصار”.
يقول القوتلي إن محاولة إنتاج سلسلة من قلب هذا الحصار – حيث لا يوجد كهرباء بشكل دائم، وحتى اللوازم الطبية أصبحت نادرة – يمثل تحدياً بحدّ ذاته.
صبحي وعامر يناقشان المفاوضات الدولية، حول لعبة الشطرنج، تصوير: تلفزيون سوريا.
عندما أطلقت السلسلة عبر الانترنت تحت اسم “سيجارة” في عام ٢٠١٦، لم يكن لدى الممثلين أي خبرة، وكانت المعدات بدائية والتمويل غير موجود، ولم يتمكنوا من إيجاد أي فنيين في مجال الصوت والإضاءة للعمل ضمن الطاقم.
وبدلاً من ذلك، تمكن الفريق المتطوع من التصوير باستخدام “الموارد المتاحة”، كما يقول المخرج، وهذا يعني التصوير بكاميرا واحدة، في مكان واحد وبمعدات يدوية الصنع.
حيث أوضح قائلاً “لم يكن هناك أي شيء جاهز نستخدمه… كان علينا صنع المعدات بأيدينا”.
تمكن الفريق من تصميم شاريو للتصوير (جهاز للتصوير) مصنوع من الخشب وإطارات الشبابيك بطريقة بدائية ولكنها جيدة وتفي بالغرض، وحتى الإضاءة كانت عبارة عن صحون كرتون، وقاموا بتثبيت مصابيح صغيرة عليها، وتلقى الفريق تدريبات على الإنترنت وقرؤوا كتيبات حول التمثيل والتصوير والإضاءة.
يقول مضر عدس، كاتب السيناريو”نعمل مع أشخاص لم يقفوا طوال حياتهم أمام الكاميرا ولم يتلقوا ساعة تدريب واحدة على التمثيل، وهو أمر صعب للغاية”، ويتواصل عدس مع الممثلين والمخرج عبر السكايب من قطر، حيث يعيش الآن.
والجدير بالذكر أن عدس هو المشارك الوحيد من خارج الغوطة الشرقية، فهو من أهالي ضاحية قدسيا غربي العاصمة السورية، وانخرط بالعمل مع الطاقم في عام ٢٠١٦ من خلال المصور الصحفي عامر الموهباني، وهو صديقه وأحد الممثلين.
يقول عدس ” من المهم جداً أن تنتج عملاً من داخل الحصار حيث تكون الرسالة أعمق وأكبر لأن الأشخاص الذين يعانون الحصار هم من يؤدون شخصيات العمل”.
وبحسب كاتب السيناريو فإن جميع الطاقم يساهم في طرح أفكار تتعلق بالعمل، والتي يتحول فيما بعد إلى مادة درامية.
“ممكن”
يتساءل صبحي “جماعة أخوك عندهن صواريخ بتوصل لحلب؟”
يقول عامر، في حوار ضمن الحلقة الأولى من “سيكارة”، التي نشرت على الإنترنت في أيار ٢٠١٦، حيث كانت المعارك قد اندلعت بين المعارضة والنظام في ثاني أكبر مدينة في سوريا، “ما بظن“.
وبينما يشرب صبحي الشاي، يواصل قائلاً “هلأ إذا حطينا صواريخ جماعة أخي مع صواريخ جماعة أخوك… بوصلوا على حلب؟”
يدخن عامر سيجارته بعمق، ويفكر بما قاله صبحي.
ويجيب “ممكن”.
وحققت السلسلة عشرات الآلاف من المشاهدات بعد أن نشرت صفحة من الغوطة الحلقة الأولى من “سيجارة” على فيسبوك في عام ٢٠١٦، حينها لفتت انتباه تلفزيون سوريا في أواخر العام الماضي.
واليوم، بعد توفر التمويل وإطلاق اسم جديد على السلسلة، أصبح فريق “خدني جيتك” يضم فنيي صوت وإضاءة، فضلاً عن مصور محترف، كما توسعت مواقع التصوير لتمتد خارج جدران مزرعة العائلة، وأصبح هناك وجوه جديدة ترافق النجوم الموهباني وحمدان في حلقات أسبوعية تم نشرها على قناة يوتيوب تلفزيون سوريا.
أحمد حمدان يلعب دور صبحي في مشهد من “خدني جيتك”. تصوير: سامي الزبيدي.
ولكن بالرغم من نمو الفريق وتطور جودة العمل، لا تزال هناك تحديات، ولا يزال العمل ضمن الفريق على أساس “طوعي نوعاً ما”، كما يقول القوتلي.
وتزامن بدء السلسلة، مع تكثيف الحصار على الغوطة الشرقية.
ففي العام الماضي، أغلقت الحكومة السورية معبراً رئيسياً للتجارة في الغوطة واستولت على شبكة من أنفاق التهريب التي كانت تسهل حركة البضائع من وإلى الغوطة الشرقية.
ونتيجة لذلك، تضاعف سعر السلع الأساسية، وتضاءل حجم المعونات الغذائية، إلى أن أصبحت نادرة، كما أن اتفاقية خفض التصعيد التي تدعمها روسيا، والتي دخلت حيز التنفيذ في الغوطة الشرقية في تموز ٢٠١٧ لم تغير حال الغوطة الإنساني ولم توقف العنف والقصف فيها.
ففي الأسبوع الماضي وحده، أسفر قصف النظام المكثف والقصف الروسي للغوطة عن مقتل أكثر من ٢٠٠ مدني في الغوطة الشرقية، وأجبر فريق “خدني جيتك” على إيقاف التصوير إلى أجل غير مسمى.
يقول القوتلي “الظروف لا تساعدنا لنعطي كل ما لدينا”.
وحتى في الأيام الأكثر هدوءاً، قبل ارتفاع وتيرة الضربات الجوية والقصف، كانت كاميرات التصوير تستغل فرصة توقف القصف لإكمال مشاهد العمل، كما حرص الفريق على عدم التصوير في الأماكن التي لا يرغب السكان بوجودهم فيها.
يقول المخرج “الناس تخاف من وجود الكاميرا، يخافون من استهداف مكان التصوير”.
“بيتي بيتك”
في إحدى حلقات كانون الأول ٢٠١٧ من “خدني جيتك”، يصل عامر إلى مكان تواجد الصديقين المعتاد، المزرعة، ليتم إطلاق النار عليه من قبل صبحي.
فيسأل عامر صديقه “شو صاير؟”
ويصرخ صبحي بوجهه مستخدماً لهجة غير معتادة للحديث مع صديقه “المزرعة صارت منطقة حكم ذاتي ونظراً للأوضاع الصعبة والظروف الراهنة، يمنع منع باتاً دخول حدا لهون بدون كفيل”، فيناشد عامر صديقه قائلاً “بس أنا صديقك المقرب”، لكن دون جدوى، عندها يغادر عامر المزرعة مكتئباً.
في لحظة ما، تبدو أن علاقتهم الطويلة قد انقطعت.
وكان المشهد بهدف التعليق على الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد، شمال وشرق سوريا، حيث يقول كاتب السيناريو عدس لسوريا على طول، إنه مثال على كيفية خلق مشاهد ضمن “خدني جيتك” تهدف إلى معالجة المواضيع المتعلقة بسوريا ككل وليس الغوطة فقط.
وانسحب النظام السوري من عدد من المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال سوريا في عام ٢٠١٢، حينها أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي الفيدرالية في الشمال السوري، واليوم تمتد الأراضي شبه المستقلة، ذات الغالبية الكردية، على طول الحدود الشمالية لسوريا مع تركيا، وتغطي ربع مساحة البلاد.
عامر، وهي الشخصية التي يؤديها عامر الموهباني، يخاطب صبحي في “خدني جيتك”، لقطة من: يوتيوب.
إن إقامة دولة كردية مستقلة ذاتياً، وتحول مزرعة صبحي لتكون ذاتية الحكم، يعكسان السرعة التي تحولت فيها الانقسامات، الموجودة مسبقاً، بين مكونات الشعب السوري – الدينية والعرقية والإيديولوجية – إلى حدود داخلية وتحالفات مسلحة موجودة اليوم على الأرض.
ومسألة الانقسامات والنزاعات هي موضوع أساسي ضمن سلسلة “خدني جيتك”، وجاءت التسمية من فكرة الأخذ والعطاء بين صديقين قد يختلفان في الرأي لكنهما يبقيان معاً رغم ذلك.
يقول القوتلي إن عامر وصبحي “هما شخصيتان متناقضتان بالشكل والمضمون”.
ويضيف أن كليهما يبدأ كل حلقة بطرح أفكار تعارض الآخر.
ويضيف القوتلي “يتعلق الأمر بموضوع الحوار والنقاش كوسيلة لكسر التناقض والخلاف بينهم”.
لكن الحوار لم يضع حداً لحصار الغوطة الشرقية، ناهيك عن وضع حدّ للانقسامات في قلب الحرب السورية التي دامت سبع سنوات.
إلا أن الانقسامات في هذه الكوميديا السوداء لا تدوم، فبعد أن يغادر عامر المزرعة التي تتمتع بالحكم الذاتي الآن، يعود صبحي إلى سريره، ويشعل سيجارة ويغمض عينيه.
وبينما تنبعث أنغام أغنية سورية شعبية من مسجل كاسيت بجانبه، يخرج السيجارة من فمه ويوجهها وهو مغمض نحو الكرسي الذي يجلس عليه عامر عادة.
ويقول صبحي “خود سحبة”.
وعندما لا يتلقى أي رد، يفتح صبحي عينيه ليجد كرسياً فارغاً أمامه.
فيصرخ مذعوراً “أنا شو عملت؟”
“عامر!”
فيجيء صوت عامر من بعيد “صبحي!”
ويركض الاثنان باتجاه بعضهما ويتعانقان.
فيقول صبحي “مافيني عيش بدونك يا رفيقي”.
“اعتبر البيت بيتك”
إعداد: إيفري إيدلمان ، عمار حمو
ترجمة: سما محمد