8 دقائق قراءة

احتجاجات درعا: الروس مغيبون ودمشق تشهر سلاح “الفتن العشائرية”

مظاهر الاحتجاجات في جنوب سوريا لم تأخذ نمطاً أو نسقاً موحداً، بل هي تختلف من منطقة إلى أخرى "بحسب القبضة الأمنية وقدرة النظام على دخول المنطقة"


21 يناير 2020

عمان – مع وصول جثمان “الشهيد” إلى مقبرة درعا البلد، بمدينة درعا، تصاعدت أصوات المشيّعين بهتافات تودعه، تؤكد على “الموت ولا المذلة” وإسقاط “نظام بشار الأسد”، في مشهد عاد بالأهالي إلى أول نعش حملوه قبل قرابة تسع سنوات مع انطلاق ثورة العام 2011.

فيوم الثلاثاء الماضي، شيّع المئات في درعا البلد الشاب محمد إسماعيل أبازيد الذي وجد مقتولاً قبل يوم واحد من ذلك، عقب اختطافه لخمسة أيام على يد فرع الأمن السياسي أثناء عمله في الجزء الآخر من مدينة درعا المعروف باسم “درعا المحطة”. وقد جاءت حادثة القتل، كما قال اثنان من أهالي درعا البلد لـ”سوريا على طول”، بمثابة “رد أمني على مطالبنا”.

إذ وجدت جثة أبازيد مرمية إلى جانب طريق في حي الأربعين بدرعا البلد، وقد استقرت رصاصة في رأسه، في اليوم التالي لتنظيم أهالي مدينة درعا وقفة احتجاجية، طالبوا فيها الحكومة السورية بالإفراج العاجل عن المعتقلين، ووقف الاعتقالات المستمرة وإنهاء الفوضى الأمنية في المنطقة. 

العودة إلى الاحتجاجات

كانت سيطرة القوات الحكومية على كامل جنوب سوريا صيف العام 2018 مفاجئة. إذ إلى ما قبل أيام من من بدء الحملة العسكرية المدعومة من الطيران الروسي، كانت فصائل المعارضة في المنطقة تتلقى دعماً عسكرياً ولوجستياً من الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، عدا عن تلقيها رسالة تطمين من الإدارة الأميركية بشأن مستقبل الجنوب، عقب سيطرة القوات الحكومية والميليشيات التابعة لها على مناطق أخرى في محافظتي ريف دمشق وحمص.

رغم ذلك، جاء سريعاً إبلاغ الولايات المتحدة الأميركية، عقب بدء الحملة العسكرية الحكومية على المنطقة، فصائل المعارضة بقطع أي دعم عنها، وبالتالي “مواجهة مصيرها وحدها”. 

هكذا، أجبرت فصائل “الجبهة الجنوبية” التي شكلت مظلة جامعة لأغلب تشكيلات المعارضة المسلحة في محافظتي درعا والقنيطرة، على التفاوض مع الحكومة السورية، بإشراف روسي، بشأن شروط سيطرة دمشق على الجنوب. ومن بين ما تضمنه ما سمي “اتفاق المصالحة”: الإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصيرهم، وتسوية أوضاع المنشقين والمعارضين، وعودة الخدمات ومؤسسات الدولة إلى المدن والبلدات. كذلك، سُمح لعناصر فصائل المعارضة بالاحتفاظ بسلاحهم الخفيف بهدف حماية مناطقهم، وانضوى أغلبهم، فيما بعد، في المليشيات التابعة للحكومة والأجهزة الأمنية والفرقة الرابعة.

رغم ذلك، بدت دمشق منذ الشهر الأول لسيطرتها على الجنوب غير جادة في دعم استقرار المنطقة. إذ لم تتوقف الاعتقالات بحق المعارضين، وفوق ذلك صودرت أملاك العديد منهم أو تم الحجز عليها. وهو ما يشكل سبباً في استمرار حالة الاستياء الشعبي الآخذة في التصاعد.

مقابل ذلك، “تخلّف شباب الجنوب، منذ الأيام الأولى للمصالحة، عن الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية. ورفضوا مراجعة الأفرع الأمنية”، بحسب الصحافي المقيم في ريف درعا الغربي محمد أبو مازن (اسم مستعار). مضيفاً في حديث إلى “سوريا على طول” شريطة عدم الكشف عن هويته، أن الاحتجاجات تطورت إلى “كتابة شعارات على جدران المباني الحكومية، تطالب بالإفراج عن المعتقلين وإخراج الميليشيات الإيرانية”.

الكتابة الاحتجاجية على الجدران قوبلت بزيادة الاعتقالات، وأخطر منها الاغتيالات التي يتهم السكان القوات الحكومية والأجهزة الأمنية بتنفيذها. ليعود المدنيون إلى تصعيد احتجاجاتهم، عبر تنظيم “تظاهرات ليلية خاطفة” ترفع ذات الشعارات التي كتبت على الجدران، ولاحقاً إحراق صور بشار الأسد، وإطلاق النار العشوائي على الحواجز العسكرية الحكومية المنتشرة بين المدن والبلدات.

مظاهر الاحتجاجات في جنوب سوريا لم تأخذ نمطاً أو نسقاً موحداً، بل هي تختلف من منطقة إلى أخرى “بحسب القبضة الأمنية وقدرة النظام على دخول المنطقة”، كما ذكر المحامي عدنان المسالمة، أحد وجهاء مدينة درعا، في حديثه إلى “سوريا على طول”. موضحاً أنه في المناطق التي تشهد انتشار قوات الأمن والمصالحات بشكل واضح، يكون “من الطبيعي أن يأخذ الاحتجاج هناك طرقاً سرية؛ من قبيل إخفاء وجوه المشاركين حفاظاً على حياتهم”. فيما تكون الاحتجاجات “أكثر جرأة وأقل تحفظاً وسرية في المناطق التي لا يتواجد فيها عناصر النظام”.

أبرز مناطق الاحتجاجات في محافظة درعا (5/ 11/ 2019 – 19/ 1/ 2020)

يشير اختلاف قطر الدوائر إلى التباين في عدد حالات الاحتجاج

إذ منحت اتفاقيات التسوية في العام 2018 مناطق السيطرة السابقة لفصائل المعارضة المسلحة في درعا ما يشبه “حكماً ذاتياً”، لاسيما مع إبقاء السلاح في يد الفصائل، ومنع دخول القوات الحكومية والأجهزة الأمنية إلى تلك المناطق والتحرك فيها بحرية مطلقة.

بالنتيجة، حصل أهالي تلك المناطق على “نوع من الحرية والاستقلالية، وكانوا أقدر على التعبير عن آرائهم والاحتجاج بطرق عدة، كالتظاهر، أو تنظيم وقفات احتجاجية، أو الكتابة على الجدران”. مثال ذلك “مدينة طفس، ودرعا البلد، ومدينة بصرى الشام شرق درعا”، كما ذكر لـ”سوريا على طول” مصدر مقرب من لجنة التفاوض في مدينة بصرى الشام، طالباً عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية. وهو ما لم تعرفه، كما أضاف المصدر ذاته، بلدات مثل محجة وصيدا “بسبب القبضة الأمنية” للنظام هناك.

في السياق ذاته، فإن غياب الدور المباشر لدمشق في مواجهة الاحتجاجات بدرعا لا يعني بالضرورة خروجها بالوتيرة ذاتها، إذ إن التفاوت بين منطقة وأخرى يعود، بحسب مصدر مقرب من لجنة التفاوض في بلدة كناكر إلى “مدى جرأة الناس، وتفاوت التنظيم والثقة المتبادلة بين المتظاهرين”. مضيفاً في حديثه إلى “سوريا على طول” أن الاحتجاجات تتأثر كذلك “بتعدد التبعيات في المناطق [لجهات داخلية أو خارجية] ووجود تيارات مختلفة، وكذلك العداء الداخلي بين أهالي البلدة”. و”عدم وجود تيارات مختلفة أو تبعيات في بلدة كناكر سهل على أهلها الخروج بوقفات وأنشطة”.

أشكال الاحتجاجات

يوثق هذا التقرير 102 حادثة احتجاج بين 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وهو الشهر الذي شهد تصاعد الاحتجاجات و19 كانون الثاني/يناير الحالي. وهي احتجاجات لم تقتصر فقط على محافظة درعا وإنما امتدت إلى ريف دمشق الغربي، وتنوعت بين تظاهرات، ووقفات احتجاجية، وكتابة أو وضع ملصقات على الجدران، وقطع طرق، وصولاً إلى تنفيذ عمليات عسكرية ضد القوات الحكومية أساساً، كما بعض عناصر القوات الروسية المتواجدة جنوب سوريا.

أبرز مناطق الاحتجاجات في محافظة درعا، بحسب شكل الاحتجاج (5/ 11/ 2019 – 19/ 1/ 2020)

  

وكما تُظهر الخريطة السابقة، تعد مدينة الصنمين، شمال محافظة درعا، أبرز المناطق التي وقعت فيها عمليات عسكرية ضد القوات الحكومية والأجهزة الأمنية، من خلال ثلاث عمليات نفذها مجهولون ضد حواجز عسكرية وأمنية، من دون الإعلان عن أي إصابات.

في المقابل، تعدّ مدينة طفس غرب درعا وبلدة معربة شرقاً، أكثر المناطق التي شهدت تظاهرات خلال فترة التوثيق، تليهما درعا البلد وبلدة الكرك الشرقي شرق درعا. فيما كانت بلدتا معربة ومدينة بصرى الشام شرق درعا، ومدينة طفس وبلدة المزيريب غرب درعا، ودرعا البلد، أبرز مناطق الوقفات الاحتجاجية التي تركزت فيها مطالب الأهالي على الإفراج عن المعتقلين.

وقد أخذت الوقفات الاحتجاجية شكلين. الأول، وقفات علنية بحيث يتجمع الناس في أماكن عامة هاتفين أو حاملين لافتات تعبّر عن مطالبهم. أما الشكل الثاني، فهو الوقفات السرية التي غالباً ما تحدث ليلاً، ويرفع المشاركون فيه لافتات من أجل تصويرها ورفعها على مواقع التواصل الاجتماعي من دون إظهار وجوههم خوفاً من القبضة الأمنية. وتتركز هذه الوقفات السرية في مناطق نفوذ القوات الحكومية وأجهزتها الأمنية، حيث يمكنها تنفيذ عمليات المداهمة والاعتقال أو الاختطاف أو الاغتيال.

الاحتجاجات الشعبية لم تقتصر على حدود محافظة درعا، بل وصلت إلى مناطق قريبة في ريف دمشق الغربي. إذ سجلت أول وقفة احتجاجية ليلية، نظمها شباب من بلدة كناكر، في 2 كانون الأول/ديسمبر. تلتها وقفة نهارية في 16 من الشهر ذاته، شارك فيها شيوخ ونساء وأطفال “طالبت بالإفراج عن المعتقلين وكشف مصيرهم، من دون أي شعارات أخرى”، بحسب ما ذكر لـ”سوريا على طول” ناشط إعلامي مقرب من لجنة التفاوض في البلدة.

الضامن الغائب المغيب

على الرغم من أن روسيا هي عراب “المصالحات” واتفاقات التسوية التي انبثقت عنها ومكنت القوات الحكومية من سيطرة على جنوب سوريا قبل عام ونصف العام، يبدو الروس اليوم “مغيبين عن الواقع”، كما قال المحامي مسالمة، إذ “يعتقدون أن الأمور بخير، بخلاف ما نحاول إيصاله إليهم”. مفسراً ذلك بوجود “جنرالات روس فاسدين، يمكنهم قلب الحقائق حسب رغبة النظام”. 

وهو ما أيده مفاوض من ريف درعا الغربي، معتبراً في حديث إلى “سوريا على طول” شريطة عدم الكشف عن هويته، أن “الدور الروسي في تراجع واضح نتيجة التقارير الأمنية المزورة التي يرفعها النظام، مقابل زيادة الصراع الروسي-الإيراني في جنوب سوريا”. مستدركاً بأن “هذا لا يعني توقف الدور الروسي نهائياً”، مشيراً إلى سعى الروس إلى التوسط بين أهالي بلدة ناحتة والقوات الحكومية، الأسبوع الماضي، من أجل الإفراج عن عناصر كان قد احتجزهم شبان من البلدة من أجل التفاوض عليهم لإخراج معتقلين في سجون النظام.

موقف دمشق

فيما شدد المصدر المقرب من لجنة التفاوض في بلدة بصرى الشام على عدم حصول “أي صدام بين قوات النظام والمشاركين في التظاهرات أو الوقفات الاحتجاجية” في محافظة درعا عموماً، فإنه لم يستبعد أن يبادر النظام إلى تنفيذ “عمليات اختطاف أو اغتيال بحق شخصيات تلعب دوراً في الاحتجاجات”. وهو ما أيده المصدر المقرب من لجنة التفاوض في بلدة كناكر، كون “النظام غير قادر على فض المظاهرات بالقوة أو مداهمة المنازل واعتقال المشاركين بشكل مباشر”، بحيث “قد يكون الرد الحكومي عبر إطلاق يد المليشيات الطائفية في المنطقة”. كاشفاً عن “وصول تهديدات على لسان الإيرانيين [الميليشيات الإيرانية]، وتوعدهم بتنفيذ اغتيالات”. 

أيضاً، رأى المصدر ذاته أن “تنفيذ عدد من الاغتيالات بحق معارضين، وكذلك شخصيات محسوبة على الحكومة يهدف إلى إشعال الفتنة داخل البلدة”. مثال ذلك عملية اغتيال أحد أعضاء لجنة المصالحة في كناكر، المحسوبة على الحكومة، إذ “وجهت أصابع الاتهام إلى الثوار، ووقعت اشتباكات بين مسلحين من الطرفين [الحكومة والمعارضة سابقاً]”.

سيناريوهات مستقبلية

كما يُظهر الواقع على امتداد سيطرة القوات الحكومية، ومنذ بدء التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا على الأقل، فإن دمشق وحليفتها موسكو لا تعتزمان تنفيذ مطلب المحتجين بالإفراج عن المعتقلين من أبناء درعا والكشف عن مصيرهم. وقد يعود ذلك إلى الأرقام الهائلة لعدد من قضوا تحت التعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية والقوات الحكومية، بحيث يشكل الكشف عن هذه الأرقام عبئاً إضافياً على الحل الذي تحاول روسيا فرضه، والقائم على إعادة إنتاج النظام السوري الحالي وتعويمه مرة أخرى. 

في الوقت ذاته، ووفقاً لاتفاقية التسوية الموقعة في تموز/ يوليو 2018، فإن دمشق “غير قادرة على التصعيد العسكري، بإطلاق عمليات عسكرية الواسعة” في محافظة درعا، وليكون بديل المتاح هو لجوء “النظام إلى إشعال فتنة عشائرية قد تمهد لحرب أهلية” برأي المسالمة، وكذلك “تشديد القبضة الأمنية وعمليات الاغتيال في المناطق التي لا يستطيع الدخول إليها، عبر أذرعه المتمثلة باللجان المنضوية ضمن أجهزته الأمنية”.

لكن تجاوز حكومة دمشق مطالب المحتجين في درعا بالإفراج عن المعتقلين ومعرفة مصير الضحايا، وتعامله بعنف مع الاحتجاجات، سيؤديان إلى “زيادة العمليات العسكرية التي تستهدف القوات الحكومية والمليشيات التابعة لها” برأي المفاوض من ريف درعا الغربي، الأمر الذي قد “يجر المنطقة إلى حرب جديدة”.

“حاول النظام احتواء المناطق التي دخلت بالتسوية من خلال تجنيد البعض وإعطاء مزايا للبعض الآخر، بحسب المسالمة. لكن “كل ذلك كان غير كاف لأن المطالب الحقيقية والمحقّة لم يتم حلها. هناك ثوابت لا نستطيع أن نتغاضى عنها حتى تتحقق”.

شارك هذا المقال