6 دقائق قراءة

التصور الروسي لـ”التسوية السياسية” في سوريا

عمان - لا تتوقف الماكينة السياسية والإعلامية الروسية عن الحديث عن ضرورة التوصل إلى تسوية سياسة في سوريا تضمن إنهاء الصراع الذي دخل عامه التاسع.


1 أكتوبر 2019

يمثل 30 أيلول/سبتمبر 2015، نقطة التحول الأعمق في مسيرة الثورة السورية التي اندلعت في آذار/مارس 2011، والذي شهد بداية التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب القوات الحكومية والمليشيات الإيرانية المتحالفة معها.

وفيما كان يفصل نظام الحكم في دمشق، عشية التدخل الروسي، “أسبوعان أو ثلاثة أسابيع عن السقوط” بحسب تصريح لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في كانون الثاني/يناير 2016، يسعى هذا النظام اليوم، بمساندة روسية، إلى السيطرة على آخر معاقل المعارضة السورية في محافظة إدلب شمال غرب سوريا، بعد سيطرته على مناطق المعارضة الأخرى كافة في شمال ووسط وجنوب سوريا. كما يتزايد التسليم الدولي بحتمية التعامل مع بشار الأسد رغم مسؤوليته عن جرائم موثقة تندرج ضمن “جرائم الحرب”، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين العزل.

ويسعى هذا الملف الذي تنشر “سوريا على طول” حلقاته على امتداد الأسبوع الحالي، إلى تناول بعض أبعاد التدخل الروسي العسكري المباشر إلى جانب الأسد؛ بدءاً من تطور الموقف الروسي من الثورة السورية، في مقابل موقف المعارضة السورية من روسيا، والذرائع التي قدمتها وتقدمها موسكو لتدخلها، وأدواتها في ذلك، وصولاً إلى مفهومها لما تعتبره “تسوية سياسية” للصراع في سوريا.

*   *   *

عمان – لا تتوقف الماكينة السياسية والإعلامية الروسية عن الحديث عن ضرورة التوصل إلى تسوية سياسة في سوريا تضمن إنهاء الصراع الذي دخل عامه التاسع.

وعقب تدخلها العسكري المباشر في سوريا، أنشأت روسيا ما يسمى “مركز المصالحة الروسي في سوريا” من أجل تعجيل مفاوضات السلام بين الحكومة والمعارضة. وقد رعت من خلاله العديد من اتفاقات المصالحة (التسوية) بين الحكومة والمعارضة، عقب مساندة القوات الحكومية والمليشيات المتحالفة معها في تنفيذ عمليات برية وجوية استهدفت مناطق المعارضة والمدنيين المقيمين فيها.

ورغم ما نصت عليه هذه الاتفاقات بشأن عودة الخدمات والبنى التحتية إلى المنطقة التي سيطرت عليها القوات الحكومية، كما إعادة الموظفين إلى أعمالهم والإفراج عن المعتقلين، فإن الوضع الحالي يبدو أبعد ما يكون عن تنفيذ ذلك.

رغم ذلك، يصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على أن “عملية التسوية السياسية في تقدم”. ذلك أن روسيا التي مثلت استثناء في دعمها الثابت والعلني للجرائم التي ارتكبها بشار الأسد بحق الشعب السوري على امتداد السنوات الماضي، تقدم أيضاً مضموناً استثنائياً لـ”التسوية السياسية” النهائية، بحيث لا تكاد تكون إلا العودة إلى استبداد وفساد ما قبل العام 2011، إن لم يكن أشد.

استمرار الاعتقالات

اشترطت الحكومة السورية على سكان المناطق التي كانت خاضعة لفصائل المعارضة “تسوية أوضاعهم” من خلال المراكز الأمنية، بهدف منحهم “العفو”. واصفة العملية بأنها “بسيطة وآمنة” حتى لمن حملوا السلاح ضد القوات الحكومية ومليشياتها.

لكن الحقيقة أن تسوية المعارضين لأوضاعهم لم يكن كافياً لإبقائهم بعيداً عن ملاحقة الأجهزة الأمنية، أو حتى الاغتيال والخطف. إذ تنشط القوات الحكومية والأجهزة الأمنية في اعتقال أعضاء المعارضة من خلال حملات مداهمة تستهدف المدن والبلدات، أو على الحواجز الأمنية والعسكرية التي تنتشر في أرجاء سوريا.

ووفقاً لإحصاءات قدمتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان لـ”سوريا على طول”، بلغ عدد المعتقلين، منذ أيار/مايو 2018 وحتى مطلع أيلول/سبتمبر الحالي، في المناطق التي أجرت مصالحات، وهي: درعا، والقنيطرة، والغوطة الشرقية، وريف حمص الشمالي، وريف حماة، 1096 معتقلاً، بينهم 30 سيدة و8 أطفال.

فيما يقدر عمر الحريري، عضو “مكتب توثيق الشهداء في درعا”، وهي مؤسسة محلية توثق الاعتقالات والاغتيالات والضحايا في محافظة درعا، جنوب سوريا، عدد المعتقلين في المحافظة وحدها، منذ آب/أغسطس 2018، بـ1144 معتقلاً.

وفي درعا تحديداً، استهدفت الاعتقالات الأشخاص الذين عملوا في فصائل المعارضة المسلحة، ورؤساء المجالس المحلية، وأعضاء الحكومة المؤقتة، ومتطوعي الدفاع المدني، بالرغم من إجرائهم للتسوية وانضمام البعض منهم إلى القوات الحكومية، بحسب مديرة قسم المعتقلين في الشبكة السورية لحقوق الإنسان، نور الخطيب.

ورغم كون غالبية هذه الاعتقالات تتم بذريعة دعاوى قضائية من الأهالي، كما تؤكد وسائل الإعلام الموالية للحكومة السورية. فإن “عملية الاعتقال والتحقيق”، كما تكشف الخطيب، كانت “تتم على يد الأفرع الأمنية والفرقة الرابعة في الجيش السوري، من دون اعتبار لجهاز الشرطة الذي من المفترض أن يقوم بهذه المهمة ويحيل المتهمين إلى القضاء”.

بالمحصلة، أصبحت مناطق المصالحات أشبه بـ”الصندوق الأسود”، إذ أصبحت عمليات توثيق الانتهاكات أصعب، وفقاً لما أكده مصدران حقوقيان تحدثا إلى “سوريا على طول” شريطة عدم الكشف عن هويتهما لأسباب أمنية.

استمرار تغول الأجهزة الأمنية

يشير استمرار الاعتقالات سواء للمواطنين السوريين في مناطق المصالحات أو المهجرين العائدين إلى سوريا إلى استمرار ممارسات الأجهزة الأمنية الحكومية اللاإنسانية التي أدت إلى اندلاع الثورة السورية. كما أدت هذه الأجهزة دوراً رئيساً في محاولة قمع المظاهرات الشعبية بطريقة وحشية، وتحولت مراكزها  إلى سجون وأماكن للتعذيب والإخفاء القسري.

وعلى مدار الأشهر الماضية، تواردت أنباء عن عزل العديد من الضباط البارزين في الأجهزة الأمنية وتعيين آخرين محسوبين على روسيا. إذ عُين اللواء غسان جودت إسماعيل مديراً للمخابرات الجوية بدل اللواء جميل حسن الذي أحيل للتقاعد، واللواء حسام لوقا مديراً لفرع أمن الدولة بدل اللواء ديب زيتون الذي أشيع، عبر وسائل إعلام مواليه إنما من دون تأكيد رسمي، تسلمه منصب مدير الأمن القومي خلفاً للواء علي مملوك الذي ترقى إلى منصب نائب “بشار الأسد” للشؤون الأمنية.

وفيما اعتبر البعض هذه التغييرات خطوة روسية في إطار التمهيد لحل سياسي، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، يرى آخرون أن الهدف هو التهرب من المحاسبة الدولية، لاسيما وأن غالبية الشخصيات المستبعدة متورطة في جرائم حرب. 

اعتقال المهجرين العائدين

في تموز/يوليو 2018، حثَّ المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف، اللاجئين السوريين، على العودة إلى بلادهم، مؤكداً أنهم “لن يواجهوا أي تهديدات” من الحكومة أو الأجهزة الأمنية السورية.

كما دعا بشار الأسد، في شباط/ فبراير الماضي، اللاجئين السوريين للعودة إلى بلادهم، قائلاً إن سوريا “بحاجة إلى كل أبنائها”، متهماً الدول المستضيفة للاجئين بعرقلة عودتهم، وأن “تحضير معسكرات اللاجئين بدأ قبل الحرب بعام لخلق معاناة إنسانية وإدانة الدولة السورية”.

في المقابل، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اعتقال ما لا يقل عن 1916 مواطناً عائداً إلى سوريا منذ مطلع العام 2014 وحتى حزيران/يونيو 2019، بينهم 219 طفلاً، و157 سيدة.

وفيما تم الإفراج عن 1132 شخصاً، بحسب نور الخطيب، سجل مقتل 15 شخصاً بسبب التعذيب، وتحول 638 شخصاً المتبقين إلى مختفين قسرياً. مؤكدة أن “النظام السوري وبعد أن أفرج عن هذه الحالات، عاد لاحتجازهم مرة أخرى، وأجبر العشرات منهم على الالتحاق بالتجنيد العسكري”.

ولا يبدو أن روسيا تلعب دوراً “كافياً” في الإفراج عن المعتقلين أو حتى إيقاف الاعتقالات، لاسيما في المناطق التي رعت فيها “اتفاقيات المصالحة” مع المعارضة السورية. 

وفيما لم توثق “الشبكة” حالات تم الإفراج عنها برعاية روسية في المناطق التي خضعت لعمليات مصالحة أو من اللاجئين الذين تم اعتقالهم بعد عودتهم، أشار الحريري إلى الإفراج عن عدد من معتقلي محافظة درعا من خلال وساطة روسية أو عن طريق لجان المفاوضات في المحافظة بعد توقيف لساعات أو أيام. علماً أن تقديرات “مكتب توثيق الشهداء في درعا” تشير إلى الإفراج عن 239 شخصاً من بين الـ1144 شخصاً المعتقلين في المحافظة منذ المصالحة صيف العام الماضي.

غياب الخدمات الأساسية

خلافاً لوعود روسيا وتصريح وزير خارجيتها الشهر الماضي بأن “الحرب في سوريا انتهت [وأنها] تعود رويدا رويدا إلى الحياة السلمية الطبيعية”، ما تزال أغلب مناطق المصالحات، كما حال الغوطة الشرقية على سبيل المثال، ترزح تحت الأنقاض وغياب الخدمات الأساسية، لاسيما المياه والكهرباء. 

أيضاً يضطر سكان جنوب سوريا إلى دفع تكاليف توفير الخدمات الخاصة بمناطقهم، بعد سحب السلطة من المؤسسات الحكومية في المناطق التي ما تزال فصائل المعارضة تسيطر عليها إلى حد ما، وخلق نوع جديد من الحكم والإدارة المحليين يمكّن من إدارة المرافق الخدمية الحيوية بعيداً من الحكومة.

الإصلاح مجرد لجنة دستورية 

نتيجة تدخلها العسكري المباشر في سوريا، ومستفيدة أيضاً من التحولات الدولية والإقليمية بشأن الثورة السورية، نجحت روسيا في اختزال العملية السياسية لإنهاء الصراع في سوريا إلى مجرد تعديل أو تغيير الدستور السوري من خلال لجنة تضم ممثلين عن الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني السوريين، بما يعني إلغاء المرجعية الدولية المتمثلة في القرار الدولي 2254، بحسب معارضين سوريين.

وينص القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي، في كانون الأول/ديسمبر 2015، على الدعوة إلى تشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات برعاية أممية، ودعم المسار السياسي لتشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، واعتماد مسار صياغة دستور جديد لسوريا.

وفي تعليقه على تشكيل اللجنة الدستورية، اعتبر بشار الأسد، خلال استقباله كبير مساعدي وزير الخارجية الإيراني، علي أصغر خاجي، أن “التنسيق الروسي الإيراني أنجز لجنة مناقشة الدستور، بالرغم من كل العراقيل والعقبات، التي حاولت فرضها الأطراف الأخرى الداعمة للإرهاب”.

بدوره، اعتبر رئيس هيئة التفاوض السورية (المعارضة)، نصر الحريري، تشكيل اللجنة الدستورية “انتصاراً للشعب السوري، وجزءاً من القرار 2254″. 

وفي الوقت الذي يعتبر بعض أطراف المعارضة كما النظام تشكيل اللجنة نصراً له، يبدو الخلاف على ماهية عمل اللجنة واضحاً. إذ يصر النظام السوري على تسمية اللجنة الدستورية “لجنة مناقشة الدستور”، أي دستور العام 2012 الذي منح بشار الأسد “صلاحيات مطلقة” من حيث السيطرة على السلطات الثلاث؛ التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.

فوق ذلك، فإن روسيا تصر على ما تسميه حق الأسد في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، في ظل سيطرة أجهزته الأمنية والمليشيات المدعومة من إيران. وفي حال تعديل الدستور سيكون للأسد، كما جرى سابقاً، ادعاء حقه في الترشح لولايتين جديدتين، قد تبلغان معاً 14 عاماً تضاف إلى مدة حكمه الذي بدأ في العام 2000. 

ومن المفترض أن تعقد اللجنة اجتماعها الأول في موعده المحدد أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، إلا أن الأمور تشير بأن اللجنة لن تبدأ عملها الفعلي قبيل مطلع العام المقبل، أي قبل قرابة عام واحد من موعد الانتخابات الرئاسية في سوريا.

 

شارك هذا المقال