8 دقائق قراءة

الاعتماد على الآبار العشوائية شمال سوريا حل غير مستدام ينذر بأزمة مائية للأجيال القادمة 

وسط جفاف تاريخي، يلجأ سكان شمال غرب سوريا إلى حفر عشرات الآبار الجديدة لتلبية الطلب المتزايد على المياه. لكن انخفاض منسوب المياه الجوفية يؤدي إلى ارتفاع تكاليف استخراجها وانخفاض جودة المياه


31 أغسطس 2022

إدلب، أربيل- يعتمد أبو بكر شحادة على بئر جاره لريّ أرضه الصغيرة، دونم واحد، الواقعة في ريف محافظة إدلب الغربي، وكان يمكن الوصول إلى مياه البئر على عمق 200 متر تحت الأرض، لكن مستوى المياه ينخفض باستمرار، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الري.

حالياً، ينفق شحادة 100 ليرة تركية (5.50 دولارات) ثمن وقود أسبوعياً، لضخ 50 متراً مكعباً (خمسون ألف لتر) لأرضه التي يستفيد منها مع عائلته، مشيراً إلى أن “زيادة عدد الآبار في منطقتنا أدى إلى انخفاض مستوى المياه الجوفية وزيادة تكاليف ضخا”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

في منطقة يقطنها حوالي أربعة ملايين شخص، يعتمد عدد كبير في شمال غرب سوريا في تأمين المياه، كما شحادة، على الآبار الخاصة، التي أصبحت ذات أهمية متزايدة خلال سنوات الحرب، نتيجة النزوح الجماعي لمئات آلاف السوريين إلى آخر مناطق سيطرة المعارضة، وما ترتب عليه من عجز شبكة المياه المنهارة في تلبية الاحتياجات المتزايدة. وعليه، صارت الآبار مصدراً مائياً مستقراً بالنسبة للمستفيدين منها.

لكن اليوم، في معظم مناطق شمال غرب سوريا، يتم الوصول إلى موارد المياه الجوفية بمعدل غير مستدام وبصعوبة أكبر، في ظل غياب وجود حلول بديلة، ومن المحتمل حدوث موجات جفاف في المستقبل، إذ تواجه المنطقة أزمة مياه طويلة الأمد.

البحث عن الماء

لم تظهر أزمة المياه في سوريا بين عشية وضحاها. بدءاً من ثمانينات القرن الماضي، ارتفع عدد الآبار المحفورة في جميع أنحاء البلاد بشكل كبير، وكان لسلطات الدولة دور في تشجيع المزارعين على تبني تقنيات الري واستبدال المحاصيل البعلية، مثل القمح، بالمحاصيل المروية، مثل القطن.

ارتفع عدد الآبار في أنحاء البلاد، من 53 ألف بئر، في عام 1988، إلى 124 ألف بئر، في عام 1994، وأسهم الدعم الحكومي للوقود في ريّ المزارعين أراضيهم بتكلفة منخفضة، لكن بحلول العقد الأول من القرن الحالي تزايد القلق من إدارة المياه الجوفية، حيث بدأت تُنشر تقارير عن انخفاض منسوب المياه وجفاف الآبار.

لكن الحرب قلبت الخطط الرامية إلى تنظيم المياه بشكل أكثر استدامة، وفي الوقت ذاته ازدادت صعوبة الوصول إلى المياه وإدارتها، إذ قدّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، في عام 2021، أن السوريين حصلوا على مياه أقل بنسبة 40% مما كانت عليه في عام 2011، ويعود هذا الانخفاض الحاد لعدة عوامل، منها: تدفق النازحين بأعداد كبيرة إلى شمال غربي البلاد، والتلوث المرتبط بالنزاع، والاستهداف غير القانوني لمرافق المياه، إضافة إلى هجرة المهندسين والموظفين العاملين في قطاع شبكات المياه وصيانتها.

حقول القمح والبساتين قرب بلدة معرة مصرين بريف إدلب الشمالي، يُفترض أن تستفيد قريباً من مياه بئر جديد في المنطقة، 18/ 08/ 2022 (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول).

وفيما كان لدى 92% من السوريين الذين يعيشون في المناطق الريفية قدرة الوصول إلى المياه الصالحة للشرب قبل عام 2010، وفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر، يواجه العديد من الأشخاص الآن تحديات كبيرة في الوصول إليها. في مخيمات النزوح مثلاً، غالباً ما يشتري السكان المياه من الباعة أصحاب صهاريج المياه الخاصة، دون وجود أي ضمانات حول جودتها.

دفع الطلب المتزايد على المياه السوريين إلى الاستفادة أكثر من الاحتياطيات الجوفية، التي كانت مستغلة أصلاً بشكل كبير، ووفرت أكثر من نصف مياه الري في البلاد قبل الحرب. لكن في عام 2019 استهلك القطاع الزراعي بين 86 و89% من الموارد المائية السنوية، نتيجة تدمير قنوات الري ومضخات المياه، ما جعل المزارعين أكثر اعتماداً على الآبار.

حفر الآبار العشوائية

يقدّر عدد سكان شمال غرب سوريا بنحو 4.5 مليون نسمة، منهم ثلاثة ملايين نازح داخلياً، ما يعني أنه المنطقة الأكثر كثافة سكانية في البلاد.

أقدم السكان على حفر مئات الآبار الجديدة في السنوات الأخيرة لتزويد المزارعين ومخيمات النزوح النائية، وأسهم غياب الدور الحكومي في تنامي الاعتماد الفوضوي على سوق المياه الخاص. بلغ عدد الآبار المحفورة “بشكل قانوني” 1030 بئراً، حتى آب/ أغسطس 2022، إضافة إلى “تسوية وضع 750 بئراً محفورة من دون رخصة”، كما قال إبراهيم الياسين، رئيس إدارة الموارد المائية التابعة لحكومة الإنقاذ لـ”سوريا على طول”.

لكن هذه الأرقام قد تكون أقل بكثير من العدد الفعلي للآبار في المنطقة، إذ “لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد الآبار المحفورة بشكل غير قانوني بسبب قلة الإمكانيات المتاحة وعدم وجود الكوادر الكافية”، وفقاً للياسين.

تتراوح تكلفة حفر البئر في شمال غرب سوريا بين ألف وعشرة آلاف دولار أميركي، ويتوقف ذلك على عمقها، كما قال محمد حسين ياسين، الذي يعمل في حفر الآبار بالمنطقة منذ 35 عاماً لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن “أي بئر عمقها يزيد عن 500 متر، قد تصل كلفتها إلى أكثر من عشرة آلاف”، بينما الآبار التي يتراوح عمقها بين 250 و300 متر “تكلفتها حوالي 2000 دولار”.

وأشار ياسين إلى أن الآبار “الضحلة” أو “السطحية”، التي يتراوح عمقها بين 70 و120 متراً، تعتمد على الأمطار والسيول، لذلك “في حالات الجفاف وشحّ الأمطار تخرج عن الخدمة، وقد تعود بعد هطول الأمطار”.

على النقيض من ذلك، تعتمد الآبار “العميقة” على المياه المحمية بطبقات متعددة من الصخور، وبما أن هذه الآبار لا تعتمد على المياه التي يتم جمعها على السطح فإنها أقل عرضة للتلوث. لكن في المقابل، قد تستغرق آلاف أو حتى ملايين السنين لإعادة ملئها، وبمجرد نفاد المخزون فإنها تجف.

منظر جوي للمواد المستخدمة في حفر بئر جديدة قرب مدينة معرة النعمان، 18/ 08/ 2022 (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

ورغم التكاليف الكبيرة لحفر الآبار، فإنه أرخص على المدى الطويل، بالنسبة لأولئك الذين يستطيعون تحمل تكاليفها، من شراء المياه المنقولة بالصهاريج. ياسين لا يعاني من نقص الطلب على حفر الآبار، مشيراً إلى أنه شركته، التي تمتلك ثلاث حفارات، تحفر بئرين أو ثلاث آبار أعمق من 500 متر، وحوالي 10 آبار متوسطة العمق، لا يتجاوز عمقها 300 متر.

لكن حفر وتجهيز البئر، بما في ذلك المضخة ومنظومة الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء، قد يصل إلى حوالي 20 ألف دولار، وهو “يفوق قدرة معظم الناس في المنطقة”، كما قال أبو بكر شحادة.

مثل شحادة، لم يستطع محمد الشامي (اسم مستعار)، وهو مزارع نازح في ريف إدلب، تحمّل تكاليف حفر بئر خاصة به، لريّ أرضه البالغ مساحتها 10 دونمات (هكتار واحد)، لذلك يعتمد على بئر جاره في الري، ولكن يتعين عليه تحمّل تكاليف الوقود لضخ المياه.

وقال الشامي لـ”سوريا على طول” أنه يحتاج برميلاً واحداً من الديزل لكلّ “عدّان” واحد من المياه (العدان وحدة قياس زمنية تقليدية تساوي 12 ساعة)، ويصل سعر البرميل 140 دولاراً.

المياه المالحة

بالإضافة إلى التكلفة المتزايدة لاستخراج المياه، يؤدي الضخ المفرط إلى انخفاض جودة المياه الجوفية في شمال غرب سوريا. 

في السنوات الماضية، انخفض هطول الأمطار (المصدر الرئيسي للمياه المتجددة في سوريا) في جميع أنحاء البلاد، لا سيما أثناء الجفاف غير المسبوق، الصيف الماضي، الذي أثر بشكل مباشر على بعض الآثار السطحية (الضحلة).

وقال ثابت الكسحة، وهو خبير جيولوجي يقيم في محافظة إدلب، إن “الموارد المائية تتدهور بسرعة، ونواجه خطر ندرة المياه، خاصة هذا العام”. حدث انخفاض كبير في كميات المياه السطحية في شمال غرب سوريا، بما في ذلك مياه البحيرات والسدود والأنهار، ومياه الأمطار التي تسهم في تعويض الآبار السطحية.

عامل يقوم بحفر بئر قرب معرة مصرين في إدلب، 18/ 08/ 2022 (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

وبدلاً من أن تكون منظومة الطاقة الشمسية عاملاً إيجابياً، كانت بالنسبة لقطاع مياه الآبار عاملاً سلبياً، بحسب الكسحة، كون أصحاب الآبار “يضخون المياه من الصباح إلى المساء من دون رحمة، طالما أشعة الشمس قادرة على تشغيل المضخات”.

من جهته، قال المهندس عبد الخالق الشيخ، رئيس دائرة مراقبة نوعية المياه والقياسات المائية، أن “منسوب المياه في الآبار الجوفية ارتفع بين الربع الرابع من عام 2021 والربع الأول من عام 2022″، أي خلال موسم الشتاء، لكنه انخفض بشكل حاد بين الربعين الأول والثاني من هذا العام”، كما أوضح الشيخ لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى حدوث انخفاض حاد في بعض الآبار الواقعة بالمناطق التي تستضيف النازحين في حزيران/ يونيو الماضي.

وحذّر الكسحة من أن “بعض الآبار صارت غير صالحة للاستعمال”. إذ كلما قلت كمية المياه الموجودة في الخزان الجوفي زاد تركيز المعادن فيها، كما أن طبقات المياه الجوفية التي يتم استخدامها بكثرة تصبح شديدة الملوحة بمرور الوقت، لدرجة تصبح المياه غير صالحة للاستخدام البشري.

بئر محفورة حديثاً قرب معرة مصرين يصل عمقها إلى 300 متراً، 18/ 08/ 2022 (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

إلى جانب استخدامها في ريّ أرضه، يستخدم شحادة مياه بئر جاره للشرب “رغم ارتفاع نسبة الكلس فيه”، معبراً عن قلقه من إصابته أو أحد أفراد عائلته بـ”البحصة أو الرمل”.

ولا يقتصر ارتفاع ملوحة المياه على البشر فحسب، وإنما على الأراضي الزراعية أيضاً، إذ إن تراكم الأملاح والمعادن على المدى الطويل يزيد من ملوحة التربة، وتالياً يضر بالعديد من المحاصيل ويقلل من إنتاجية الأرض.

إدارة المياه

استبدلت حكومة الإنقاذ هذا العام القانون رقم 52 لعام 2019، الذي ينظم حفر الآبار في محافظة إدلب، بإدخال القانون رقم 67 لعام 2022. بموجب القانون الجديد، يتعين على الراغبين في حفر بئر تقديم طلب إلى مديرية الموارد المائية، مرفقاً ببيان قيد عقاري للأرض المراد الحفر فيها، ومخططاً مساحياً، وكشفاً فنياً، إضافة إلى الوثائق الشخصية لصاحب العلاقة.

ويترتب غرامات على حفر بئر غير مرخصة، تبدأ بغرامة مقدارها 50 دولاراً على صاحب الحفارة و100 دولار على صاحب البئر، وفق إبراهيم الياسين، رئيس إدارة الموارد المائية، مشيراً إلى أن الدائرة حررت أكثر من 350 إنذاراً و250 غرامة منذ بداية العام.

وفي الوقت ذاته، يتعين على أصحاب الحفارات الحصول على ترخيص من مديرية الزراعة والري، كما في حالة محمد حسين ياسين، صاحب الحفارة، الحاصل على رخصة تخوله مزاولة عمله، ويُعاقب الشخص في حال تشغيل “حفارة” غير مرخصة بغرامة قدرها 200 دولار، وفق ياسين.

على الصعيد الأخلاقي “لا أتحمل أي مسؤولية عن حفر بئر جديدة”، قال ياسين، مؤكداً أن “المسؤولية تقع على عاتق السلطات التي أصدرت الترخيص. إذا علموا أن حفر الآبار في منطقة معينة سيؤثر على المياه الجوفية، لا ينبغي لهم بالطبع إصدار ترخيص”. 

أحد الحلول لتقليل الضغط على المياه الجوفية، وفقًا للجيولوجي الكسحة، زيادة الاعتماد على المياه السطحية من خلال بناء سدود الري وجرّ المزيد من المياه من نهري العاصي والفرات القريبين.

يتفق مع هذا الرأي، محمد نعمة أمهان، رئيس الضابطة المائية بوزارة الموارد المائية التابعة لحكومة الإنقاذ، لكن هذه الحلول من وجهة نظره “تحتاج إلى دعم معالي كبير لإنشاء هذه السدود وشبكات الري”. ناهيك عن أن لهذه الاستراتيجية عواقب وخيمة على مناطق شمال شرق سوريا والعراق، التي تعاني بالفعل من انخفاض حاد في تدفق نهر الفرات بسبب السدود التركية.

بالمحصلة، رغم إدراك الناس بعد استدامتها، تستمر عمليات حفر الآبار في المنطقة، بسبب ضعف الرقابة الحكومية وعدم وجود بدائل قابلة للتطبيق، وإذا استمرت الممارسات الحالية “قد تُحرم الأجيال الحالية والقادمة من بركة ماء”، قال أبو بكر شحادة بأسى.

شارك هذا المقال