6 دقائق قراءة

أزمة مياه الباب: لا مهرب من “العطش” في ظل الجفاف وغياب الحلول الجذرية

أثرت تداعيات أزمة المياه، التي تشهدها مدينة الباب في ريف حلب الشمالي، على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للسكان، علماً أن الأزمة مستمرة منذ سنوات لكنها كانت الأشد هذا العام بفعل الجفاف وانخفاض مستوى الآبار


15 سبتمبر 2022

باريس- يكافح أبو أحمد من أجل تأمين المياه لمنزله، الواقع على أطراف مدينة الباب في ريف حلب الشمالي، نظراً لعدم وصول المياه عبر خط الشبكة الرئيسي التابعة لمجلس المدينة، ما يضطره إلى شراء المياه ونقلها عبر الصهاريج، لتوفير مياه الشرب وريّ مزروعاته في حديقة المنزل.

منذ مطلع فصل الصيف، خفض المجلس المحلي التابع للحكومة السورية المؤقتة (المعارضة)، عدد مرات ضخ المياه في الشبكة الرئيسية، من مرتين إلى مرة واحدة أسبوعياً، ولمدة ساعتين فقط، ولأن ضغط الضخ ضعيف “لا تصل المياه إلى الأحياء في أطراف المدينة”، ليُحرم أبو أحمد وأمثاله المقيمين في الأحياء المترامية منها.

تبلغ تكلفة تعبئة الخزان الواحد، سعة عشرة براميل، 90 ليرة تركية (4.93 دولاراً)، لذلك يخصصها أبو أحمد للشرب فقط، ويشتري الكمية ذاتها “مياه مالحة”، وهي مياه صرف صحي مكررة لا تصلح للشرب، بقيمة 20 ليرة تركية (1.10 دولار) لريّ أشجار الزيتون في حديقة المنزل. ورغم أن المياه المالحة تضرّ بالمزروعات “وقد يصل ضررها إلى حدّ موت الأشجار، إلا أنه لا يوجد حلول أخرى”، بحسب قوله لـ”سوريا على طول”.

منذ خمس سنوات تعيش مدينة الباب، الخاضعة لسيطرة المعارضة المدعومة من تركيا، أزمة مياه حادة، لكنها بلغت ذروتها هذا العام، وفقاً لعدد من الأهالي وأعضاء في الحكومة السورية المؤقتة، ورغم ذلك لم تلقَ مناشدات الأهالي بإيجاد حل لأزمة المياه استجابة دولية أو محلية تنهي الأزمة جذرياً.

وتعاني المدينة من “شح مياهها الجوفية وعدم استقرارها، لتأثّرها المباشر بالمتغيرات المناخية والجفاف”، كون هذه المياه قريبة من سطح الأرض، بينما المياه الجوفية العميقة “غير صالحة للشرب أو الري لأنها مياه كبريتية”، كما قال لـ”سوريا على طول”، المهندس محمد نجومة، مدير قسم العمليات في وحدة دعم الاستقرار، وهي منظمة مجتمع مدني تعمل شمال غرب سوريا.

أبعاد الأزمة

كان مصدر مياه الشرب لمدينة الباب وبلدتي بزاعة وقباسين شمال حلب، من محطة “عين البيضا”، الواقعة على بعد 10 كيلومتر جنوب الباب، التي يسيطر عليها النظام السوري اليوم، وتضخ المحطة مياهها إلى خزان جبل الشيخ عقيل، غربي المدينة، البالغة سعته 10 آلاف متر مكعب.

تصل المياه إلى “عين البيضا” عبر مجرى مائي ينقلها من محطة ضخ مياه الخفسة على نهر الفرات، التي تغذي مدينة حلب وبعض أريافها. لكن “استخدام القوى المتحاربة في سوريا الموارد الطبيعية وتسخيرها لتحقيق أهدافها”، وعلى رأسها النظام السوري، أدى إلى “تفاقم أزمة المياه بشكل عام”، وفقاً للمهندس محمد نجومة.

ومن الوسائل التي استخدمتها حكومة دمشق ضد مناطق سيطرة المعارضة “قطع المياه عن المناطق المحررة، واستخدامها كورقة ضغط على السكان لإخضاعهم إلى سلطته”، كما حصل مع مدينة الباب، حيث قُطعت عنها مياه “عين البيضا” في عام 2017، وفقاً للنجومة. “كما لا يمكن إغفال حجم الضرر الذي لحق بالبنية التحتية لمدينة الباب، لا سيما شبكتي المياه والصرف الصحي، أثناء عملية تحريرها من تنظيم داعش”، كما أضاف.

أثرت هذه التداعيات على “الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لسكان مدينة الباب والبلدات التابعة لها، إذ بعد حرمان المدينة من مصدر مياهها الرئيسي “دخلت المنطقة في أزمة ذات طابع إنساني”، بحسب نجومة.

وفي إطار البحث عن بدائل، حفر المجلس المحلي لمدينة الباب “14 بئراً، لجرّ المياه من منطقتي سوسيان والراعي بمحيط الباب” كما قال عضو المجلس، عبد الله الدرويش لـ”سوريا على طول”، لكن سرعان ما “جفّت هذه الآبار، وقد حفرنا بعدها عشرات الآبار، لكنها تعمل مدة أقصاها شهر واحد ومن ثم تجفّ أيضاً”.

وأضاف الدرويش: “لدينا حالياً بئرين تعملان بشكل جيد، وأربع آبار تعمل بحدود ساعة أو ساعة ونصف في النهار، لكن ما توفره هذه الآبار لا يسد احتياجات المدينة”، التي تضاعف عدد سكانها. إذ يبلغ عدد سكانها الحالي 250 ألف نسمة، فيما كان عدد سكانها قبل عام 2010 حوالي 123 ألف نسمة، وفقاً الدرويش.

المشكلة في أزمة مياه الباب أنها لن تزول بالتقادم، ما لم تُطرح حلول جذرية، بحسب الدرويش، محذراً من أن الأزمة “وصلت مرحلة كارثية”، خاصة أن “التقديرات لدينا تشير إلى أن الآبار الجوفية ينخفض مخزونها ويزداد عمقها”.


فيديو: تجمع عدد من السيارات المخصصة لنقل مياه الشرب في مدينة الباب بريف حلب الشمالي، 18 /08 / 2022 (مالك أبو عبيدة) 

التداعيات على الزراعة

كان أبو محمد حطاب يزرع الخيار وبعض أصناف الخضراوات الورقية (الحشائش) في أرضه الواقعة شمال مدينة الباب، حتى عام 2013، لكن مع سيطرة تنظيم “داعش” على المدينة، عام 2014، نزح حطاب وعائلته إلى ريف إدلب، وعاد إليها، في عام 2017، بعد طرد فصائل المعارضة المدعومة من تركيا التنظيم في عملية “درع الفرات”.

فور عودة حطاب إلى أرضه، بدأ بزراعة أرضه، لكن “لم يكن الوضع مجدياً، نتيجة انخفاض منسوب البئر في الأرض، وغلاء تكاليف الري عبر الصهاريج”، ناهيك عن “غلاء المحروقات والأسمدة”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

وفي عام 2020، زرع أرضه بأشجار الزيتون والتين، لأنه توفر عليه “في تكاليف الري والأسمدة”، لكنها “ذات مردود مادي أقل من الزراعة الموسمية، ويبقى ذلك أفضل من ترك الأرض بوراً”. مع أزمة المياه الأخيرة صار حطاب يعتمد على “المياه المالحة”، التي يتم نقلها من تادف عبر الصهاريج لريّ الأشجار في أرضه.

وقبل ذلك، تأثرت مدينة الباب زراعياً، نتيجة وقف قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تسيطر على مدينة منبج والسد المقام على نهر الفرات جنوبي المدينة، “ضخ المياه في شبكة مشروع ري السهول الزراعية شمال المدينة، وفقاً لمحمد نجومة، مدير قسم العمليات في وحدة دعم الاستقرار.

بالتوازي مع “عطش” أهالي الباب، فإن عطش أرضها الزراعية يهدد بـ”وضع كارثي زراعياً”، على حد وصف عبد الله الدرويش، مشيراً إلى “تقلص مساحة المناطق الخضراء، والمتبقي منها يعتمد على مياه [الصرف الصحي] المكررة، وهي مياه تحتوي نسبة عالية من التلوث، لكنها أحد البدائل للمزارعين نظراً لانخفاض سعرها”.

استجابة إسعافية

على مدار سنوات، فشلت حلول المجلس المحلي لمدينة الباب المتمثلة بحفر آبار ارتوازية، ومع اشتداد الأزمة لهذا العام، لجأ المجلس ومنظمات إنسانية محلية إلى توزيع المياه عبر الصهاريج، لتخفيف الأعباء المادية على السكان، خاصة بعد رفع أصحاب الصهاريج الخاصة سعر العشرة براميل من 15 ليرة تركية (0.82 دولار) إلى 40 ليرة (2.19 دولار)، ومن ثم رفعها مجدداً إلى 90 ليرة (4.93 دولاراً)، لكن جهود المجلس والمنظمات “لا تكفي لتغطية احتياجات المدينة بأكملها”، وفق درويش.

ومن التدابير التي اتخذها المجلس المحلي في الباب في السنوات الماضية، “تجهيز خزانين أرضيين، سعة كل منهما 400 متر مكعب داخل المدينة، مخصصة لنقل المياه من آبار سوسيان عبر الصهاريج الكبيرة التابعة للمجلس، سعتها 20 متراً مكعباً، ومن ثم يتم تعقيم المياه بمادة الكلور بشكل دوري”، كما قال محمد نجومة.

وبدورها، توصل الصهاريج الصغيرة، وسعتها خمسة أمتار مكعبة، المياه للمنازل داخل المدينة، وفقاً لنجومة، مشيراً أن ذلك يسهم في “ضمان وصول المياه النقية المعقمة إلى السكان بأسعار موحدة، ويمنع استغلال المواطنين”.

لكن، كل الحلول والإجراءات المستخدمة “لا تغطي أكثر من 30% من احتياجات سكان المنطقة”، بحسب نجومة.

ويصطدم المجلس المحلي مع “التكاليف المرتفعة لعمليات الضخ ونقل مياه الشرب قياساً بالموارد المالية المتوفرة للمجلس”، إضافة إلى عدم القدرة على تطبيق “نظام جباية منتظم وعادل على السكان مقابل استفادتهم من هذه المياه، بسبب تردي مستوى الدخل، وعدم إمكانية قياس الكميات التي يحصل عليها المستفيدين لعدم وجود عدّادات المياه عند الجميع”، وفقاً لنجومة.

البحث عن حلول جذرية

أمام مجموعة من العوامل التي تسهم في أزمة مياه مدينة الباب، بما في ذلك “الاستهلاك المبالغ فيه من السكان في فترة جفاف تضرب المنطقة”، يتعين العمل على حل جذري، وهو “استجرار المياه من جرابلس شمال حلب إلى الباب”، وفقاً لعبد الله درويش، عضو المجلس المحلي لمدينة الباب، مشيراً إلى وجود عدة دراسات “بحثت في إمكانية تطبيق هذا المشروع، لكن حتى الآن لا يوجد شيء على أرض الواقع”.

ورغم أن بعض الدراسات المقدمة “مستوفية للشروط”، بحسب الدرويش، إلا أن التكلفة التقديرية كبيرة، إذ تبلغ قيمة تنفيذ المشروع، الذي تم اقتراحه عام 2016، نحو 35 مليون دولار، ما يعني أن التكلفة قد تكون أكبر من ذلك “بسبب ارتفاع الأسعار وارتفاع عدد السكان إلى الضعف”.

وتمر عملية جرّ المياه من جرابلس بخمس مراحل، حيث يعتمد المشروع على إنشاء مجموعة من الخزانات، بحيث تضخ المياه في الخزانات، ومن ثم يتم نقلها، وفقاً للدرويش، لكن هذا يعني أن التكلفة التشغيلية لهذا المشروع “عالية”، كما أن “في عملية الضخ السطحي قد تتعرض شبكات المياه لعمل إرهابي أو قصف من النظام، وبالتالي تتوقف عن العمل أو تخرج عن الخدمة”.

تعليقاً على مشروع جر المياه من جرابلس إلى الباب، رأى محمد نجومة، مدير قسم العمليات في وحدة دعم الاستقرار أن “هذا المشروع هو الحل الأكثر تكلفة، ولكنه يعطي إنتاجية كبيرة، ويحل أزمة المياه بشكل مستدام وفعال”، إضافة إلى أنه “يوفر المياه لمناطق الغندورة وقباسين وبزاعة”.

وفيما يبحث المجلس المحلي لمدينة الباب عن مشاريع أخرى “وهي قيد الدراسة”، فإن الجانب التركي، وهو الجهة المسؤولة عن الخدمات في مناطق سيطرة الجيش الوطني بريف حلب الشمالي “لديهم مشروع قيد الإعداد ولم نطّلع عليه بشكل رسمي حتى الآن”، وفقاً للدرويش.

ومن جهتها، أعدت الحكومة السورية المؤقتة “دراسة لاستجرار مياه نهر الفرات من جرابلس إلى منطقة اعزاز ويتفرع إلى منطقة الباب بكلفة تقديرية 33 مليون يورو، على أن تكون مياه هذا المشروع صالحة للشرب والزراعة”، بحسب نجومة، وتم رفع الدراسة “إلى عدد من الأطراف الدولية بهدف الحصول على تمويل”.

وربما تتمثل أحد الحلول الجذرية في “إيجاد صيغة مناسبة لإعادة ضخ المياه من محطة عين البيضا، بالتنسيق مع منظمة الهلال الأحمر أو عبر أطراف دبلوماسية لها قدرة التأثير على النظام السوري”، وفق نجومة، معتبراً أن “هذا الحل هو أنسب الحلول وأفضلها”.

وإلى حين الشروع في تنفيذ أحد المشاريع، التي تمثل حلاً جذرياً، فإن “أزمة توفير المياه لسكان الباب مستمرة على نحو تصاعدي، وستنعكس على القطاع الزراعي والاقتصادي، كما ستؤدي إلى تردي الحالة الإنسانية”، كما قال نجومة. وتالياً يؤثر ذلك على “معدلات الاستقرار في المنطقة، ما لم يتم تدارك ذلك، بتضافر الجهود المحلية والدولية، من أجل دعم الحلول المستدامة في هذا القطاع”.

شارك هذا المقال