6 دقائق قراءة

“ابنة الكرد”: سفيرة التراث الثقافي الريفي في شمال شرق سوريا عبر مواقع التواصل الاجتماعي (صور)

من قريتها الصغيرة في شمال شرق سوريا، تحاول كجا كوردا أو "ابنة الكُرد" الحفاظ على التراث الثقافي الكردي ونقله عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى الأجيال الصاعدة


3 أكتوبر 2022

القامشلي- أطلقت على نفسها لقب (Keça Kurda) وينطق “كجا كوردا”، أي “ابنة الكُرد” باللهجة الكرمانجية الخاصة بكُرد سوريا، وجاء اختيارها لهذا الاسم المحبب لها أكثر من اسمها الحقيقي، من شغلها بالفلكلور الكُردي وارتيادها الملابس التقليدية المصنوعة يدوياً.

“اخترت هذا اللقب في شبابي لأنه مهم بالنسبة لي أن يعكس الاسم هويتي وما أفعله”، قالت كجا كوردا، السيدة الخمسينية التي تنحدر من قرية معشوق في ريف مدينة القامشلي الشرقي بمحافظة الحسكة لـ”سوريا على طول”.

تمسكها بالتراث

حوّلت كجا كوردا منزلها الصغير إلى متحف صغير تزينه الملابس المطرزة يدوياً، وأدوات زراعية كانت تستخدم قبل مئة عام، وعشرات الأدوات التي كانت ضرورية في الحياة اليومية لكنّها نادراً ما تستخدم الآن، من قبيل: آلة الطحن الحجرية، المعروفة بـ”الرحى”، وآلة صنع الزبدة يدوياً، المعروفة بـ”الخضاضة”، أو كما تسمى بالكردية “Meshsk “، وهي مصنوعة من جلد الماعز.

تعدّ السيدة الكُردية منجماً ثميناً للذاكرة الفلكلورية، مثلها مثل العديد من كبار السن في المناطق الريفية، لكن ما يميزها عن بقية جيلها هو نجاحها في مشاركة مخزونها المعرفي مع جمهور واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنها لا تتقن القراءة والكتابة!.

تشارك كجا كوردا عبر صفحتها  في “فيسبوك” قصص شبابها وحكايات شعبية، وأحياناً تقدم نصائح علاجية بالأعشاب الطبيعية، كما تتناول في أحاديثها مواضيع خاصة بالتراث الثقافي بهدف نقلها إلى الأجيال الصاعدة. تحظى بمتابعة 42 ألف شخص من داخل سوريا وخارجها لصفحتها التي ترفع مقاطع الفيديو عليها، وتديرها ابنة أختها.

منازل ريفية

يعدّ منزل كجا كوردا نموذجاً لمعظم منازل قرية معشوق، تم تشييده بمزيج من الطين الجاف وروث الحيوانات والقش، بالإضافة إلى المواد المحلية المتوفرة وغير المكلفة، التي تنظم درجات الحرارة الداخلية بكفاءة.

ورغم هذه المزايا، يتخلى الأشخاص المقتدرون مالياً عن البيوت الطينية بنحو متزايد، ويفضلون المباني الإسمنتية، التي غالباً ما ينظر إليها على أنها أكثر حداثة ونظافة، خلافاً لكجا كوردا التي تعتقد العكس تماماً.

كجا كوردا في مضافة منزلها بقرية معشوق ، 27/ 9/ 2022 (ليز موفة/ سوريا على طول)

قالت بفخر: “بنينا هذا المنزل بأنفسنا أنا وإخوتي”، وواصلت حديثها: “أحب هذا المنزل كثيراً ، ودائماً ما أرفض تحويله إلى منزل حديث”.

تحتاج المباني المشيدة من الطين والقش، كل بضع سنوات، إلى عزل لحمايتها من العوامل الجوية الخارجية باستخدام طبقة جديدة، لكن هذا يتطلب تقنيات محددة يتم فقدانها بشكل متزايد، لأن البيوت الطينية غير مرغوبة الآن. العيش في منزل تقليدي والاعتناء به هو أحد السبل للحفاظ على هذا التاريخ.

كجا كوردا ترتدي غطاء رأس تقليدي كردي مصنوع يدوياً، 27/ 9/ 2022 (ليز موفة / سوريا على طول)

نادراً ما تدخل كجا كوردا متجراً للملابس، لأنها تفضل ارتداء الأثواب التقليدية التي تخيطها في المنزل، كما أنها تزين جدران منزلها بستائر مطرزة يدوياً، تضم شخصيات من الحكايات الشعبية، مثل شاه ميران، مخلوق أسطوري نصف امرأة ونصف ثعبان.

الحفاظ على التراث

مجموعة من المطاحن (الرحى) والفخار في حديقة منزل  كجا كوردا 27 /9/ 2022 (ليز موفة/ سوريا على طول)

على مر السنين، جمعت كجا كوردا مئات الأدوات والمنسوجات والأثاث التي كانت ذات يوم من الدعائم الأساسية للحياة اليومية للقرية في سوريا، حصلت على بعضها من الجيران وكبار السن في القرية، وبعضها الآخر من زوار لم يرغبوا في اختفاء هذه الأدوات القديمة.

إحدى غرف منزل كجا كوردا، وهي عبارة عن متحف مصغر، 27 /9/ 2022 (ليز موفة / سوريا على طول)

الشغف في جمع مزيد من القطع الأثرية

أثناء حديثها عن حياتها، قالت كجا كوردا بعينين دامعتين: “عندما كنتُ طفلة، كنت أحب الدراسة، لكنني تركت المدرسة في الصف الثالث”، إلا أن شغفها للمعرفة لم يزول مع تقدمها في السن، لذلك “أصبحت أشعر بالفضول، مثل الصحفي، كنت أتجول وأجري مقابلات مع جيراني، وأستمع إلى قصصهم. أردت معرفة وتصوير كل شيء، وتوثيق كل ما يمكنني معرفته عن الفولكلور الكردي”.

مجموعة من أدوات النسيج اليدوي التراثية والأدوات الزراعية القديمة، التي تم استبدالها بمعدات حديثة، 27/ 9/ 2022 (ليز موفة / سوريا على طول)

عندما لا تتواجد في متحفها الصغير، تتجول كجا كوردا في أطراف قريتها “معشوق”، بحثاً عن الأعشاب البرية والنباتات النادرة، تحصد بعضها وتجففها وتحتفظ بها لتصنيع الأعشاب الطبية التي تستخدم في الطب البديل (التقليدي)، وتقتلع بعضها من جذورها لتنقلها إلى حديقة منزلها لحمايتها من التلف.

حديقة  كجا كوردا المليئة بالنباتات المحلية والأعشاب الطبية تشيد بمعرفة الأجيال السابقة والعلاقة الوثيقة التي تربط المجتمعات الريفية بالطبيعة ، 27/ 9/ 2022 (ليز موفة / سوريا على طول)

تقضي كجا كوردا ساعات في حديقتها المزروعة بالصبار والورود وأشجار الفاكهة والشجيرات، ولأنها من عائلة “فلاحيّة”، يمكنها “قضاء اليوم بأكمله في الحديقة من دون تعب. أنسى نفسي فيها”، قالت السيدة الخمسينية ممسكة “خيوطاً متدلية من أغصان الشجر، محملة بالفواكه والنباتات التي تجفّفها تحت أشعة الشمس”.

تشارك كجا كوردا في مقاطع الفيديو الخاصة بها على “فيسبوك” معلومات حول حديقتها والنباتات الموجودة فيها .

الأوقات المتغيرة

كانت القرى الريفية بمثابة القلب النابض بالحياة في سوريا، لكنها اليوم مهددة بالنسيان، كما قرية  كجا كوردا “معشوق”، إذ يتركها الشباب بحثاً عن فرص جديدة في المدن وخارجها. ومع مرور الوقت تغيرت الحياة اليومية حتى لأولئك الذين آثروا البقاء.

في قرية “معشوق”، ترتفع أبنية اسمنتية شاهقة بين البيوت الطينية المستوية، وتسللت علب التونة والمعلبات الغذائية إلى أرفف المطابخ، بينما نساء القرية يتجولن اليوم بأثواب يشتريْنها من الأسواق، تشبه بعضها البعض، ويرتدين الأوشحة الملونة، التي قد يتم استيرادها من الجانب الآخر في هذا العالم.

تشارك كجا كوردا مقاطع فيديو على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، تعرض حياتها اليومية وتعرّف بالتراث الكردي التقليدي ، 27/ 9/ 2022 (ليز موفة / سوريا على طول)

وجدت كجا كوردا في موجة التغيير فرصة لها، إذ أصبحت من المشاهير المحليين في شمال شرق سوريا، حيث يتابع صفحتها على “فيسبوك” عشرات الآلاف من المتابعين، ويزورها بشكل مستمر مسؤولون وصحفيون وسياح من جميع أنحاء شمال سوريا وكردستان العراق وحتى أوروبا.

من منزلها الطيني المحبب لها، تقوم كجا كوردا أو “ابنة الكُرد” بتوثيق وتسجيل وتبادل المعارف والمعلومات التي تم جمعتها على مدار حياتها مع الأجيال الصاعدة، لتكون بذلك منارة حيّة للثراث الثقافي المتلاشي.

كجا كوردا تدخل منزلها في قرية معشوق، شمال شرق سوريا ، 27/ 9/ 2022 (ليز موفة / سوريا على طول).

شارك هذا المقال