8 دقائق قراءة

أزمة المحروقات في مناطق النظام تدفع السوريين إلى الهاوية وتشل القطاع الحكومي

ارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكل واضح، إذ بلغت نسبة ارتفاع بعضها نحو 30%، إضافة إلى أزمة في قطاع النقل والمواصلات بين المحافظات السورية، الذي أصيب بحالة من الشلل وارتفاع تكاليفه بشكل غير مسبوق.


23 ديسمبر 2022

باريس- تعتمد عائلة أبو محمد، في مدينة جاسم بريف درعا الشمالي، على “البطانيات” لتقيها برد الشتاء، لأن ربّ الأسرة عاجز عن تأمين وسيلة تدفئة أخرى، ويتخوف من دخول “المربعانية” -وهي من أيام الشتاء الباردة- قبل توفير ثمن حطب للتدفئة.

كان الشتاء الماضي قاسياً على العائلة المكونة من زوجين وثلاثة أطفال أكبرهم في سن السابعة، إذ بالكاد تمكن أبو محمد من تركيب مدفأة تعتمد على المازوت (الديزل)، كما قال لـ”سوريا على طول”، ليستقبل الشتاء الحالي بأزمة محروقات حادة تشهدها البلاد، وارتفاع أسعارها في حال توفرها، مقابل وضعه المادي الصعب، ما دفعه إلى صرف النظر عن هذا الخيار كلياً.

يعدّ أبو محمد ميسور الحال مقارنة بغيره من سكان مناطق النظام، كونه يملك متجراً لبيع الهواتف المحمولة في مدينته، ومع ذلك يجد نفسه عاجزاً عن دفع تكاليف التدفئة بـ”المازوت”، لذلك ينوي الاعتماد على الحطب هذا العام، لكن استمرار ارتفاع أسعارها “قد يجعل هذا الحل صعب أيضاً”.

منذ منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر، تشهد مناطق سيطرة النظام أزمة محروقات، هي الأشد منذ عام 2011، ما دفع حكومة النظام السوري إلى تعطيل بعض الدوائر التابعة لها، والكثير من القطاعات الصناعية في البلاد، وتسبب ذلك بحالة شلل عامة.

المازوت: كمن يحرق النقود!

أمام أزمة المحروقات، رفعت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام، أسعار مبيع البنزين بنوعيه المدعوم و”الحر”، والمازوت المدعوم والمخصص للفعاليات الاقتصادية، اعتباراً من 13 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، بحيث صار سعر لتر البنزين المدعوم 3 آلاف ليرة سورية (0.47 دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية البالغ 6300 ليرة للدولار الواحد) بدلاً من 2,500 ليرة (0.39 دولاراً)، والبنزين الحر 4,900 ليرة (0.77 دولاراً) بدلاً من 4 آلاف (0.63 دولاراً).

وبلغ سعر المازوت المدعوم، الموزع من شركة “محروقات” التابعة للنظام، 700 ليرة بدلاً من 500 ليرة، والمازوت ذو المنشأ المحلي المخصص للفعاليات الاقتصادية 3 آلاف ليرة بدلاً من 2,500 ليرة.

إضافة إلى رفع أسعار الوقود “المدعوم”، تكاد المخصصات التي تقدمها حكومة دمشق عبر البطاقة الذكية بهذه الأسعار شبه معدومة، لذلك يعتمد الأهالي على السوق السوداء لتوفير المحروقات.

انعكست الأزمة على سعر الوقود في السوق السوداء أيضاً، ففي محافظة درعا، جنوب سوريا، وصل سعر لتر البنزين إلى 14 ألف ليرة (2.2 دولاراً)، والمازوت 11 ألف ليرة (1.7 دولاراً)، وجرة الغاز قرابة 150 ألف ليرة (23.8 دولاراً).

وفي العاصمة دمشق، وصل سعر لتر البنزين إلى 20 ألف ليرة (3.1 دولاراً) والمازوت 16 ألف ليرة (2.5 دولاراً).

ونظراً لإقبال الناس على الحطب كبديل عن الوقود، ارتفع سعر الكيلوغرام هذا الشهر من 975 ليرة (0.15 دولاراً) إلى 1500 ليرة (0.23 دولاراً). 

إلى أن يتمكن أبو محمد من تأمين الحطب، يتشارك مع إخوته ووالده توفير الحطب لمدفأة بيت العائلة، المجاور لبيته، التي تُوقد عند السادسة مساء وحتى منتصف الليل، وتستهلك يومياً حوالي 10 كيلوغرامات من الحطب، بسعر 15 ألف ليرة (2.3 دولاراً).

أما عائلة أبو سامر، نسيت مازوت التدفئة منذ شتاء 2020، وتستخدم حالياً الحطب المخلوط مع مواد بلاستيكية وكرتون، إضافة إلى الجلّة (روث حيوانات يستخدم في التدفئة). قبل عام 2011 كانت العائلة تستهلك ثلاثة براميل مازوت في الشتاء.

قال أبو سامر، من سكان مدينة إنخل بريف درعا، لـ”سوريا على طول” أن “المازوت متوفر في السوق السوداء، ويبلغ سعر برميل المازوت، سعة 159 لتراً، قرابة 2 مليون ليرة [317 دولاراً]”، مشبهاً من يستخدم مدفأة المازوت هذه الأيام بأنه “يحرق النقود”.

يتجاوز متوسط تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد حاجز 3.5 مليون ليرة سورية (555 دولاراً)، والحد الأدنى 2.23 مليون ليرة (353 دولاراً)، وفقاً لصحيفة قاسيون التابعة لـ”حزب الإرادة الشعبية”، الذي يرأسه نائب رئيس الوزراء الأسبق للشؤون الاقتصادية، قدري جميل، المقيم حالياً في روسيا.

ويبلغ متوسط راتب الموظف الحكومي في سوريا نحو 100 ألف ليرة (16.5 دولاراً)، لذلك تعتمد نحو 40% من العائلات السورية على الحوالات الخارجية، القادمة من ذويهم اللاجئين والمغتربين، وفقاً لوزيرة الاقتصاد السابقة في حكومة النظام السوري، لمياء عاصي.

أزمة تنعكس على الأسعار

على خلفية أزمة الوقود الحالية، ارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكل واضح، إذ بلغت نسبة ارتفاع بعضها نحو 30%، ناهيك عمّا تسببته من أزمة في قطاع النقل والمواصلات بين المحافظات السورية، الذي أصيب بحالة من الشلل وارتفاع تكاليفه بشكل غير مسبوق.

ومثال ذلك، تسبب أزمة المحروقات في نقص كبير بمادة حليب الأطفال في الصيدليات، كما انعكست سلباً على نقل الأدوية، كما جاء على لسان أحد مدراء مستودعات الأدوية في تصريح لموقع “أثر برس” الموالي للنظام، مشيراً إلى ارتفاع تكلفة نقل الأدوية من دمشق إلى حماة من 700 ألف ليرة (111 دولاراً) مطلع كانون الأول/ ديسمبر الحالي، إلى 2.5 مليون ليرة (396 دولاراً)، لحظة نشر التقرير في منتصف الشهر ذاته. يعني ذلك بحسب المصدر أن العاملين في الحقل الدوائي أمام خيارين فقط بسبب الأزمة “إما زيادة سعر الدواء أو التوقف عن العمل”.
في السياق ذاته، قال رئيس اتحاد شركات شحن البضائع، صالح كيشور، أن أجور النقل بين المحافظات ارتفعت حوالي 70% فأكثر، مبيناً أن تكلفة نقل الشاحنة الواحدة من مرفأ اللاذقية إلى دمشق بالنقل الطرقي تصل إلى حوالي مليوني ليرة (317 دولاراً).
انعكس ذلك بشكل واضح على أسواق العاصمة دمشق، التي شلّت الحركة التجارية فيها “باستثناء حركة ضعيفة في بعض الأسواق الرئيسية”، كما قال صحفي يقيم في العاصمة دمشق، لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية. 

وفيما يفترض أن تنشط حركة النقل والمواصلات هذه الأيام، بالتزامن مع عطلة نهاية العام والأعياد، فإن “النقل بين المحافظات السورية شبه متوقف، بسبب ارتفاع الأسعار الجنوني”، وفقاً للصحفي.

وسط هذه الأزمة وارتفاع الأسعار، يحاول السوريون ترتيب أولوياتهم المعيشية في تأمين الطعام ووسائل التدفئة المتاحة، والاستغناء عن احتياجات كانت أساسية، ولكنها اليوم من وجهة نظرهم من الكماليات. أما التفكير بشراء هاتف محمول أو الاكسسوارات المتعلقة به صار خارج تفكيرهم تماماً، وفقاً لأبو محمد، صاحب متجر الأجهزة المحمولة في مدينة جاسم.

اشتكى أبو محمد من تراجع عمله بشكل ملحوظ مع دخول فصل الشتاء، إذ يبيع في الأسبوع بين 3 و4 أجهزة محمولة، مقارنة بـ14 جهاز محمول في الصيف.

وانعكست الأزمة بشكل أكبر على المهن المعتمدة اعتماداً مباشر على المحروقات أو الكهرباء التي يتم توليدها عبر المولدات الكهربائية التي تعمل بالمحروقات، كما أوضح أبو سامر، الذي يملك ورشة خياطة بمدينة إنخل، مؤكداً ارتفاع أسعار الأقمشة والإسفنج هذا الشهر، ناهيك عن أزمة توصيل البضاعة إلى ورشته وتسليمها إلى الزبائن بعد تفصيلها.

يستورد أبو سامر الأقمشة من معامل حلب، التابعة للنظام، شمال غرب سوريا، ومع “رفع سعر المازوت الصناعي، يشتكي أصحاب المعامل من قلة المحروقات وتأثيرها على عملهم”، لذلك “تأخرت طلبية القماش الخاصة بي من أحد معامل حلب 20 يوماً بسبب المحروقات”، لافتاً إلى أن جميع الأطراف في هذه العملية تأثروا بالأزمة، بما في ذلك “المواطن الذي تأثر برفع الأسعار”.

نتيجة لأزمات المحروقات المستمرة منذ عدة أعوام، وتداعياتها على قطاع الكهرباء، حوّل أبو سامر ورشته، العام الماضي، إلى الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء، لأن “معدل وصل الكهرباء يصل إلى نصف ساعة مقابل 5 ساعات انقطاع”، كما قال.

تخفّ فعالية ألواح الطاقة الشمسية في الشتاء، لأنها تعتمد على أشعة الشمس، لذلك يستعيض عنها باستخدام مولدة تعمل على المحروقات. لكن في هذا الشهر حيث “تشغيل المولدة مكلف جداً”، حاول أبو سامر عدم تشغيلها، باستثناء مرتين، إذ كان لديه طلبية مستعجلة، وتحمّل “الخسارة” حتى لا يخلف مع زبونه، كما أوضح.

حكومة مشلولة!
بعد رفع أسعار المحروقات، منتصف الشهر الحالي، أشار حسين عرنوس، رئيس حكومة دمشق، إلى أن حكومته كانت أمام خيارين، إما أن تفقد المشتقات النفطية من الأسواق أو أن تزيد الأسعار بشكل “بسيط” يساعد في تأمينها، مبيناً أنه “من دون قرار رفع السعر سنصل لمرحلة العجز بالتأكيد”، نافياً تقنين توزيع المشتقات النفطية بهدف رفع سعرها.

وأكد عرنوس أن تأثير رفع الأسعار على أسعار المنتجات المحلية “بسيط جداً، وضمن الحدود المقبولة للظروف العامة”، واعداً السوريين بـ”انفراجات وتحسن في واقع المشتقات النفطية” خلال شهر.

ورغم تقليل عرنوس من شأن تأثير الأزمة، إلا أنها “عطلت عمل المؤسسات الحكومية بشكل طبيعي، كما أوقفت الكثير من المؤسسات الخاصة، ووسائل النقل والمدارس والجامعات، وبعض المشافي والأطباء”، وفقاً للصحفي المقيم في دمشق، مشيراً إلى أن الأزمة الحالية تختلف عن سابقاتها في كونها “أكثر حدة، وضربت القطاع الحكومي، كما تسببت برفع سعر المحروقات والمواد الأساسية”. إذ ارتفع سعر كيلو السكر من أربعة آلاف ليرة إلى ستة آلاف، بينما ارتفع سعر لتر الزيت النباتي من 14 ألف إلى 17 ألف ليرة (2.22 إلى 2.69 دولاراً).

وتسببت أزمة المحروقات الحالية بحالة من الفوضى، ومثال ذلك أن الحكومة لم تصدر قراراً بتعطيل المدارس، لكنها بطبيعة الحال “مغلقة”، لأن المعلمين لا يمكنهم الذهاب إليها، كما قال الصحفي وأكدت مصادر عدة لـ”سوريا على طول”.

وكان مجلس الوزراء، الذي يرأسه عرنوس، أعلن عن فرض عطلة للقطاع العام والمدارس الحكومية لمدة أسبوع كامل، اعتباراً من 25 الشهر الحالي ولغاية الأول من كانون الثاني/ يناير 2023. وسبق أن أعلن المجلس عن عطلة للقطاع العام، يومي الأحد 11 و 18 كانون الأول/ ديسمبر، نظراً “للظروف التي يشهدها سوق المشتقات النفطية بسبب الحصار والعقوبات الاقتصادية الجائرة المفروضة على البلد، وبسبب الظروف التي وصول توريدات النفط والمشتقات النفطية”، كما جاء في البيان.

وقبل أن تبدأ عطلة نهاية العام، المقررة من حكومة دمشق، تعمل غالبية المؤسسات الحكومية بالحدّ الأدنى، وبعض المؤسسات كالمدارس والجامعات مغلقة، وفقاً للصحفي من دمشق، مشيراً إلى أن “الحكومة سمحت للموظفين بالتغيب عن العمل، شريطة أن يتم تسيير العمل بحده الأدنى، من دون أن تعلن ذلك رسمياً”.

وعلى عكس وعود عرنوس، لا يبدو أن انفراج الأزمة يلوح في الأفق، وإنما تداعيات الأزمة ستكون أشد على المواطنين، خاصة أن “الحكومة تخلت عن دعم المحروقات بشكل كامل، وتحاول تحميل كامل العبء للناس، مقابل دخول شركات خاصة على قطاع توفير المحروقات وبيعها بسعر السوق العالمي”، وفقاً للصحفي.

من جانبه، أشار الباحث في الاقتصاد السياسي بجامعة لوزان في سويسرا، جوزيف ضاهر، إلى أن اعتماد سوريا بشكل أساسي على واردات النفط، لا سيما القادم من إيران، وبالتالي “حدوث أي مشكلة في الاستيراد تدخل البلد في أزمات”، وهو ما يجعلها عرضة للتأثر بـ”تضخم المحروقات، لأن غالبيتها مستوردة”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.

وكما أن “العقوبات تسهم في مشاكل الاستيراد”، فإن السياسات الحكومية والفساد “تعمق أزمة وصول المحروقات إلى سوريا”، بحسب ضاهر، الذي شدد على أن المشكلة “هيكلية”، ما يعني أنه “لا يوجد حتى حلول قصيرة المدى لحل مشكلة نقص المحروقات في السوق”.

الأزمة تعيد “قاطرجي” إلى الواجهة

في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر الحالي، أصدرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام، قراراً يسمح لما وصفته “الشركات الموردة للمشتقات النفطية” ببيع المحروقات للفعاليات الاقتصادية من مادتي البنزين والمازوت، بسعر 5400 ليرة (0.85 دولاراً) للتر المازوت، و 4900 ليرة (0.77 دولاراً) للتر البنزين.

لم تورد الوزارة أسماء شركات بعينها، لكن وسائل إعلام محلية وباحثون أكدوا أن المعني بهذا القرار شركة “B.S” للخدمات النفطية، مقرها لبنان وتتبع لـ”مجموعة قاطرجي الدولية”، التي يملكها الإخوة قاطرجي، وتعمل الشركة على استيراد النفط الخام وتكريره في مصفاتي حمص وبانياس، مقابل أجور مالية تدفعها للحكومة، ومن ثم تطرح المشتقات النفطية في السوق المحلية.

الشركة مدرجة منذ منتصف عام 2019 على لائحة العقوبات الأميركية، بسبب نشاطها في تسهيل وصول النفط الإيراني لصالح النظام السوري.

وبعد قرار وزارة التجارة الداخلية، نشرت الشركة، على صفحتها الرسمية على “فيسبوك”، أسماء ست محطات وقود في ست محافظات مختلفة، قالت أنها “قيد الافتتاح” لبيع المحروقات التي تنتجها الشركة بـ”سعر التكلفة”.

وفي هذا السياق، رأى الباحث جوزيف ضاهر أن قرار النظام السوري رفع أسعار المحروقات إلى حد أشبه بـ”رفع الدعم الحكومي” عن هذا القطاع، مقابل منح شركات خاصة فرصة، هي “استمرار لسياسات التقشف وشكل من أشكال التحرير الاقتصادي، التي يستخدمها النظام السوري، من خلال منح شركة خاصة الحق في توزيع المحروقات بدل الدولة”.

في سياسة التحرير الاقتصادي هذه “يستفيد رجال الأعمال المرتبطين بالنظام، في المقام الأول، وفي هذه الحالة القاطرجي”. مؤكداً أن هذه السياسات “ستؤثر على غالبية السكان، ما يعني زيادة في تكلفة المعيشة وتكلفة الإنتاج”.

وبعد أن كان لبنان مضرباً للمثل في الأزمات الاقتصادية، صارت الأخيرة “أفضل من بلدنا”، على حد قول أبو سامر، مشيراً إلى أن مجلس البلدية في مدينته إنخل “يطلب من الأهالي التبرع بالمال من أجل توفير المازوت لعمل سيارة نقل القمامة”.

شارك هذا المقال