6 دقائق قراءة

“نشعر بالفقد”: ذكريات الكرد مرتبطة بأشجار غابة ميدانكي المعتدى عليها في عفرين

كانت غابة بحيرة ميدانكي متنفساً لسكان عفرين، يسبحون في البحيرة، ويعيشون أجواء من الفرح، يتخللها إعداد الأطباق الكردية والغناء والرقص على أنغام آلة البزق، فهل يمكن حماية هذا الذاكرة من الضياع.


17 يوليو 2024

عفرين- عادت رنكين محمد (اسم مستعار)، 47 عاماً، بذاكرتها إلى أيام صباها في عفرين، عندما كانت تقضي عطلة نهاية الأسبوع رفقة صديقاتها بجانب بحيرة ميدانكي، حيث غابتها ومياهها وجزيرتها الصغيرة.

“كانت متنفساً لنا منذ كنا أطفالاً، نسبح في البحيرة، ونصطاد السمك من مياهها، ونعدّ على ضفافها أطعمة تراثية كردية”، يرافق ذلك “الغناء والرقص على أنغام آلة البزق، ليمضي اليوم سريعاً في زحمة طقوس صاخبة من الفرح”، قالت محمد لـ”سوريا على طول”.

في مقتبل عمرها، كتبت محمد وصديقاتها، كما العديد من أبناء عفرين الحروف الأولى من أسمائهم على أشجار غابة ميدانكي بلغتهم الكردية “التي كانت ممنوعة من التداول الرسمي، كنا نشعر آنذاك بجمال الحروف لأنها تمثل لنا العشق، وتعبر عن تحدي الظلم والاستبداد”، على حد قولها.

لكنها اليوم، تقف على مشارف ما تبقى من غابة ميدانكي العتيقة، أمام مشهد مغاير تماماً لما كانت عليه في الماضي “أشجار مقطوعة، وأرض تحولت في أقل ست سنوات إلى ما يشبه الصحراء”، على حدّ وصفها.

“صمتَ كل شيء في الغابة. لا صوت حفيف الأشجار، والطيور هاجرت، كأنهم اقتلعوا قلوبنا بقطع الأشجار”، قالت محمد بأسى.

وتعرف منطقة ميدانكي في ريف عفرين، بجمال بحيرتها التي كانت تحيطها من عدة جهات غابة حراجية كثيفة، دائمة الخضرة، ما جعلها مقصداً للسياح من كافة المناطق المختلفة داخل سوريا وخارجها ومتنفساً لأهالي المنطقة.

أنشئت البحيرة في مطلع عام 2000 لتخزين مياه الشرب والري وتوليد الكهرباء عبر سد عفرين الكهرومائي. وفي عام 2004، تم إعلان البحيرة والمناطق المحيطة بها على أنها محمية طبيعية، وتحولت إلى مقصد ترفيهي لسكان المنطقة.

بعد عملية “غصن الزيتون” العسكرية، التي أطلقتها تركيا بمشاركة فصائل الجيش الوطني ضد وحدات حماية الشعب في عفرين، عام 2018، شهدت المنطقة سلسلة من الانتهاكات، ومن ذلك قطع أشجار الزيتون في الأراضي الزراعية للسكان الأصليين، وقطع الأشجار الحراجية بمحيط بحيرة ميدانكي.

“كانت عملية قطع الأشجار محدودة في أعقاب العملية العسكرية، لكن سرعان ما تفاقمت مع وصول النازحين من ريف حمص والغوطة إلى المنطقة في ذاك العام”، إذ نصبوا خيامهم في الغابات، وعند دخول فصل الشتاء “قطعوا الأشجار من أجل استخدام حطبها في التدفئة والطبخ”، بحسب محمد.

بعد فترة وجيزة، تحول الأمر إلى “تجارة مربحة” بالنسبة للفصائل العسكرية، التي عملت على “تخريب مساحات شاسعة من الغابات، لبيع الحطب وتوزيع قسم منها على عناصرها، ولم تنجُ حتى أشجار الزيتون والرمان من هذا التدمير”، بحسب محمد، مشيرة إلى أن هذه الانتهاكات “كانت تحدث باسم النازحين. اتخذوهم غطاء إنسانياً لأفعالهم”.

في عام 2022، وجهت اتهامات إلى فرقة السلطان مراد بالتورط في قطع أشجار ميدانكي، إلا أن أحد عناصر الفرقة نفى لـ”سوريا على طول” آنذاك تورط فصيله لكنه لم ينفِ تورط الفصائل العسكرية في المنطقة بهذه الجريمة.

لا يمكن للفصائل أن تنفي مسؤوليتها، لأنه “لم يعد خافياً على أحد أنهم يقفون وراء قطع الأشجار بشكل مباشر”، وعلى عكس السنوات الماضية “صارت عناصرهم تتحدث بيننا عن ذلك، نصادفهم في الشوارع والأسواق ونسمع منهم”.

اقرأ المزيد: “جريمة ضد الطبيعة”: إزالة الأشجار على ضفاف بحيرة ميدانكي في عفرين تثير الغضب والصدمة

غابة ميدانكي هي صورة مصغرة عمّا يجري من انتهاكات بحق أشجار منطقة “غصن الزيتون” عموماً، إذ بحسب منظمة سوريون من أجل الحقيقة و العدالة، أظهرت صور الأقمار الصناعية عمليات قطع للأشجار في أكثر من 114 موقعاً بين عامي 2018 و2023، منها 57 موقعاً تضرر بشكل كبير، و42 موقعاً تضرر بشكل متوسط.

الأضرار بيئية واقتصادية

إزالة الغابات والقطع الجائر للأشجار، يعرض التوازن البيئي للخطر، ويتسبب بالتلوث المناخي، لأن انخفاض المساحات الخضراء يؤدي إلى ارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو، الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع حاد في درجات الحرارة، كما قالت هيفاء الأيوبي، خبيرة بيئية تعمل مع منظمات مجتمع مدني في عفرين.

ومن المخاطر التي ذكرتها الخبيرة لـ”سوريا على طول” أيضاً، “مشكلة تلوث التربة، وتعطيل دورة المياه، وتقليل معدل هطول الأمطار، وانخفاض التنوع البيولوجي، وانقراض بعض الأنواع الحيوانية والنباتية، حيث تهاجر الطيور والحيوانات بعد فقدانها المأوى والظلال والغذاء”، ناهيك عن “فقدان التربة للعديد من المواد الغذائية الضرورية، وهو ما يؤثر سلباً على حياة بعض النباتات”.

بحيرة ميدانكي وعلى ضفافها والجبل المطل عليها تظهر الاعتداءات على الثروة الحراجية، 30/ 06/ 2024، (رند الشامي/ سوريا على طول)

بحيرة ميدانكي وعلى ضفافها والجبل المطل عليها تظهر الاعتداءات على الثروة الحراجية، 30/ 06/ 2024، (تمارى موسى/ سوريا على طول)

وفي هذا السياق، قال ريفان ابراهيم (اسم مستعار) لـ”سوريا على طول”، وهو ناشط كردي من عفرين: “اختفى الخنزير البري بعد أن كان ينتشر بكثرة في غابة ميدانكي”. 

كذلك، “لم يعد هناك وجود لأشجار السنديان”، التي تتميز بحجمها وكثافة خضرتها، وبالتالي تسبب تحويل غابة ميدانكي من أحراش كثيفة إلى أراض جافة بفقدان العديد من العائلات لمصدر رزقها، التي كانت تعتمد على السياحة في معيشتها، حيث تنتشر المقاصف والمطاعم والمحال التجارية، وفقاً لإبراهيم.

ولا تتوقف التأثيرات السلبية عند هذا الحد، بل “تُلقي هذه الجريمة بظلالها على الصحة النفسية والاجتماعية لأهالي المنطقة، الذين يشعرون بالحزن على تراثهم الطبيعي ومصدر رزقهم”، بحسب رنكين محمد، قائلة: “نشعر بالفقد بعد القضاء على غابة ميدانكي، الكثير من النساء يشعرن بذلك”.

كانت هذه الواحة الخضراء “تمثل لي جنة الأرض”، ونسجت معها “ذكريات الطفولة والشباب”، بينما ميدانكي اليوم هي مصدر “حسرة لي نظراً لما آلت إليه”.

تعلقها بغابة ميدانكي، التي تشكل جزءاً من ذاكرتها الجميلة، دفعها ذات مرة إلى البحث عن شجرة كتبت عليها ذات مرة اسمها واسم زوجها “لكنني لم أجدها. صار المكان غريباً”، قالت بأسى.

غياب المحاسبة

قالت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، في تقريرها المنشور عام 2023، عدد الأشجار المقطوعة بعشرات الآلاف. لكن حتى الآن لا يوجد أرقام رسمية لتقييم الأضرار، إلا أنّ ريناس عبد الرحمن، رئيس المجلس المحلي لناحية شران (شرا)، التي تتبع لها منطقة ميدانكي إدارياً، قال أن “مساحات كبيرة تضررت، والمشكلة عامة، إذا اختصرناها في ميدانكي فإننا نقلل من حجم المشكلة”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.

أصدرت غرفة الزراعة والمكاتب الزراعية بمنطقة عفرين تعاميم “تنص على منع قطع الأشجار الحراجية في عفرين كلها وليس في شران فقط”، قال عبد الرحمن، لكن لم تحقق التعميمات أي نتائج في وقت “تفرض الفصائل العسكرية سلطتها على القضاء وتتحكم به بشكل كبير عندما يتعلق الأمر بها أو بأحد عناصرها”، وفقاً له.

وأضاف عبد الرحمن: “يلزمنا الكثير من الوقت لبناء مجتمع مدني ومؤسسات حقيقية تنهي حالة الفوضى التي يتجرع مرارتها الشعب السوري”، على حد قوله، معبراً عن استيائه من “تغييب دور النقابات”، خاصة بعد القرار الأخير للحكومة السورية المؤقتة (المعارضة)، التي تتبع لها المنطقة، بإلغاء عدد من الفروع لنقابة المحامين بهدف الضغط على النقابة، وإلغاء الدور الذي يمكنها أن تقوم به “في متابعة خلل المؤسسة القضائية”، وفقاً له.

لا تعوّل رنكين محمد على المؤسسات الرسمية، لأن دورها لا يعدو أكثر من “قرارات ورقية لم تفلح في وقف النزيف”، واصفة هذه القرارات بـ”الشكلية”، لأنها صدرت بعد إثارة المشكلة على وسائل الإعلام، كما أنها “لم تلزم الفصائل المسلحة، وإنما كانت وسيلة استخدمتها الفصائل لمنع النازحين من قطع الأشجار واحتكرتها لنفسها بشكل ممنهج”.

في مناطق سيطرة الجيش الوطني، شمال غرب سوريا، يُفترض أن تلعب الشرطة العسكرية دوراً مهماً في منع الانتهاكات على يد الفصائل العسكرية، بينما تختص الشرطة المدنية بمنع الانتهاكات على يد المدنيين، لكن كلا الجهتين “تغض الطرف عن الموضوع مقابل الحصول على رشاوى”، كما ادعت محمد، وهو اتهام لم تتمكن “سوريا على طول” التأكد من صحته.

وأضافت محمد: “هناك غابات تم حرقها بشكل متعمّد من أجل تحويلها إلى مواقع لإنشاء المخيمات، كما أن الفصائل العسكرية أجرّت أراضٍ” هي لا تملكها، وهذه انتهاكات تتحمل تركيا مسؤوليتها، لأن المنطقة تحت نفوذها، والفصائل مدعومة منها، بحسب قولها.

اتُهِمت تركيا بالسماح، بشكل مباشر أو غير مباشر، بإزالة الأشجار على نطاق واسع في المناطق الكردية الخاضعة لنفوذها في العراق وسوريا.

مبادرات التشجير

يعمل المجلس المحلي لناحية شران حالياً على إعادة تشجير المناطق، التي تم قطع الأشجار منها في منطقة ميدانكي، إذ تم حتى الآن زراعة أربعة آلاف شجرة حراجية، كما أوضح ريناس عبد الرحمن، رئيس المجلس المحلي لناحية شران.

يسعى المجلس من هذه المبادرة إلى إعادة جمال بحيرة ميدانكي كما كانت عليه، وهو “حلم ليس بعيد المنال”، على حد قول عبد الرحمن، مشدداً على أن “المسؤولية تقع على عاتق الجميع، بما في ذلك أفراد المجتمع، لأنه لا يمكن لأي جهة أن تواجه هذه الأزمة بمفردها، وإنما تقتضي الحاجة مشاركة الجميع بدءاً من أفراد العائلة مروراً بالمسؤولين ووصولاً إلى المنظمات المحلية والدولية”.

مع تأكيدها على أهمية المبادرات، التي من شأنها تشجير المناطق المعتدى عليها، شددت محمد على ضرورة “تدخل كل من يهمه مستقبل سوريا لوقف الجرائم البيئية والإنسانية والأخلاقية، وحماية ما تبقى من غابات في منطقة عفرين، وحفظ ذاكرة شعبها من الضياع”.

“ما الذي يريدونه؟ هل كل ذلك من أجل المال؟ أم أنه مخطط ممنهج لمسح ذاكرة هذا الشعب؟”، تساءلت محمد، ثم قالت: “لا أدري إن كنت قادرة على الإجابة عن هذه الأسئلة أو أن هناك من يجرؤ على ذلك!”.

شارك هذا المقال