هيئة تحرير الشام: سعي للتواصل مع الغرب لا يضمن تحسن الوضع الإنساني شمال غرب سوريا
أبدت هيئة تحرير الشام اهتماماً في تحسين علاقتها مع الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة، من أجل إمداد العدد الكبير من السكان المهجرين إلى إدلب بالمساعدات. وفي العام 2020، صرح الجولاني: "لقد تغيرت سياستنا تجاه المنظمات غير الحكومية..."
10 مايو 2021
عمان- في الثاني من نيسان/أبريل الماضي، بثت محطة “PBS” الإخبارية الأميركية مقتطفات مُفاجِئة من مقابلة مع أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) التي تسيطر على المعقل الأخير للمعارضة في إدلب، شمال غرب سوريا. وقد حاول الجولاني من خلال إطلالته ببدلة رسمية عوضاً عن زيه التقليدي والطاقية الظهور بصورة تصالحية في أول مقابلة له مع صحافي أميركي.
يُذكر أنّ هيئة تحرير الشام، التي كانت تتبع لتنظيم القاعدة سابقاً، مُدرجة على قائمة التنظيمات الإرهابية لبلدان وهيئات مختلفة، من بينها الولايات المتحدة والأمم المتحدة. إلا أنّ الهيئة تسعى للخروج من هذا التصنيف، مُحاججةً بقطع علاقتها بالجهاد العالمي.
وأثارت مقابلة الجولاني أملاً حذراً بإحداث كوّة في جدار العزلة الدولي المفروض على إدلب. ذلك أنه “إذا تحسنت علاقة الجولاني بالولايات المتحدة، فإن هذا سينعكس إيجاباً [على الناس في إدلب] على كافة الصعد؛ سياسياً، واقتصادياً واجتماعياً”، وفق ما ذكرت لـ”سوريا على طول”، ثائرة العلي (اسم مستعار)، الصحافية والناشطة في مجال تمكين المرأة، المقيمة في محافظة إدلب.
في بعض الأوساط السياسية، تتعالى النداءات بإعادة النظر في دور هيئة تحرير الشام و مدى جدوى إدراجها على قوائم الإرهاب. ففي شباط/ فبراير الماضي، اعتبر تقرير صادر عن معهد الجامعة الأوروبية بمدينة فلورانسا الإيطالية أن الوقت قد حان لبذل مزيدٍ من الجهود لتتعاطى دول الغرب مع هيئة تحرير الشام.
في الشهر ذاته، حاجج محللون من “مجموعة الأزمات الدولية”، وهي مؤسسة بحثية مقرها العاصمة البلجيكية بروكسل، أن مُسمى الإرهاب المُلصق بهيئة تحرير الشام لم يعد له جدوى، والاستمرار بهذا التصنيف “له تأثيرٌ فظيع على الدعم الغربي للخدمات الأساسية في إدلب، فهو يُفاقم الأزمة الإنسانية”.
ولا شكّ أن المخاوف بشأن الوضع الإنساني في إدلب سيكون لها دور أساسي في تغيّر السياسة الغربية تجاه الهيئة. لكن السؤال: هل سيؤدي بذل جهود أكبر للتعاطي مع هيئة تحرير الشام إلى تحسين السياق الإنساني في إدلب، وهل سيعود هذا بالنفع على ساكني المحافظة؟
التداعيات الإنسانية لتصنيف الإرهاب
منذ سيطرت هيئة تحرير الشام على محافظة إدلب العام 2019، بعد إخضاع آخر منافسيها الرئيسين، سعت إلى تقديم ذاتها باعتبارها جماعة محلية ذات أجندة سورية، بعيداً عن وسمها بمناصرة الجهاد العالمي.
“سعت هيئة تحرير الشام جاهدة إلى تزويج كبار عناصرها من عائلات ذات قدرٍ و نفوذ قوي في إدلب. وبذلك، وضعت جذوراً ثابتة وممتدة في السياسات الاجتماعية المحلية في إدلب”، بحسب ما ذكر لـ”سوريا على طول” نيكولاس هيراس، كبير المحللين في معهد نيولاينز، وهو مركز أبحاث مقره العاصمة الأميركية واشنطن. مضيفاً أن “الهيئة اعتمدت سياسة التشبيك مع أكبر عدد من المؤسسات المحلية في إدلب”.
رغم ذلك، أثارت سيطرة منظمة مدرجة على قائمة الإرهاب مخاوف من تأثر الدعم الإنساني للمحافظة، وهي المخاوف التي سرعان ما أصبحت حقيقة.
“نحن غير مخولين بالاجتماع مع سلطات الأمر الواقع أو الحوار أو التنسيق معها من أجل ضمان الوصول للمحتاجين، جرّاء تدابير مكافحة الإرهاب. فظهورنا بمعيتهم مخاطرة بسمعتنا، ونخشى أن نفقد مصدر تمويلنا”.
“بدأ المانحون الدوليون يغيرون طريقة تعاملهم مع السلطات المحلية والحد من تمويل المبادرات التي لم تكن ذات توجه إنساني بحت، من قبيل البرامج الداعمة للاستقرار والحوكمة”، كما قال لـ”سوريا على طول” الرئيس التنفيذي لمنظمة غير حكومية في إدلب، طلب عدم الكشف عن هويته.
وللحيلولة دون حرف المساعدات عن مسارها ووصولها إلى منظمة إرهابية، “شدّد المانحون التدابير المتخذة للحد من مخاطر [التورط بالتعامل مع الإرهاب]، ما أثرّ على الاستجابة الإنسانية بمجملها”، أضاف الرئيس التنفيذي. موضحاً أن المانحين “بدؤوا بالحد من المشاريع طويلة الأمد. فعلى سبيل المثال، بدأ المانحون بالحد من المبادرات التي تستهدف وحدات معالجة المياه التي تديرها [هيئات الإدارة المحلية] واتجهوا إلى نقل المياه بالصهاريج، وهو حل غير مستدام”.
أيضاً، زاد إدراج هيئة تحرير الشام على قائمة الإرهاب محاذير المؤسسات المالية، ما أدى إلى زيادة العقبات التي تواجهها أصلاً المنظمات غير الحكومية لإيصال تمويلها إلى سوريا جراء العقوبات الدولية والتدابير المفروضة لمكافحة الإرهاب. بالتالي، أصبحت سوريا من الناحية المالية منطقة حمراء، ما دفع المنظمات غير الحكومية إلى الاعتماد على شبكات تحويل الأموال غير الرسمية، رغم افتقارها للشفافية وإمكانية التتبع.
لكن العديد من المنظمات أحجمت عن العمل في إدلب بشكل مباشر خشية تضرر سمعتها من التورط في التعامل مع هيئة تحرير الشام. وأدت تصرفات الهيئة إلى مفاقمة مثل هذه المخاوف حينما حاولت فرض ضرائب على شحنات الإغاثة أو إدراج مقاتليها ضمن قوائم المستفيدين.
وقد أدى ذلك إلى تبني سياسة “عدم التسامح بشكل مطلق”، ما يعني أن المنظمات غير الحكومية عليها الحيلولة دون وصول أي مساعدة أو تمويل للهيئة وأعضائها والشركات التابعة لها. إلا أنّ تحقيق ذلك على أرض الواقع يكاد يكون مستحيلاً، نظراً لاتساع نفوذ الهيئة في إدلب التي تحكمها حكومة الإنقاذ التي تشكلت في العام 2017، وتُعتبر واجهة مدنية لهيئة تحرير الشام.
وكما ذكر الرئيس التنفيذي للمنظمة المحلية: “تفرض حكومة الإنقاذ ضرائب على بعض الخدمات والنشاطات التجارية، لذا لا يتسنى للمنظمات غير الحكومية ضمان تحقيق سياسة “عدم التسامح مطلقاً بفاعلية”، إذ إن المستفيدين يعيشون في إدلب، ويستخدمون خدماتها المحلية ويشترون من أسواقها”. مضيفاً أن المنظمات غير الحكومية “بدأت بأداء مهمات بمنتهى الصعوبة لتطوير إجراءاتها للحد من مخاطر [تورطها في التعامل مع تنظيم مدرج على قوائم الإرهاب]، ما يتطلب مزيداً من الموظفين والموارد “.
بالتوازي، “أصبح وجود طاقمنا على الأرض ينطوي على مخاطرة. إذ يُنظر لهم كأعداء [لهيئة تحرير الشام]”، وفق ما أضاف. “فنحن غير مخولين بالاجتماع مع سلطات الأمر الواقع أو الحوار أو التنسيق معها من أجل ضمان الوصول للمحتاجين، جرّاء تدابير مكافحة الإرهاب. فظهورنا بمعيتهم مخاطرة بسمعتنا، ونخشى أن نفقد مصدر تمويلنا”.
الرأي ذاته عبر عنه عبد الرؤوف الشامي (اسم مستعار)، مدير منظمة طبية محلية غير حكومية، في حديث لـ”سوريا على طول”.
إذ إن بروز هيئة تحرير الشام في إدلب “أثر على تنفيذ مشاريعنا، لأننا لا نستطيع حل بعض المشاكل مباشرة، بل تتطلب أحيانا تدخلاً مباشراً من حكومة الإنقاذ وأحياناً الدفع لها مقابل ذلك”، كما قال الشامي، طالباً عدم الكشف عن هويته. موضحاً: “نواجه مشاكل عدة حينما نضطر إلى دفع الضرائب أو الأجور أو الغرامات أو حينما نريد تقديم شكوى”، عدا عن إجراءات التحقق الصارمة التي يتعين على المنظمة اتخاذها بآلية التوظيف لديها.
على الرغم من هذه القيود، استمرت الاستجابة الإنسانية. ذلك أن “العاملين في المجال الإنساني يتعاملون مع واقع أن هيئة تحرير الشام مصنفة تنظيماً إرهابياً طوال فترة الصراع في سوريا تقريباً، أوعلى الأقل منذ العام 2013 عندما استحوذت جبهة النصرة و”داعش” على دور كبير في ديناميكيات الصراع “، كما قالت رنا خوري، طالبة دكتوراه في مجال الإغاثة والنشاط السياسي في سوريا بجامعة نورث وسترن الأميركية. مضيفة لـ”سوريا على طول”: “لقد تعاملوا مع هذه المسائل في أماكن أخرى أيضاً، كما في غزة تحت حكم حركة حماس”.
الهيئة والمنظمات غير الحكومية: علاقة متغيرة
“في البداية، لم يكن بين هيئة تحرير الشام والمنظمات الأجنبية الكثير من التعاملات”، وفق ما قال لـ”سوريا على طول” جيروم دريفون، زميل باحث في معهد الدراسات العليا للدراسات الدولية والتنموية بجنيف، ومؤلف مشارك لتقرير صدر مؤخراً يدافع عن التوجه نحو مزيد من التعامل مع الهيئة.
وقد كان على المنظمات غير الحكومية إيجاد قنوات بديلة للتنسيق مع السلطات المحلية. و”مع الوقت، طورنا علاقات عمل ولاسيما مع المجالس المحلية”، بحسب مدير مكتب في سوريا لمنظمة طبية دولية كبيرة، تحدث لـ”سوريا على طول” شريطة عدم الكشف عن هويته. وأضاف: “لدينا بعض العلاقات المباشرة مع هيئة تحرير الشام، لكننا نعمل معهم بالوكالة من خلال قادة مدنيين وممثليين محليين”.
وأوضح دريفون أن “سياسة التظاهر بالإنكار بين هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ كانت مساعدة. فحكومة الإنقاذ تزعم أنها تشكيل مستقل عن هيئة تحرير الشام، وبذلك لا يجب أن تتأثر بالتصنيف الإرهابي”.
ويتسنى للمنظمات غير الحكومية من خلال تضافر الجهود وتنسيقها صد طلبات حكومة الإنقاذ إلى حد ما أو غيرها من محاولات التدخل من قبل المجموعات المحلية والتي تبقى حقيقة لامفر منها.
“أعتقد أن تدخلات هيئة تحرير الشام تتركز أكثر على المنظمات المعنية بتقديم الطرود الغذائية”، بحسب الشامي. مضيفاً: “بالنسبة لنا، كل شخص يحتاج إلى العلاج الطبي يقع ضمن قائمة المستفيدين. إلا أن معايير توزيع الغذاء أو المعدات تختلف، وهنالك دائماً تحديات بشأن اختيار فئة المستفيدين”.
وأبدت هيئة تحرير الشام اهتماماً في تحسين علاقتها مع الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة، من أجل إمداد العدد الكبير من السكان المهجرين إلى إدلب بالمساعدات. وفي العام 2020، صرح الجولاني: “لقد تغيرت سياستنا تجاه المنظمات غير الحكومية. نحن على استعداد لتسهيل عمل أي منظمة ترغب في العودة للعمل في إدلب، ونتعهد بعدم التدخل”.
بالمجمل، “كانت هيئة تحرير الشام على الدوام عمليّة جداً فيما يتعلق بالمنظمات المدنية المحلية التي يتركز عملها على الإغاثة في حالات الطوارئ”، وفق ما أكدت خوري. و”هذا نهج برغماتي مقارنة بداعش الذي منع، على سبيل المثال، كل الأعمال المستقلة.”
مكاسب استراتيجية بتأثير إنساني ضئيل
ما يزال بعيداً جداً احتمال إعادة النظر في تصنيف هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية في المستقبل القريب. إذ “لن تقوم الدول الغربية بإزالة الهيئة من قائمة الإرهاب ببساطة وتتقبل التعاون معها ما بين ليلة وضحاها”، بحسب دريفون. مضيفاً “أنه ونظراً إلى التجاوب التام الذي تبديه الهيئة، فإننا نعتقد أنه سيكون هناك طرق للتعامل معها ضمن شروط”.
العمل الإنساني في إدلب والذي يعاني أصلاً من قيود شديدة، يرتكز على آلية الأمم المتحدة لإيصال المساعدات عبر الحدود، والتي تعاني بدورها من ضغوط مستمرة يمارسها حلفاء سوريا في مجلس الامن
وزيادة التعاون مع سلطة الأمر الواقع في إدلب، بما في ذلك عودة بعض برامج دعم الاستقرار، يمكن استثمارها إلى أقصى حد للحصول على ضمانات من هيئة تحرير الشام من أجل وصول المساعدات الإنسانية.
إلا أن هذه الاستراتيجية تنطوي على مخاطر جمّة. أولاً، تكمن خطورتها في دعم الرواية المناصرة لنظام الأسد التي تسعى إلى حصر المعارضة السورية بالفصائل الإسلامية المدعومة من الخارج. كما إنها يمكن أن تثير ردوداً عنيفة ضد هذا النهج الاسترضائي لدى الرأي العام الغربي. فوق ذلك كله، وفيما لا شكّ أن المكاسب الإستراتيجية للهيئة من ذلك لا لبس فيها، فإن تأثير إزالتها من على قائمة الإرهاب على صعيد المساعدات الإنسانية ربما يكون أمراً مبالغاً فيه.
“على أرض الواقع، ليس لدى هيئة تحرير الشام أي مشكلة في الوصول إلى الدعم الخارجي والتأكد من رفد المجتمعات التي تسيطر عليها في المنطقة بذلك الدعم”، وفق هيراس. “لكن إزالة هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب سيتيح لها نسج علاقات علنية مع المنظمات الأجنبية الداعمة والحكومات الأجنبية. بعبارة أخرى، ستثمر جهود هيئة تحرير الشام في إبراز ذاتها على أنها صانع قرار رئيس في سوريا المستقبل”.
في الوقت ذاته، فإنه إذا “ما أزيلت الهيئة من قائمة الإرهاب، ستبقى منظمات الإغاثة الدولية تتوخى الحذر”، كما ذهبت خوري، “فهي جهات تسعى لتجنب المخاطر، ولا تحرص على ارتباطها بهيئة تحرير الشام، وإن كان بشكل غير مباشر أو بدون تخطيط” .
مع ذلك، فإن بذل جهود أكبر للتعاطي مع الهيئة ربما تشكل منفساً لمحافظة إدلب.. إذ إنّ العمل الإنساني في المحافظة والذي يعاني أصلاً من قيود شديدة، يرتكز على نحو غير مستقر على آلية الأمم المتحدة لإيصال المساعدات عبر الحدود، والتي تعاني بدورها من ضغوط مستمرة يمارسها حلفاء سوريا في مجلس الامن. ولو نجحت هيئة تحرير الشام في الخروج من تصنيف المنظمات الإرهابية، “ستُفتح لإدلب بوابات التجارة على مصراعيها وسيتوافد لها مزيداً من الدعم التركي”، بحسب هيراس. “وهذا سيجعل محاصرة إدلب وتجويع أهلها أمراً بمنتهى الصعوبة بالنسبة للأسد وحلفائه”.
تم نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.