“نريد إرسالهم إلى ديارهم لا إلى الأفرع الأمنية” توقف عملية إعادة السوريين من السودان بعد توترات بين الإدارة الذاتية والنظام
كان السودان يأوي نحو 100 ألف سوري قبل اندلاع الحرب فيه، في نيسان/ أبريل. بادرت الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا لإعادة المئات منهم إلى ديارهم، لكن سرعان ما توقفت العملية بسبب التوترات مع دمشق.
16 يونيو 2023
القامشلي، أربيل- بصوتٍ رزين مليء بالعاطفة، استذكرت أم روسلين الأيام الآخيرة التي أمضتها في السودان، البلد الذي كانت تعتبره وطناً على مدى 14 عاماً قضتها هناك، وأنجبت خلالها أطفالها الخمسة.
“في البداية، لم نفكر ترك منزلنا، توقعنا أن يستقر الوضع بعد عدة أيام، كما كان يحصل في العادة عند حدوث مشاكل سياسية، لكن عندما غادر جيراننا ولم يبق سوى عائلتين سوريتين في المبنى الذي نقيم فيه، تسلل الخوف إلى قلبي”، قالت أم روسلين لـ”سوريا على طول” عبر مكالمة هاتفية من شمال شرق سوريا، طالبة عدم ذكر اسمها الكامل لدواعٍ أمنية تتعلق بزوجها الذي ما زال في السودان.
منذ عام 2009، تعيش أم روسلين مع زوجها وأطفالها الخمسة في السودان، وجميعهم حاصلين على الجنسية السودانية. لكن في 15 نيسان/ أبريل، اندلعت اشتباكات بين القوى المتصارعة داخل الحكومة العسكرية للبلاد، وفي أواخر/ أبريل، خرج العنف عن نطاق السيطرة في الحي الذي تسكنه العائلة في العاصمة السودانية، الخرطوم، ما اضطرهم إلى الفرار.
حتى منتصف حزيران/ يونيو، أفضى الصراع في السودان إلى تهجير أكثر من 1.9 مليون شخص، وفقاً للأمم المتحدة، من ضمنهم آلاف السوريين، الذين لجأ العديد منهم إلى السودان هرباً من الحرب في بلادهم.
ترى أم روسلين أن الحظ كان حليفها، كونها كانت مع أطفالها من ضمن المئات القليلة، الذين تم إجلاؤهم من السودان على متن طائرة، في 22 أيار/ مايو، بينما كان على غالبية السوريين البحث عن وسائل أخرى للخروج من السودان.
غادرت أم روسلين في إحدى رحلات الإجلاء الثلاث، التي تم تنظيمها بين أفراد من الجالية السورية في السودان والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، الجهة التي تدير شمال شرق سوريا بحكم الأمر الواقع، وبتنسيق مع مع الحكومة السورية. ما تزال دمشق تسيطر على جميع المطارات المدنية في شمال شرق سوريا، رغم فقدانها السيطرة على أرض الواقع في معظم أنحاء المنطقة.
أتاح التعاون، الذي لم يخلو من التوتر، إجلاء أكثر من 350 شخصاً إلى بر الأمان، فيما بقي آلاف العالقين هناك، بعضهم ليسوا من شمال شرق سوريا، وبالتالي فهو غير مخوَّلين بالمغادرة عبر الرحلات الجوية المنظَّمة، في حين أن البعض الآخر مطلوب من قبل أجهزة الأمن في دمشق ويشكل هبوطهم في مطارات تحت سيطرة النظام مخاطر عليهم.
منذ نهاية أيار/ مايو، حالت التوترات بين الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا والنظام السوري دون تسيير رحلات جوية إضافية.
مشاهد عنف لا تصدق
خلال السنوات الأخيرة، عانى السودان من أحداث زعزعت استقراره. منذ عام 2011 حتى 2013، اجتاحت المظاهرات البلاد مطالبةً بإسقاط الرئيس السابق عمر البشير، الذي حكم البلاد منذ عام 1989.
بداية، لم تنجح الاحتجاجات السلمية في الإطاحة بالبشير، بعد أن قوبلت بعنف، لكنها استُؤنِفت بقوة أكبر في عامي 2018 و2019، وأُسقِط البشير بانقلاب بعد ضغوط شعبية متزايدة ضد نظامه، لكن الانقلاب الذي قاده الجيش أفضى إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار، ومع تشبث الجنرالات بالسلطة، تجددت الاحتجاجات المدنية، ما أعاق الانتقال إلى الديمقراطية.
ورغم ذلك، لم تكن أم روسلين متوقعة أو متهيئة لاندلاع الاشتباكات العنيفة في 15 نيسان/ أبريل، عندما واجهت قوات الدعم السريع، ميليشيا شبه عسكرية، الجيش السوداني، لتستيقظ الخرطوم على أصوات إطلاق النار وهدير الطائرات الحربية التي تحوم في سماء المدينة.
“نحن معتادون على حدوث المشاكل السياسية في السودان، ولكن عادة ما تكون مؤقتة، لساعات أو عدة أيام”، لكن هذه المرة “عشنا مشاهد عنف لا تُصدَق: مجموعات من الشباب تجوب الشوارع وهي تحمل السكاكين والقضبان الحديدية مسعورة لمهاجمة الناس بوحشية”، بحسب أم روسيلين، مشيرة إلى أن العصابات “اعترضت الكثير من العائلات التي حاولت الخروج من السودان. ولكننا بحمد الله نجونا”.
بعد اندلاع أحداث السودان الأخيرة، أبلغ العديد ممن كانوا في العاصمة عن ارتكاب القوات المتصارعة أعمال عنف على نطاق واسع من قبيل النهب والابتزاز والعنف الجنسي أثناء محاولتها السيطرة على المدينة.
ولكنَّ الاستمرار في الاختباء داخل المنازل بانتظار أن يحلَّ السلام والهدوء من جديد لم يعد ممكناً، فسرعان ما نفد الطعام والماء. استذكرت أم روسلين قائلة: “منذ الأيام الأولى، توقفت الخدمات الأساسية. غادر جيراننا بسبب قطع المياه، وتفاقم الوضع سوءاً. صرنا نسمع أصوات إطلاق النار بالقرب من منزلنا”.
هروب فوضوي
فرت عائلة أم روسلين مع العديد من العائلات الأخرى من حيهم إلى مدينة شندي، على بعد 160 كيلومتراً شمال الخرطوم، ونزلوا هناك في ملجأ مع ست أو سبع عائلات أخرى لمدة شهر، “كان الأطفال والنساء ينامون معاً في غرفة واحدة، عددهم 37 نفر”، بحسب قولها، بينما “ينام الرجال في غرفة أخرى”.
ومع احتدام القتال بين أطراف الصراع، توجه مئات الآلاف من المواطنين السودانيين والمقيمين الأجانب شمالاً، في محاولة لعبور الحدود البرية إلى مصر المجاورة، فيما توجه آخرون إلى مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، للانطلاق في رحلات الإجلاء البحرية على متن السفن التي أرسلتها دول الخليج، غير أنَّ أم روسلين كانت وجهتها مختلفة. بخلاف معظم السوريين، الذين تُرِكوا لوحدهم في خضم هذه الفوضى، أُعيدت مع أطفالها إلى شمال شرق سوريا بمساعدة الإدارة الذاتية.
“اتصل بي ابن أخي، الذي كان على تواصل مع لجنة التنسيق في الإدارة الذاتية، وطلب مني تسجيل أسمائنا وأسماء جميع العائلات التي تريد الرحيل إلى شمال شرق سوريا”، كما قالت، مضيفة: “أخبرونا أنَّ الرحلة ستنطلق يوم الجمعة، ولكنها أُرجئت إلى السبت، ولم نسمع بعدها أي شيء إلى أن اتصل ابن أخي ظهر يوم السبت وأخبرني أنّ الطائرة ستغادر مساءً”.
سارعوا لقطع مسافة 500 كيلومتر، وهي المسافة التي تفصلهم عن بورتسودان، وفي اليوم التالي وصلوا بأمان إلى مدينة القامشلي شمال شرق سوريا.
ماذا عن العالقين هناك؟
تنحدر أصول عائلة أم روسلين من عين العرب (كوباني)، مدينة ذات غالبية كردية، تقع في شمال شرق سوريا، الذي تحكمه الإدارة الذاتية، ولكن لو أنهم من منطقة سورية أخرى، سواءً تحت سيطرة النظام أو فصائل المعارضة، لما كانوا مخوَّلين في الصعود على متن الرحلة الجوية التي نظمتها وتكفلت بتكاليفها الإدارة الذاتية.
قال ولات كوتي، أحد أبناء الجالية السورية في السودان، الذي ساعد في تنسيق الرحلات الجوية: “نقوم بإجلاء جميع المواطنين السوريين القادمين من شمال وشرق سوريا دون تمييز”، مشدداً على عدم التمييز، إذ “لا نخلي السوريين الكرد فحسب، وإنما الجميع على حد سواء، من كوباني وتل أبيض والرقة ودير الزور ومنبج”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”، مستخدماً اسماً مستعاراً لأنه ما يزال في السودان.
ولكن لم يتسن لجميع أبناء شمال شرق سوريا الانطلاق على متن الرحلة الجوية، إذ قد يكون قرار العودة إلى سوريا بالنسبة للبعض أشد خطراً من البقاء في السودان، لأن العودة إلى سوريا تقتضي عبور المطارات والنقاط الأمنية التي يسيطر عليها النظام السوري.
“منذ البداية سألنا شركة أجنحة الشام، التي تدير الرحلات، عن إمكانية حدوث مشاكل تتعلق بالمطلوبين للنظام”، وفق كوتي، لافتاً إلى أنهم “قالوا في البداية أنَّه لا يوجد مشكلة في ذلك، ولكنهم عادوا لإخبارنا أنَّ علينا التحقق من وجود ركاب مطلوبين من قبل أي فرعٍ أمني، لأنهم لن يستطيعوا حماية أي مطلوب”.
وكانت أجنحة الشام، وهي أول شركة طيران خاصة في سوريا، قد أُدرِجت على قائمة العقوبات الأمريكية في عام 2016 لنقلها أسلحة ومقاتلين للنظام السوري، علاوةً على ضلوعها في عمليات غسيل أموال لصالحه.
حتى الآن، نظمت الإدارة الذاتية مع أجنحة الشام رحلتين من بورتسودان إلى القامشلي. الأولى، في 22 أيار/ مايو، كان على متنها 150 راكباً، وفقاً لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية، فيما غادرت الرحلة الثانية في 31 أيار/ مايو، وكان على متنها 170 راكباً دون احتساب الأطفال والرضع.
كذلك، أعادت طائرة أخرى، في 28 أيار/ مايو جثث ثلاثة أكراد سوريين قضوا في حادث سيارة أثناء فرارهم من الصراع الدائر في السودان، بالإضافة إلى 21 راكباً من ضمنهم أقارب المتوفين، لكنها هبطت في دمشق بخلاف الرحلتين الأُخريين.
ويبدو أن مبادرة الإدارة الذاتية “توقفت بسبب الخلافات بين الكيانين”، إذ بحسب تصريح كمال عاكف، المتحدث باسم دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لـ”سوريا على طول”: “في نهاية شهر أيار/ مايو، قيل لنا أنَّ لدى دمشق تحفظات على رحلات العودة هذه، وتلقينا رسالة مفادها أنَّه لا يُسمح للعائدين من السودان بالهبوط إلاَّ في دمشق”.
ذكر أشخاص من الجالية السورية في السودان، أنّه ما يزال هناك مئات العائلات السورية في السودان التي تنتظر رحلة إجلاء إلى شمال شرق سوريا، ومن المرجح أن هناك الكثير من الأشخاص الذين تقطعت بهم السبل في مصر، إذ لجأ إليها معظم الفارين من الأحداث المشتعلة في البلاد.
بين آذار/ مارس وبداية أيار/ مايو، سجلت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين 365 لاجئاً سورياً جديداً في مصر، ليصل العدد الإجمالي إلى 146,995 لاجئا سورياً فيها. ولكن نظراً لطبيعة الأزمة الأخيرة وحقيقة أن العديد من اللاجئين غير مسجلين لدى المفوضية، فمن المرجح أن يكون العدد الكلي للاجئين السوريين الوافدين إلى مصر أعلى من العدد المذكور.
ما تزال أم روسلين على تواصل مع السوريين الموجودين حتى الآن في السودان، من بينهم زوجها، الذي بقي لحماية ممتلكاتهم في الخرطوم، قائلة: “يخبرونني أنَّهم بحاجة إلى الدواء والحليب، وأنَّه لا يوجد أطباء. لم يتبق سوى عائلة سودانية واحدة في المبنى الذي كنا نعيش فيه. يعانون من أجل الحصول على الطحين والسكر والسلع الأخرى، وما يجدونها في السوق تكون أسعارها مرتفعة بشكل مبالغ فيه”.
من الجنة إلى الجحيم
قبل الحرب الأخيرة، كان السودان مقصداً للعديد من السوريين. حتى كانون الأول/ ديسمبر 2020، كان بإمكان السوريين السفر إلى هناك دون التقدم بطلب للحصول على تأشيرة. وهم مخوَّلون بالعمل والدراسة، ويمكنهم الحصول على الجنسية بعد الإقامة فيها لمدة خمس سنوات.
دفع ذلك آلاف السوريين الفارين من اضطهاد النظام السوري باللجوء إلى السودان بعد عام 2012، حتى بلغ عددهم، بحلول عام 2021، 100 ألف نسمة، وفقا للأرقام الرسمية.
وانتقل بعض السوريين، مثل عائلة كوتي وأم روسلين، إلى هناك قبل عام 2011 لأسباب اقتصادية، وفتحوا مطاعم ومقاهي وشركات مقاولات.
قالت أم روسلين: “انتقل زوجي إلى السودان قبل بدء الأزمة السورية. كانت الفرص أفضل في السودان منها في شمال شرق سوريا”.
فيما فرَّ آخرون بحثاً عن بلد أكثر أماناً في المقام الأول، غير أن ذلك الملاذ الموعود الذي قصدوه تحول إلى جحيم يصعب الخروج منه.
“تم تعليق الرحلات لأن النظام السوري يضغط على أجنحة الشام لإنزال الركاب في دمشق بدلا من نقلهم مباشرة إلى القامشلي”، قال كوتي، مضيفاً: “كيف يمكننا ضمان سلامة هذه العائلات، وكيف يمكننا التأكد من عدم تعرضهم للمضايقات أو الاعتقال؟ نريد إعادتهم إلى ديارهم، لا إلى الأفرع الأمنية للنظام السوري”.
نُشِر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية سلام الأمين.