7 دقائق قراءة

“التخلص من ذكريات” تنظيم الدولة: مهمة الآباء بعد الانتقال بأطفالهم إلى حياة جديدة

خيم صمت غير معتاد على منزل محمد محمود، في وسط […]


خيم صمت غير معتاد على منزل محمد محمود، في وسط سوريا، خلال السنوات الثلاث التي عاش فيها مع عائلته تحت حكم تنظيم الدولة.

كان المهندس السابق وزوجته يشعران بالخوف من إثارة أي نقاش صريح حول الجماعة المتشددة أو الحياة في ظل ما تسميه بالخلافة قد يشكل خطراً، خاصة مع وجود ثلاثة أطفال صغار. يقول محمود “كنا نخاف أن يتم تناقل كلامنا بين الناس لذا التزمنا الصمت”.

وفي عقيربات التابعة لتنظيم الدولة، وهي مجموعة من البلدات الصحراوية تنتشر شرق محافظتي حماة وحمص، قد تؤدي أي إشاعة للتعرض إلى عقوبة وحشية، و”الأطفال لا يدركون عواقب كلامهم”، بحسب ما يقوله محمود لسوريا على طول.

وتعرض محمود للعقاب ثلاث مرات من قبل الجماعة المتطرفة في ثلاث مناسبات مختلفة: بسبب التدخين، وعرض صورة على العلن، وخدمة امرأة انتهكت قانون التنظيم في الصيدلية حيث كان يعمل.

وفي كل مرة تعرض فيها للضرب، كان محمود يقول لأطفاله الصغار، مكرها، أنه يستحق العقاب.

ويتذكر محمود ابنه الذي يبلغ من العمر سبعة أعوام الآن وهو يطرح عليه الأسئلة ” بابا، ليش جلدوك… انت عامل شي غلط؟”

ويجيبه محمود “نعم… أنا مذنب”.

طلاب في مدرسة أعيد افتتاحها حديثا في محافظة دير الزور، في شباط. تصوير: أيهم المحمد.

 واستمر الصمت حتى حوالي تسعة أشهر، عندما تمكنت العائلة المكونة من خمسة أفراد من الهرب في نهاية الأمر من عقيربات لمكان أكثر أمناً في ريف إدلب الذي تسيطر عليه المعارضة.

وفي ذلك الوقت، كان التنظيم يدافع عن مواقعه حيث كانت قوات النظام تتقدم عبر الصحراء الشرقية في سوريا بينما كانت طائرات التحالف تشن الغارات الجوية على الرقة، عاصمة التنظيم آنذاك. ومنذ ذلك الحين، تقلصت الخلافة واقتصرت على عدد قليل من المناطق المتفرقة عبر البلاد ومنطقة محاصرة في جنوب دمشق.

لكن في الوقت الذي انتهى فيه القتال ضد تنظيم الدولة، ظهرت معاناة أخرى في حمص: يتوجب على الآباء أمثال محمود- الذين اضطروا الالتزام بتعاليم التنظيم وفرض وجهات نظره المتطرفة أثناء العيش تحت حكمه أحياناً- الآن تعليم أبنائهم “الصواب من الخطأ”.

“لم نعد خائفين”

في معرة النعمان وسط إدلب، عاد محمود إلى العادات القديمة التي كانت ممنوعة تحت حكم تنظيم الدولة، كالتدخين واستخدام الهاتف المحمول في الأماكن العامة دون خوف من التفتيش المفاجئ.

وعاد أيضاً ليمارس دوره الكامل كأب، منتهكاً صمته والرقابة التي فرضها على نفسه، وللمرة الأولى منذ سنوات، انتقد التنظيم أمام أولاده.

يقول محمود “لكن بعد نزوحنا أصبحنا نغير فكرهم بالترغيب لأننا لم نعد خائفين منهم، وأصبحنا نخبرهم بأن ما شاهدتموه من تصرفات التنظيم جميعها خاطئة”.

والتحول المفاجئ من الخضوع والإلتزام في ظل حكم التنظيم، إلى الرفض التام لهم و لأفكارهم، ترك أطفال محمود وجميع الأطفال الذين دون سن العاشرة مشوشي الذهن، وقال “كنا نقول لأطفالنا أن كل شيء يفعله التنظيم صحيح، والآن نناقض أنفسنا”.

وأضاف في البداية “لم تكن لدينا الجرأة بأن نتحدث حول التنظيم بطريقة سلبية أمام الأطفال” وهو يعترف بالتناقضات ويوضح أن ما شاهده الأطفال على يد تنظيم الدولة “خاطئاً” وأنه كان خائفاً من التحدث بحرية أمامهم.

وعلى الرغم من أن المخاوف من التنظيم تضاءلت بعد النزوح، إلا أن محمود طلب استخدام اسم مستعار، مشيراً إلى المخاوف المتعلقة بالخلايا النائمة التابعة لتنظيم الدولة والمتعاطفين معها في شمال غرب سوريا.

وليد ،7 سنوات، يقف بالقرب من مخيم النازحين في معرة النعمان، إدلب في نيسان. تصوير محمد محمود.

وعلى الرغم من المخاوف المتبقية داخلهم، إلا أن أطفال محمود بدأوا الآن ينسون تدريجياً تعاليم التنظيم، مدركين أنهم هم من تسببت في نزوحهم.

وقال عبد الكريم المدني، وهو مدرس في محافظة دير الزور، أن ابنه فادي البالغ من العمر سبع سنوات شهد تحوّلاً مماثلاً بعد طرد تنظيم الدولة من بلدة أبو حمام في شهر كانون الأول عام2017.

وبعد أشهر من انتهاء سيطرة التنظيم، اتخذ المدني عدداً من الإجراءات “لإعادة تأهيل” طفله وتسجيله في الصف الأول وشراء هاتف نقال جديد محمّل بالألعاب والبرامج التعليمية التي حظرها التنظيم المتطرف.

وأضاف عبد الكريم ” أنا متفائل جداً لأنه الآن في المسار الصحيح، ولكن يوجد الكثير من الأشياء التي لايمكن أن ينساها”.

وأثناء سيطرتهم، كان المقاتلون يجوبون الشوارع بالسيارات والدراجات النارية ويضعون أناشيد التنظيم بصوت مرتفع  كأناشيد الحرب والمجد والجهاد، كما كانت المناهج المدرسية تدرس البالغين الحساب والقسمة بإستخدام صور العبوات الناسفة والمسدسات ويجبرون الأطفال والكبار على حد سواء إلى مشاهدة قطع الرؤوس في الساحات العامة.

وذكرت أحد الأمهات أن أطفالها، وهما صبيان وفتاة عاشا ما يقارب الأربع سنوات في ظل تنظيم الدولة في مدينة دير الزور في البوكمال “رأوا وشاهدوا جميع أنواع العنف”.

وأضافت الأم، من منطقة نزوحها في ادلب مستعملةً اسماً مستعاراً “نحن الكبار نعرف الصواب من الخطأ، وكنا نعلم أنه سيأتي يوم ونتخلص من سوادهم، لكن الأطفال الصغار  يتعلمون و يستوعبون ما يرونه”.

وحاول المدرس المدني أن يحمي ابنه فادي من “التطرف الديني وأراقة الدماء” خلال أكثر من ثلاث سنوات من الحكم. و لإبقاء العين عليه، دفع ابنه للعمل بعد المدرسة مثل صنع الآيس كريم وبيع الغاز وإصلاح الهواتف المحمولة. وحذر ابنه من “الأفكار السوداوية” التي يمكن أن يتحدث عنها الأولاد الآخرين في المنطقة.

ولكن البيئة التي أنشأها التنظيم كانت واسعة وشاملة للغاية و “فشلت جهودي” حيث صنع ابنه مسدساً من الخشب وبدأ بغناء أناشيدهم التي كانت تتردد من حوله، على حد قول فادي.

وكان المدني، مثل محمود متردداً في انتقاد أفعال طفله، وقلقاً من أن يقوم فادي بمناقشة آراء والده في المدرسة بين أصدقائه، مضيفاً أن “تنظيم الدولة يستخدم الأطفال كجواسيس”، ويطلبون منهم أن يُعلموهم بأي سلوك يبتعد عن المبادئ والتوجيهات الصارمة التابعة لهم.  

Embed from Getty Images


مدرسة يستخدمها تنظيم الدولة لتصنيع المتفجرات في محافظة حلب في عام 2016. الصورة من STR/AFP/Getty Images.

 وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه فادي خلال الأشهر الستة التي مضت بعد طرد قوات سوريا الديمقراطية تنظيم الدولة من أبو حمام، إلا أن أقل إشارة إلى التنظيم المسلح ما زالت قادرة على تحريك ذاكرة فادي، كما يقول والده.

وقال المدني “يريد أن يقلدهم كما أنه لا يزال يتذكرهم ويغني أناشيدهم” وعندما يحدث ذلك، يحاول والده أن يلفت انتباهه إلى الواجبات المدرسية أو الألعاب أو البرامج التلفزيونية التي كانت محظورة سابقاً.

وعلى بعد مئات الكيلومترات إلى الغرب من دير الزور، في ريف إدلب، تقول أم حمودة أن أعمال أبنائها تُظهر أيضاً التأثير الدائم بتنظيم الدولة.

في الآونة الأخيرة، سمعت ابنيها الشباب يناقشان إيديولوجية التنظيم في منزلهما الجديد في إدلب، وقال ابنها سامي البالغ من العمر 7 سنوات “ألم يخبروننا أنك إذا فجرت نفسك ستنال الثواب”.

وأجاب شقيقه الأكبر حمودة، 12 سنة  “أعتقد أن هذا الكلام كذب ولا ينبغي أن نضحي بأنفسنا”.

وهنا تدخلت أم حمودة، التي لم يكن من الممكن أن تتدخل وتخاطر قبل عدة أشهر، وأخبرت أبنائها بأنهم كانوا يناقشون ما يسمى بالانتحار وهو حرام وممنوع في العقيدة الإسلامية.

وأضافت “أنا أعلمهم الإسلام الحقيقي”.

“الكلمة الطيبة”

وبينما يستعيد الآباء سلطتهم الأبوية، يكتشف أطفالهم عالماً جديداً لم يعرفوا عنه شيئاً خلال سنوات العزلة التي كانوا يعيشونها في ظل حكم تنظيم الدولة.

وقالت أم حمودة “إن أطفالي يشعرون أنهم جاهلين تماماً عندما يرون ما فاتهم من تطور وكيف أنهم كانوا في عالم ثان”. عندما وصلوا إلى إدلب في أواخر عام 2017، كانوا “مفتونين بكل شيء” من مجموعة العروض المتنوعة على شاشة التلفزيون، والإنترنت غير المقيدة إلى الملابس الملونة التي ترتديها الناس في شوارع سرمدا، المدينة التي لازالوا يقيمون فيها إلى الآن.

وسألت غزال، ابنة ام حمودة البالغة من العمر أربع سنوات، “ماما هل سنرتدي الجينز والبلوزات والقمصان؟ هل سيجلدوننا؟”.

أجابت أمها “سترتدين كل ما تريدين” وبعد وقت قصير من وصولها إلى إدلب، اشترت أم حمودة لأطفالها مجموعات جديدة من الملابس، بما في ذلك بعض الأدوات والألعاب التي كانت ممنوعة من قبل التنظيم.

لم يكن التكيف مع الملابس الجديدة سهلاً على غزل، الأبنة الوحيدة في الأسرة المكونة من خمسة أفراد. وأثناء التسوق في سوق سرمدا في أحد الأيام بدأت تبكي وقالت لأمها “ماما نسيت تغطية شعري”.

وعلى الرغم من تطمينات والدتها بأن إظهار شعرها لم يعد جريمة تعاقب عليها، فإن غزل لا تزال تشك في ذلك وسألت أمها “هل أنت متأكد من أن الناس يمكنهم رؤية شعري؟”

وأضافت أم حمودة في كل مرة تسأل غزل سؤالاً “أشعر بألم عميق في داخلي”.

فادي يقوم بواجباته المدرسية في منزله في دير الزور، نيسان. تصوير عبد الكريم المدني.

ولكن مع تأقلم أطفال أم حمودة ببطئ مع مجتمعهم الجديد، فإنهم يسعون إلى “محو أي أثر للتنظيم بداخلهم بأي طريقة، وهم يهربون من الذكرى التي عاشوها”، كما أن الإنتقال إلى الحياة في إدلب جلبت لحظات من السعادة والفرح.

وبعد سنوات دون تعليم رسمي، عاد جميع أطفال أم حمودة إلى المدرسة وتغمرهم هناك سعادة عارمة “وحتى يوم العطلة، يفضلون الذهاب إلى المدرسة”.

أما حمودة، الولد الأكبر، فهو متحمس للغاية للالتحاق بالمدرسة على الرغم من أنه وضع في صف أطفال يصغرونه بكثير، إلا أنه “لم يكن مستاءً وهو واحد من أفضل الطلاب اليوم” على حد قول أم حمودة.

وفي أحد الأيام عاد حمودة، البالغ من العمر 12 عاماً، إلى المنزل ووجد ملاحظة من معلمته مكتوبة في أحد دفاتره تقول “لقد قمت بعمل رائع، أحسنت يا بطل”.

وقضى حمودة أسبوعاً بعدها يفتح دفتر ملاحظاته وينظر إليها وتغمره السعادة، ويذهب إلى أصدقائه وأقاربه ويقول لهم “انظروا ماذا كتبت لي المعلمة”.

وذكرت أم حمودة “أدركت مدى أثر الكلمة الإيجابية والتشجيع على نفسيته” في ظل التنظيم ” كانوا محرومين حتى من الكلمة الطيبة”.

 

ترجمة: بتول حجار

 

شارك هذا المقال