7 دقائق قراءة

أحد أصدقاء رائد الفارس: كان فارساً وقائداً بكل ما تحمله الكلمة من معنى

صورة غير مؤرّخة لرائد الفارس. الصورة من مركز كفرنبل الإعلامي. […]


27 نوفمبر 2018

صورة غير مؤرّخة لرائد الفارس. الصورة من مركز كفرنبل الإعلامي.

لم تكن التهديدات الموجهة ضد رائد الفارس، القيادي في المجتمع المدني السوري والناشط الإعلامي، شيئاً غريباً بالنسبة له.

فمنذ السنوات الأولى من النزاع السوري، كان الفارس – وهو أب لأربعة أطفال، واشتهر في البداية بلافتاته الاحتجاجية القوية والفكاهية ولمع فيما بعد بمحطته الإذاعية المشهورة “راديو فرش” على نطاق واسع – مستهدفاً بشكل منتظم من قبل مجموعة من الفصائل الإسلامية المتشددة. ونجا من محاولتي اغتيال على الأقل.

ومنذ ذلك الحين، قرر الفارس البقاء في منزله في كفرنبل بمحافظة إدلب شمالي غربي سوريا، الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وهي بلدة كانت هادئة سابقاً، واشتهر سكانها بحراكهم الشعبي، والمجتمع المدني النابض بالحياة على نطاق واسع داخل سوريا وخارجها.

ويتذكر تركي سويد صديق فارس المقرب كلماته عندما كان يقول “”سوف تهدأ الأحوال في يوم من الأيام، وتتحسن الأوضاع، نحن بحاجة فقط إلى التحلي بالصبر”… “لن أغادر كفرنبل”.

وقتل الفارس البالغ من العمر 46 عاماً في 23 تشرين الثاني مع زميله المصور والناشط الإعلامي حمود جنيد. ولا تزال هوية المعتدين، الذين أطلقوا الرصاص من سيارة فان قبل أن يلوذوا بالفرار من مكان الحادث، غير معروفة.

وقال السويد، مدير المكتب الإعلامي في راديو فريش، الذي يعد جزءاً من مجموعة من منظمات المجتمع المدني التي كانت تدعمها الولايات المتحدة سابقًا، وتُعرف باسم اتحاد المكاتب الثورية (URB) “كان يوماً مأساوياً”.

وأسس الفارس اتحاد المكاتب الثورية في عام 2012، والتي سرعان ما توسعت لتوظيف مئات الأشخاص في الشمال الغربي في مجموعة من المشاريع، بما في ذلك، الخدمات الطبية والبرامج الرياضية والمراكز المخصصة لتمكين المرأة ودعم المراهقين.

وتوقف التمويل الأمريكي لاتحاد المكاتب الثورية بشكل مفاجئ في وقت سابق من هذا العام، عندما جمّدت إدارة ترامب وأوقفت في نهاية المطاف أكثر من 200 مليون دولار، مخصصة للمساعدة في تحقيق الاستقرار في سوريا.

وكان ذلك بمثابة ضربة جزئية لمشاريع الفارس، لكنه لم يكن ينوي الاستسلام، وأمضى أيامه الأخيرة باحثاً عن مصدر أموال جديد، على أمل الحفاظ على العمل الذي بدأ به في عام 2011.

وقال السويد لمراسلة سوريا على طول آلاء نصار “هو الشخص الذي كان يحيي المظاهرات”.

وأضاف “عندما أتذكر رائد، أتذكر الثورة. وعندما أفكر في الثورة سأتذكر رائد دائماً”.

كيف تلقيت خبر وفاة رائد الفارس؟

ذهبت إلى صلاة الجمعة، ولم يكن هناك شيء نهائياً، صليت الجمعة ثم مرّ أحد الأصدقاء وسألني عما إذا كنت أرغب بالذهاب في جولة حول المدينة وذهبنا.

وعندما وقفنا في الخارج بالصدفة أخبرت صديقي: هناك وجوه غريبة بكثرة، ومعظم من خرج من الجامع لم أكن أعرفهم.

أنهينا جولتنا وعدت إلى المنزل، وبعد ساعة تقريباً فتحت هاتفي وبدأت أقرأ الأخبار على مجموعة راديو فرش، على الواتساب، وقال أحد الشبان أن رائد وحمود في المستشفى.

خرجت من المنزل مسرعاً لأعرف اسم المستشفى الذي كانا فيه، وهنا بدأت الأخبار تتوالى وكان أول خبر استشهاد حمود وبعد دقايق كتبوا أن رائد استشهد أيضاً.

في ذلك الوقت، لم أصدق ما الذي كان يجري، كنت في حالة صدمة، وبدأ الجميع  بمراسلتي وإرسال التعازي. بالرغم من أنني رأيت صورهم، لكنني لم أستطع استيعاب الخبر، إلى أن اتصل بي رجل من أمريكا لتقديم التعازي وفي تلك اللحظة، أدركت في النهاية ما حدث.

كان يوماً مأساوياً في كفرنبل.

كيف تعرفت على رائد في البداية؟

عرفت رائد منذ فترة طويلة قبل الثورة، وذلك لوجود صلة قرابة بيننا، وبحكم أننا نعيش في نفس الضيعة.

خلال الثورة التقيت به في إحدى المظاهرات، طلب مني أن أرفع لافتة معه، وفي ذلك الوقت كنت خائفاً بعض الشيء لأن الثورة كانت في بدايتها، وكانت الأفرع الأمنية وقوات الأمن تستدعي المشاركين، لذلك ترددت.

في ذلك الوقت سحبني جانباً وسألني “لماذا أنت خائف؟”

أخبرته “أنا لست خائفاً … أنا فقط اعتقدت أنك تتحدث مع شخص آخر!”

كان رائد شجاعاً بكل معنى الكلمة وكريم جدًا، كان لديه حسّ كبير بالفكاهة ويحب المزاح، وكان طموحاً جداً.

كان هذا انطباعي الأول عنه وبقي كذلك حتى وفاته رحمه الله.

أصبح رائد أحد الوجوه الأكثر شهرة في الانتفاضة السورية. برأيك، ما الذي دفع رائد للقيام بهذا الدور البارز في الحركة الشعبية؟

لا أخفي عنك، كان الجميع يتطلعون إلى القيام بعمل ثوري من شأنه أن يسمح لهم بنقل صوت ومعاناة الناس إلى العالم الخارجي. لكن رائد على وجه الخصوص كان إنساناً ثورياً بكل معنى الكلمة.

من بداية عمله حتى الأيام الأخيرة من حياته، سعى جاهداً لنقل الحقيقة الكاملة بكل شفافية.

كل شخص من كفرنبل كان يطمح لأن يكون مثل رائد، بشخصيته وعمله وسمعته الطيبة.

سكان كفرنبل يتذكرون فارس وجنيد يوم الجمعة. صورة من وائل عبد العزيز.

كان رائد كثير التعلق ببلدته كفرنبل، ما الذي يميز كفرنبل كبلدة؟ وكيف استطاع رائد أن يؤثر على البلدة، وكيف أثرت المدينة عليه وساعدته على تحقيق أهدافه؟

كان رائد شديد التعلق بمدينة كفرنبل، خصوصاً أنه نشأ هنا، جميع أفراد عائلته هنا، وقضى حياته هنا.

تتميز كفرنبل بشيء وليس موجوداً في مدن أخرى، الروح الثورية للسكان، وأهالي المدينة كانوا متعاونين كتيراً مع رائد، فعندما كان الناس يشاهدون اللافتات التي كتبها رائد، كانوا يفتخرون به وبأعماله أمام سكان المدن الأخرى. وكانوا يقولون “هذا ابن بلدتنا”.

رائد كان معجوناً بكفرنبل وكفرنبل معجونة فيه، لذلك لايمكن فصلهم عن بعضهم ولا بأي طريقة.

عمل رائد مع الآلاف من الأشخاص في إدلب، وانتشرت مشاريعه عبر المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة المعارضة. ماذا يعني موته بالنسبة لإدلب، وبالنسبة للمجتمع المدني في سوريا؟

موت رائد فاجعة وخسارة كبيرة لجميع السوريين الثوريين، وليس فقط لشعب كفرنبل.

شخصية رائد أصبحت نادرة في هذه الفترة والتي وصلت فيها ثورتنا إلى أدنى درجاتها بسبب دخول شخصيات مشوهة للفكر الثوري مؤخراً.

التأثير سيكون كارثياً بوفاة شمعات ومنارات الثورة، ولن يبقى سوى الفاسدين والمشوهين للفكر الثوري.

وعلى مدار سنوات ونحن نعاني من فقدان الكثيرين، إما باغتيال أو اختطاف أو تعذيب. ما لهذا خرجنا، ثورتنا طاهرة عفيفة، ولا نريد شيئا سوى إعادتها لمسيرتها الأولى والقضاء على الفاسدين.

لم يكن هجوم يوم الجمعة هو الأول الذي يتم فيه استهداف رائد أو زملائه من قبل الجماعات المتشددة في إدلب، هل كان يفكر قبل ذلك بأن يتوقف عن العمل أو أن يترك البلد؟

صحيح لقد تعرض رائد لمحاولتي اغتيال الأولى في عام 2014 والثانية في عام 2016، وبعد النجاة من كل محاولة اغتيال، كنا نخاف عليه أكثر، وكنا نعلم بأنهم لن يتركوه، كان ذلك واضحاً.

كان رائد يحدثني دائماً عن عروض عمل يتلقاها في الخارج، وكان يرفض دائماً بسبب حبه لمدينته وعدم رغبته في تركها. كان يقول دائماً “سوف تهدأ الأحوال في يوم من الأيام، وتتحسن الأوضاع، نحن بحاجة فقط إلى التحلي بالصبر”.

 

كان رائد يفكر بطريقة مختلفة عن الآخرين، فالجميع كان يفكر بالخروج من البلد، وطلب اللجوء، وتعلم لغة جديدة، والعيش بوضع مادي أفضل.

وعلى الرغم من أنه حصل على عروض عمل، تعتبر فرصاً ذهبيةً بالنسبة لغيره من الشباب، ولكنه كان يقول دائماً “أنا لا أستطيع أن أخرج من كفرنبل .. أنا مثل السمك عندما أخرج من كفرنبل سأموت”.

دائماً كان يتلقى تهديدات بالقتل من أشخاص مجهولين، وهو كان يشعر بأنه سيقتل في يوم من الأيام على أيديهم. يرصدونه منذ أعوام ولا نعلم لمن يتبعون.

على مدى السنوات الماضية، نما مشروع راديو فريش الذي أسسه فارس إلى مجموعة من الأنشطة ومنظمات المجتمع المدني في إطار اتحاد المكاتب الثورية URB، التي تلقت تمويلاً من الولايات المتحدة بالملايين إلى أن تم قطع الدعم في وقت سابق من هذا العام. كيف كان رد فعله عندما فقدت المحطة تمويلها؟

عندما انقطع الدعم أصرّ رائد وحاول عدة مرات استعادة الدعم، وكانت أحد محاولاته السفر إلى أمريكا والمشاركة في مؤتمر وضح فيه عمل الراديو، والمشاريع التي قدمها اتحاد المكاتب الثورية وقطع الدعم.

وقضى الفترة الأخيرة من حياته وهو يحاول الحصول على دعم لاستمرار مشروعه في خدمة أهالي المدينة، حيث أن أكثر من 650 أسرة في مدينة كفرنبل مرتبطة بعمل مكاتب الاتحاد وفقدان الدعم أدى إلى توقف إعالة تلك الأسر.

كان رائد يسعى دائماً لعدم توقف عمل الاتحاد وكان دائما يقول لنا، سيأتي يوم ونحصل على دعم ومازلنا ننتظر هذا اليوم، على الرغم من أننا تلقينا وعدًا جديدًا بدعم الإذاعة والاتحاد.

لم يستسلم رائد أبدا من المحاولات لإعادة الدعم. وتوقف الدعم ببدايته كان صادما للجميع، وليس فقط لرائد، أزعجه الأمر في البداية ولكنه لم يكف عن المحاولات والتواصل مع الكثير من الناس والبلدان المختلفة.

وتأسيس مكاتب الاتحاد كانت من أبرز ما قدمه لخدمة أبناء بلده، وكان هو فخور بهذا الإنجاز ونحن أشد فخراً لانتمائه لنا ولبلدتنا.

هل يمكنك أن تخبرنا عن ذكرى لك مع رائد، ربما موقف يستحضر في ذاكرتك عندما تفكر فيما حصل على مر السنين؟

قبل عام تقريباً دعوت رائد وحمود وهادي العبدالله إلى منزلي، وكان معنا بعض الإعلاميين من الجزيرة وغيرها.

كنا نتحدث عن أشياء بعيدة عن الإعلام وبعيدة عن عملنا في الراديو، كان حديث رائد وجلسته لا تنسى. وقتها كان يمزح كتيراً وكانت واحدة من أجمل السهرات التي قضيناها معاً. رأيت فيه تلك اللحظة الإنسان البسيط الطموح والشجاع.

عندما أتذكر رائد أتذكر الثورة وعندما أفكر في الثورة سأتذكر رائد دائماً.

عندما أرى أي مظاهرة في كفرنبل أو غيرها، سأتذكر رائد الذي كان يحيي المظاهرات ويكتب لافتاتها.

كيف يمكن أن ننسى من شاركنا أيام ثورتنا الأولى، وليس أي إنسان..هو رائد.

رائد الفارس رحمه الله، كان فارساً وقائداً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

أحن إليه وأشتاقه.

 

ترجمة: بتول حجار

 

شارك هذا المقال