7 دقائق قراءة

مهاجرون سوريون في السجون الليبية “رهائن مال”

يتصيد "السماسرة" زبائنهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويتعهدون لذوي المحتجز بالبحث عنه مقابل مبلغ مالي قد يتجاوز 2000 دولار، مستغلين سوء معاملة المحتجزين كوسيلة لرضوخ ذويهم والإذعان لمطالبهم.


8 أبريل 2022

باريس- في منتصف العام الماضي، ترك حسن أبو أيوب (اسم مستعار) مدينة درعا قاصداً ليبيا، كبلد عبور بهدف الوصول إلى أوروبا في هجرة “غير شرعية” لينتهي به المطاف في سجون الحكومة الوحدة الوطنية الليبية.

وصل أبو أيوب، 27 عاماً، إلى مطار بنغازي قادماً من دمشق، ومن ثم سلك طريقاً صحراوياً برّاً ليصل إلى العاصمة الليبية طرابلس، واتفق مع مهرب لنقله من مدينة زوارة، 120 كيلومتراً غرب طرابلس، إلى السواحل الإيطالية، لكن “بعد إبحار لمدة 16 ساعة في المياه الدولية، ألقى خفر السواحل الليبي القبض عليّ مع عشرين شاباً كانوا معي بنفس القارب”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

وتحتجز حكومة الوحدة الوطنية، التي تأسست في 2021 بمبادرة أوروبية، عشرات السوريين، من دون محاكمات أو تحديد مدة احتجازهم، على خلفية محاولتهم الوصول إلى أوروبا عبر المياه الليبية، ما يجعلهم عرضة لابتزاز “سماسرة السجون”، كما وصفتهم مصادر تحدثت لـ”سوريا على طول”.

وتأتي ممارسات ليبيا ضد اللاجئين في إطار عملها بمذكرة التفاهم الموقعة مع إيطاليا في العام 2017، والتي تم تمديدها، في شباط/ فبراير 2020 لمدة ثلاث سنوات، وتنص الاتفاقية على أن تساعد إيطاليا خفر السواحل الليبية في إيقاف قوارب الهجرة، وإعادة المهاجرين إلى مراكز الاحتجاز. وفي شباط/ فبراير الماضي طالبت 96 منظمة متعددة الجنسيات إلغاء المذكرة لآثارها الكارثية، بما في ذلك سوء معاملة المهاجرين وابتزازهم مالياً.

ويتوجب على المحتجز دفع مبالغ مالية “من أجل الحصول على صك خروج”، وفقاً لرئيس منظمة رصد الجرائم الليبية، علي العسيلي، ومن لا يملك المال “مصيره البقاء خلف القضبان وسط ظروف قاسية”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

ظروف احتجاز مزرية! 

ساق جهاز الهجرة غير الشرعية التابع للحكومة الليبية أبو أيوب إلى سجن “غوط الشعال” القريب من العاصمة طرابلس، قضى فيه شهرين قبل أن ينقل إلى سجن “بير الغنم” على بعد كيلومترات من السجن الأول، الذي بقي فيه لمدة شهر قبل إطلاق سراحه.

قاسى أبو أيوب في فترة سجنه بـ”ببير الغنم” ظروفاً صعبة، وكان دائم “التعرض للضرب والشتائم دون أي سبب”، ناهيك عن سوء الخدمات، “فالمياه غير نظيفة، ودورة مياه (مرحاض) واحد مخصص لأكثر من 300 سجين”، لذلك كان يمتنع عن دخوله “حتى تنفذ قدرتي على التحمل”

وعمّق “ارتفاع درجات الحرارة وسوء التهوية” من معاناة السجناء، خاصة في ظل تفشي كوفيد-19، فبحسب أبو أيوب “ظهرت على كل السجناء أعراض الإصابة بالفيروس، لكن لم نتلقى علاجاً من إدارة السجن، ولم تُجرى لنا تحاليل للتأكد من ذلك”.

تتقاطع رواية أبو أيوب مع عبد الله الحوراني، 19 عاماً، الذي أودع في سجن الزاوية وغوطة الشعال لمدة شهر، بين آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر 2021، بعد أن ألقى خفر السواحل الليبية القبض عليه أثناء محاولته العبور إلى إيطاليا، واصفاً ما يحدث مع السجناء بـ”الفظائع”.

ووصل الحوراني إلى ليبيا، في حزيران/ يونيو 2021، عبر طيران “أجنحة الشام”، بهدف مواصلة رحلته إلى “هولندا للقاء أمي المقيمة فيها منذ عام 2018″، كما ذكر لـ”سوريا على طول”,

وقدّر علي العسيلي عدد المحتجزين السوريين في السجون الليبية “بأكثر من 400 شخص، بينهم نساء وأطفال”، وهم من ضمن آلاف المحتجزين الآخرين، إذ “في مركز الماية قرب طرابلس يوجد 1500 مهاجراً محتجزاً من عدة جنسيات بينهم نحو 50 طفلاً، وفي مركز غوط الشعال بطرابلس يوجد نحو 3000 محتجزاً”، مؤكداً “تعرض محتجزين للضرب بالعصي وخراطيم المياه وإهانتهم بشكل متكرر”.

وعانى أحمد الأحمد (اسم مستعار)، الذي احتجز لشهرين في سجن “غوط الشعال” بين حزيران/ يونيو وآب/ أغسطس 2021، من سوء التغذية، فغالباً ما يقتصر الطعام على “وجبتي معكرونة صباحاً ومساءً من دون أي أصناف أخرى”، موضحاً لـ”سوريا على طول” أنه فقد 22 كيلوغراماً “خلال مدة احتجازي”.

الأسوأ من ذلك أن السجون الليبية “تديرها ميليشيات، لكن باسم الدولة”، وفقاً للأحمد، 30 عاماً، في إشارة إلى تحكم أشخاص متنفذين وجماعات بالسجون ومصير السجناء فيها.

الموت تحت التعذيب!

في آب/أغسطس 2021 كان عبد الله الحوراني شاهداً على تعذيب محتجز سوري حتى الموت في سجن “الزاوية”، لأنه “لأنه طلب منهم تلقي العلاج”، مشيراً إلى أن الضحية “طلب بإلحاح على إدارة السجن لنقله إلى المستشفى، وبدلاً من الاستجابة له، ضربوه إلى أن فارق الحياة”. وبقيت جثته “ثلاثة أيام داخل السجن”.

وينحدر الشاب الضحية من مدينة نوى بريف درعا، وفقاً للحوراني، وهو ليس الوحيد الذي يقضي في السجن، إذ “سمعنا عن موت اثنين آخرين نتيجة الإهمال الطبي والتعذيب في سجني الزاوية وغوط الشعال”. وكان تجمع أحرار حوران، مؤسسة إعلامية محلية، وثق وفاة الشاب محمد يوسف بركات في سجن الزاوية نتيجة التعذيب.

وخلال فترة اعتقاله في سجن “غوط الشعال”، شهد الحوراني حادثة تعذيب أخرى، لشخص من مدينة داعل بريف درعا “لعدم قدرة عائلته على دفع الفدية المالية”، ما دفع عناصر السجن “بأخذ الشاب إلى مكان خاص بهم، وبعد أن فشلوا في مساومة أهله رموه من مبنى، ليسعفه بعد ساعات شخص ليبي إلى المشفى”، وفقاً للحوراني.

ولا يقتصر التعذيب على المحتجزين السوريين، وفقاً لأحمد الأحمد، مشيراً إلى تعرض محتجزين من جنسيات مختلفة، بما فيهم سوريين، للتعذيب على يد عناصر سجن “بير الغنم”، وكان الأحمد شاهداً على عمليات “تعذيب لأشخاص، بعضهم تعرضوا لكسر في ذراعه أو ساقه”.

وبدلاً من تقديم إدارة السجن العلاج للسجناء، يتطوع السجناء “في تضميد جراح المصابين، وتجبير الكسور”، وفقاً للأحمد. أكثر من ذلك “نشتري الأدوية المسكنة والضمادات بأضعاف أسعارها من السجانين”.

وعزا الأحمد، سبب منع إدارة السجون نقل المرضى والمصابين إلى المستشفيات أو العيادات خارج السجن “خشية توثيق الانتهاكات الواقعة عليهم، خاصة في حال تلقي العلاج بمراكز تابعة لمنظمات دولية”.

من جهته، قال علي العسيلي، إن بركات، البالغ من العمر 50 عاماً، توفي “نتيجة الإهمال الطبي”، لكن هذا لا ينفي تعرض المهاجرين، بما فيهم سوريين للتعذيب، إذ وثقت منظمة رصد الجرائم الليبية، التي يديرها عسيلي “تعرض مهاجرين لشتى أنواع التعذيب، وسوء المعاملة”.

كذلك، يتم الاحتجاز “في ظروف غير إنسانية وبأماكن مكتظة، إضافة إلى التشغيل القسري، وطلب مبالغ مالية مقابل إخلاء سبيل الموقوفين” وفقاً للعسيلي.

وسبق لمنظمة العفو الدولية أن نشرت تقريراً، في أيلول/ سبتمبر 2020، نقلت في شهادات لاجئين ومهاجرين قالوا بأنهم “شهدوا موت أحباءهم أثناء احتجازهم في مراكز تابعة لجهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، أو في أماكن أخرى من الاحتجاز تديرها عصابات الاتجار بالبشر”.

وعليه، طالب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وهو منظمة مستقلة مقرها جنيف، من الحكومة الليبية فتح تحقيق عاجل في ظروف احتجاز مئات المهاجرين السوريين، ووقف الممارسات التعسفية وغير القانونية بحقهم، ومحاسبة جميع المتورطين في تلك الانتهاكات.

كذلك، طالب المرصد بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (أونسميل)، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، إجراء زيارات ميدانية للسجون ومراكز الاحتجاز، التي يحتجز فيها المهاجرون، للاطلاع على ظروف الاحتجاز، وتقديم تقارير موثّقة لأجهزة الأمم المتحدة المعنية، لاتخاذ الإجراءات الممكنة، للحد من انتهاك حقوق المهاجرين المحتجزين في ليبيا.

وحاول موقع “سوريا على طول” الحصول على تعليق من دائرة جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية في ليبيا عن الانتهاكات بحق المهاجرين المحتجزين، لكن لم نتلق أي ردّ حتى لحظة نشر هذا التقرير.

ابتزاز المحتجزين

بعد حادثة الوفاة التي شهدها عبد الله الحوراني في سجن “غوط الشعال”، سعى للخروج “خوفاً من مصير مشابه”. وعليه، تواصل مع أحد حراس السجن مبدياً استعداده دفع المال مقابل الخروج، وقد كان له ذلك “مقابل 2800 دولار أميركي جمعتها من أحد أصدقائي مقيم في طرابلس”، بحسب قوله.

ويعمل المسؤولون في السجون على “ابتزاز المحتجزين وتقديم عروض لهم للخروج مقابل المال مباشرة أو عبر سماسرة”، وفقاً للحوراني. وفي سبيل الضغط على المحتجز “يتواصل السماسرة مع ذويه لابتزازهم مالياً”، كما قال.

تجربة مشابهة عاشها حسن أبو أيوب، الذي أطلق سراحه مقابل 2500 دولار أميركي دفعها لأحد السماسرة في العاصمة طرابلس، بعد أن قضى ثلاثة أشهر في السجون الليبية. 

تواصلت عائلة أبو أيوب المقيمة في جنوب سوريا مع قريب له في العاصمة الليبية، الذي بحث بدوره عن “سمسار لإخراجي من السجن”، وفعلاً “أطلق سراحي فور دفع المبلغ، لكن بقيت وثائقي محتجزة”، ما يعني تعرضه للاعتقال مرة أخرى في حال توقيفه على أحد الحواجز الأمنية.

لذلك، تعرض أبو أيوب لعملية ابتزاز أخرى، انتهت بالحصول على الوثائق “مقابل دفع مبلغ 200 دولار أميركي إضافي”، بحسب قوله.

ويتصيد “السماسرة” زبائنهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بحسب ما ذكر خالد الإسماعيل، الذي ينحدر من محافظة القنيطرة جنوب سوريا، إذ بعد أن نشر في إحدى مجموعات السوريين بليبيا منشوراً يبحث فيه عن أي معلومات عن ابن عمه إياد “المحتجز” في ليبيا، تواصل معه عدة أشخاص عرضوا “البحث عن ابن عمي وإخراجه من السجن مقابل المال”، كما قال لـ”سوريا على طول”. 

وطلب أحد “السماسرة” مبلغ 3000 دولار أميركي “مقابل مساعدتنا في إطلاق سراحه”، وفقاً للإسماعيل، الذي وصل مؤخراً إلى السويد قادماً من ليبيا، “لكن حتى الآن لم نتمكن من تأمين المبلغ لإخراجه”.

ومن جهتها، تحاول عائلة مي الشامي (اسم مستعار) تأمين مبلغ 6000 دولار أميركي، من أجل “إطلاق سراح أختي وزوجها المحتجزين في سجن الماية جنزور بطرابلس”، بعد أن تم توقيفهما في أواخر العام الماضي خلال محاولتهما العبور إلى أوروبا.

وفي مطلع العام الحالي، تلقى والدها اتصالاً من مجهول “عرض علينا إطلاق سراحهما مقابل المال”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، وحاول “السمسار” دفع العائلة إلى الإسراع بالاستجابة لمطلبه “من خلال ذكر مساوئ السجن من ناحية التعامل مع المحتجزين وانعدام النظافة”.

وتختلف “الفدية المالية” من سجن إلى آخر، ففي “سجني الزاوية وغوط الشعال تتراوح الفدية بين 600 و1500 دولار، بحسب الزنزانة والسجان”، وتصل الفدية في سجن الماية جنزور “الذي تديره مجموعة متطلبة إلى 3200 دولار”، كما ذكر سمسار ليبي يدعى “أسد الصحراء” لـ”سوريا على طول”.

ويتولى “السمسار” مهمة التنسيق المسبق “مع الكتيبة التي تشرف على السجن”، وفقاً لأسد الصحراء، ويتم الدفع “على بوابة السجن، وفي غضون ساعة يتم استلام الفدية وإطلاق سراح المحتجز”.

غياب الدعم الحقوقي

في أواخر العام 2021، ألقى خفر السواحل الليبية القبض على إياد الإسماعيل، 28 عاماً، أثناء محاولته العبور إلى إيطاليا عبر السواحل الليبية، وتم اعتقاله تحت بند “الحجز المؤقت”، وفقاً لابن عمه خالد، الذي تواصل مع محامٍ ليبي وأخبره بأن “السلطات الليبية ترفض الإفراج عنه بحجة عدم وجود جهة رسمية يتم التواصل معها لترحيل المحتجزين”

وأضاف الإسماعيل: “إن غياب وجود أي جهة رسمية سورية للعمل على إخراج المحتجزين يفاقم الأمر سوءاً”، ويفسح المجال أمام “السماسرة” والمتنفّعين لابتزاز ذوي المحتجزين.

من جهته، اعتبر علي العسيلي، رئيس منظمة رصد الجرائم الليبية أن “من حق الأجهزة المختصة التابعة للدولة احتجاز المهاجرين غير القانونيين، وتأمين العودة الطوعية بالتعاون مع منظمة الهجرة الدولية”، أو أن تتدخل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين “لتسجيلهم ضمن قوائم طالبي اللجوء وإخلاء سبيلهم”.

لكن في بعض مراكز الاحتجاز بليبيا “لا يتم إخبار المنظمات الدولية بوجود مهاجرين”، ما يعني “حرمان المحتجزين من الحصول على المساعدات الإنسانية وتسجيلهم في قوائم طالبي اللجوء”، وفقاً لعلي العسيلي.

تعليقاً على ذلك، اعتبر فضل عبد الغني، رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن ملف المهاجرين المحتجزين في ليبيا “ضخم”، وأن هناك “تقصير أممي دولي بشأنه”، هذا لا ينفي “غياب المعارضة الصارخ، خاصة وأنها تملك علاقات قوية مع السلطات الليبية”.

ووصف عبد الغني احتجاز السلطات الليبية للسوريين من دون تقديمهم لمحاكمات أو إطلاق سراحهم “بالإجراء التعسفي”، مشدداً على ضرورة “تقديمهم للقضاء أو تسهيل خروجهم إلى دولة ثالثة”، وحذّر من “التفكير في إعادتهم إلى بلدهم الأم” لما يشكل تهديداً على حياتهم.

وحمّل عبد الغني المفوضية العليا لشؤون اللاجئين مسؤولية التواصل مع السلطات الليبية “لإنهاء مأساة المحتجزين، وإعادة توطينهم في بلدان أخرى، أو منحهم صفة اللجوء على الأراضي الليبية”.

بالمحصلة، يجد المحتجزون السوريون أنفسهم أنهم “رهائن مال”، كما وصف أحمد الأحمد، إذا “لا محاكم تنظر في قضيتنا ولا قضاء ينصفنا، وبالمال فقط يمكن أن تخرج من السجن!”

شارك هذا المقال