7 دقائق قراءة

الثورة السورية في ذكراها العاشرة: لا ندم.. بل حنين لأيامها الأولى

رغم ما عرفته قوى المعارضة من انتكاسات عسكرية منذ العام 2015، كما انقسامات سياسية قبلاً وبعداً، يظل يوم انطلاق الثورة "أعظم يوم شهده تاريخ سوريا". إذ غيّر هذا اليوم مجرى حياة السوريين القابعين تحت سلطة استبداد الأسد.


14 مارس 2021

عمان – “تجرأنا على الحلم، ولن نندم على الكرامة”، شعار تداوله رواد مواقع التواصل الاجتماعي السوريون على صفحاتهم بموقع فيسبوك خصوصاً، إحياء للذكرى العاشرة للثورة السورية التي انطلقت شرارتها من محافظة درعا جنوب البلاد، في الثامن عشر من آذار/مارس 2011، ومنها إلى المحافظات الأخرى.

العبارة التي غزت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كانت قد خُطّت على الثوب الذي ارتدته المخرجة والناشطة السورية وعد الخطيب، في حفل توزيع جوائز الأوسكار 2020، الذي نافس فيه فيلمها “إلى سما” على جائزة أفضل فيلم وثائقي، بعد فوزه بجائزة الـ”بافتا”، في شباط/فبراير من العام ذاته. وجسد الفيلم معاناة أهالي مدينة حلب بعد أن أطبق نظام الأسد حصاره عليها في السابع عشر من تموز/ يوليو 2016.
ذاك الحلم الذي تجرأ عليه السوريون من خلال “ثورة الحرية والكرامة” التي خرجوا بها منذ عشر سنوات، واستطاعت كسر حاجز الخوف وصدعت أسس الاستبداد الذي بنته عائلة الأسد لأكثر من نصف قرن، كّلف الشعب السوري الكثير، بعد أن جوبهوا بالقتل والتدمير والتهجير والاعتقال على يد نظام الأسد، مستعيناً بروسيا وإيران وميليشيات طائفية من دول أخرى.

وبحسب آخر إحصاءات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن نظام الأسد مسؤول عن مقتل 259,202 مدنياً، إضافة إلى اعتقال واختفاء ما لا يقل عن 215,477 أشخاص آخرين، منذ 15 آذار/مارس 2011 وحتى 4 آذار/مارس الحالي. هذا فضلاً عن تهجير ما لا يقل عن 12 مليون شخص، أو ما يعادل  نصف سكان سوريا مع اندلاع الثورة، يتوزعون بين لاجئ ونازح، وتدميره مدناً بأكملها. 

ورغم ما عرفته قوى المعارضة من انتكاسات عسكرية منذ العام 2015، كما انقسامات سياسية قبلاً وبعداً، يظل يوم انطلاق الثورة “أعظم يوم شهده تاريخ سوريا” برأي الصيدلانية مها جمعة، المهجرة من مدينة الضمير في ريف دمشق إلى محافظة إدلب شمال غرب سوريا. إذ “غيّر هذا اليوم مجرى حياة السوريين القابعين تحت سلطة استبداد الأسد، وجعل الحلم بالحرية والكرامة أمراً ممكناً”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

ثورة عظيمة

كانت مها، 38 عاماً، من النساء اللواتي شاركن في جمع الأدوية الطبية والضمادات وسعين لإيصالها إلى مدينة داريا بغوطة دمشق، بعد أن أطبق النظام السوري حصاره عليها مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2012. إذ بدأت مها خلال تلك الفترة، التعامل مع “عدة شبان كانوا يجمعون في الخفاء المواد الطبية من العاملين الداعمين للثورة في القطاع الطبي، ليتم تهريبها فيما بعد إلى أهالي داريا”. مضيفة: “كنت أنقل الضمادات والأدوية عبر الحواجز الأمنية للنظام من مدينة الضمير إلى حي القابون الدمشقي، حيث يقيم الشبان المتطوعون لجمع المساعدات لأهل داريا، عن طريق لصقها على جسدي، وارتداء ثياب فضفاضة فوقها”.

بعد مرور أشهر على بدء انخراطها في تلك “المخاطرة”، وصل مها من أحد ضابط في الجيش مقرب من عائلتها، أن النظام السوري أصدر تعميماً على اسمها، وأنها أصبحت من المطلوبين على الحواجز الأمنية، بعد أن “وشى بي أحد أبناء مدينتي لفرع المخابرات الجوية في الضمير” التي كانت حينها “تخضع لسيطرة الجيش الحر، وتعيش فترة هادئة بموجب اتفاق هدنة بين [الجيش] الحر والنظام”.

عقب ذلك، اعتقلت أجهزة الأسد الأمنية اثنين من إخوة مها من السكن الجامعي التابع لجامعة دمشق التي كانا يدرسان فيها، و”لا أعلم أي شيء عن مصيرهما حتى اللحظة”. فيما تلقى الأب بعد ساعات من اعتقال ولديه رسائل تهديد على هاتفه المحمول “من فرع المخابرات الجوية في الضمير، مفادها إما أن تسلم ابنتك مها أو ستواجه وعائلتك مصير كل خائن للوطن”.

توارت مها وعائلتها عن الأنظار إلى أن هجّرت منها مع أبيها وأمها وزوجها إلى محافظة إدلب، عقب سيطرة النظام على الضمير في العام 2018. وقد علمت فيما بعد أن النظام “حجز على أموالي المنقولة وغير المنقولة، والملكيات العقارية التي أملكها أنا وزوجي وأبي”.

حليمة عيد، 50 عاماً، أخذت على عاتقها دوراً آخراً تشارك فيه بدعم الثورة. إذ عملت خلال العام 2012، على إعداد الطعام ونقله إلى مقاتلي الجيش الحر بعد سيطرته على حي باب دريب الذي كانت تقطنه بمدينة حمص. “كنت أقدر جهودهم في صد محاولات عصابات الأسد دخول الحي، وكان أقل ما يمكنني فعله أن أقدم لهم وجبات الطعام بمشاركة نساء الحي”، كما روت لـ”سوريا على طول”.

وقد خسرت حليمة ابنيها الوحيدين برصاص قوات النظام في العام ذاته. إذ قتل الأول “على إحدى جبهات حي الخالدية بحمص أثناء مشاركته في صد محاولات تقدم عناصر النظام”، فيما قتل الثاني “رفقة أخي، برصاص قناص من جيش الأسد، أثناء محاولتهما العبور من حي باب دريب إلى حي الخالدية، لنقل وجبات الطعام التي حضرتها إلى المقاتلين”، كما قالت. 

وإذ كان فقدان الابنين والأخ “صعباً جدا علي”، كما قالت، فإن “الأصعب كان مقتل ابنتي برفقة أختي الكبرى وأبنائها حرقاً في حي باب دريب في العام ذاته”، وذلك “بعد تقدم النظام إلى الحي وإضرامه النار في البيوت وحرقها بمن فيها من عائلات”. 

كانت حليمة قد غادرت باب دريب قبل دخول قوات النظام إليه بساعات “لأنقل قطعتي سلاح، كنت قد خبأتهما في منزلي، إلى عناصر الجيش الحر، قبل أن يصل النظام إليهما”. وبعد اقتحام الحي ومحاصرته “لم أستطع دخوله، ولم أعلم شيئا عن مصير ابنتي حتى وصلت، بعد رحلة تهريب شاقة إلى لبنان، حيث تقيم أختي الصغرى، وأخبرني أحد شبان الحي الذي شهد على اقتحام النظام، ونجا بأعجوبة فيما بعد، أن منزل أختي متفحم بمن فيه”، كما استذكرت.

رغم كل ذلك، لم تتوان حليمة عن تجديد “عهد تمسكي بهذه الثورة العظيمة، والمطالبة بمعتقلينا، وضرورة محاسبة هتلر العصر بشار الأسد”.

يوم توحد الشعب

مستعرضاً شريط أحداث الثورة “من التظاهرات العفوية التي انطلقنا بها، والآمال الكبيرة بإسقاط النظام خلال أيام، وشهدائنا الذين قتلوا برصاص جنود الأسد، كما معتقلينا الذي قضوا تحت التعذيب، وانتهاء بتدمير مدننا وتشريدنا داخل سوريا وخارجها”، تظل ذكرى الثورة السورية مناسبة فرح بالنسبة لمعين الأصفر، 37 عاماً، لأنها “جمعت الشعب السوري على كلمة واحدة، هي الموت ولا المذلة”.

معين، ابن مدينة درعا، كان مقيماً عند اندلاع الثورة مع أسرته في إسكان الضباط ببلدة جديدة عرطوز في ريف دمشق، كون والده ضابطا برتبة رفيعة في جيش النظام. وقد شارك في العام 2012 بأولى المؤتمرات المنعقدة للائتلاف السوري المعارض في تركيا، وذلك خلال سفره إليها لإنجاز بعض المهام الموكلة إليه من شركة المقاولات التي كان يعمل فيها بسوريا. وقد جاءت هذه المشاركة “إيمانا مني بضرورة المشاركة والمساهمة بما يمكنني تقديمه، خاصة وأنني أحمل شهادة الماجستير في العلوم السياسية”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

لكن “مخبرين” للنظام حضروا ذلك الاجتماع، كما أضاف و”التقطوا لي بعض الصور. لتتم مداهمة منزل والدي بعد يومين من قبل قوات الحرس الجمهوري بحثاً عني. وعندما لم يجدوني اعتقلوا أخي وصهري، بل وهددوا والدي بأخذ من تبقى من أبنائه إن لم يسلّمهم إياي”.

بعد ذلك “اصطحبت قوات الحرس الجمهوري أخي وصهري إلى بلدة جديدة الفضل المجاورة لبلدة جديدة عرطوز في ريف دمشق، والتي كان قد جرى اقتحامها في اليوم نفسه، وتمت تصفيتهما مع مئات الأهالي في البلدة، بما عرف حينها بمجزرة جديدة الفضل”. ولم يكتف النظام بذلك، إذ “ذكر اسميهما على التلفزيون السوري على أنهما إرهابيان قضى عليهما الجيش، علما أنهما لم يشاركا بأي نشاطات ضد النظام”، بحسب الأصفر.

عقب الحادثة بشهرين، قرر والد معين الانشقاق عن النظام، وانتقل إلى الأردن ومن ثم إلى تركيا، ليستقر إلى جانب ابنه معين.

التمسك ذاته يالثورة، رغم عظم التضحيات، عبر عنه أيضاً عمر الدمشقي بالقول: “سنبقى أوفياء للصرخة الأولى، لهتافاتنا “يالله ارحل يا بشار”، وسيرحل هو وحلفاؤه بإذن الله”.

رغم كون “العجز غلبنا، وأعيانا فقدان الأحبة، لكننا لا نملك إلا أن نختار الثورة مرة ثانية وثالثة ورابعة”.

الدمشقي، 35 عاماً، كان أول ناشط إعلامي في قدسيا بريف دمشق، يصوّر ما يجري في المدينة وينقله للمحطات الفضائية، بعد عمله في تنظيم التظاهرات التي كانت تخرج هناك، إلى أصيب بطلق ناري في قدمه اليسرى العام 2016، أدت إلى “تفتت مفصل الركبة، وأفقدتني القدرة على الحركة”، كما روى لـ”سوريا على طول”.

في الأثناء أيضاً، “اعتقلت قوات النظام صهري الذي كان يقيم في العاصمة دمشق، بسبب دعمي لرواية الإرهابيين”، بحسب توصيف النظام للثوار والمعارضين عموماً، “عبر نقلي لمجازر النظام المرتكبة في المنطقة”. 

وقد غادر الدمشقي قدسيا مع مئات المدنيين والمقاتلين المعارضين إلى محافظة إدلب، في العام 2016، بعد عقد ما يسمى “مصالحة” بين جيش النظام والمعارضة التي كانت تسيطر على المدينة. وبعد سنة من ذلك، غادر إلى تركيا بعد تواصله مع عدة منظمات لإجراء عملية جراحية لقدمه، ومن ثم إلى فرنسا لاستكمال العلاج.

لكن الثمن الذي توجب على الدمشقي دفعه لم يتوقف عند هذا الحد. إذ “أجريت اتصالاً هاتفياً في العام 2019 مع أختي الكبرى المقيمة في دمشق، لأسمع صوت أمي وأبي بعد حرماني منهما لسنوات”، كما استذكر. لكن عقب المكالمة بساعات، “اعتقل الأمن السياسي التابع لإدارة المخابرات الجوية في دمشق، أختي على ضوء مراقبتهم لاتصالي بها”. مضيفاً: “يريدون سلبي أبسط حقوقي ألا وهو الاطمئنان عن أهلي”. ولم يكتفوا بذلك، بل “قام عناصر الأسد بطرد أهلي من منزلهم في قدسيا، واستخدامه مقراً لهم، كما قاموا بتكسير محلاتنا التجارية في المدينة، والتي كانت مصدراً أساسياً لرزق العائلة”. 

خيار قائم حتى الحرية

فيما اتفقت مها وحليمة على أن السبب الرئيس لانتكاسات الثورة السورية هو روسيا وإيران بالدرجة الأولى، إذ “لولا تدخلهما إلى جانب الأسد، لكان حكمه ساقطاً منذ العام 2012″، بحسب مها، حمّل عمر المجتمع الدولي المسؤولية عن ذلك، إذ “برغم كل التوثيقات الحقوقية والإعلامية لجرائم الأسد، لا زالت [الدول الفاعلة] متواطئة في عدم إنهاء شلال الدم وإزاحة بشار الأسد عن الحكم”.

لكن معين رأى أن “تشرذم قوى المعارضة السياسية والعسكرية وضعف قيادتها داخلاً وخارجاً، كان له الدور الأساس في انتكاسة الثورة”، وهو ما جعل “المجتمع الدولي يرتئي أنه لا يوجد بديل عن الأسد من قيادات المعارضة، قادر على حكم سوريا”، كما قال.

رغم ذلك، يتفق النشطاء الأربعة على أن لا ندم في ذكرى الثورة العاشرة. فبالنسبة لمها، يظل أيام إيصال المساعدات إلى محاصري داريا أجمل “أيام حياتي رغم خطورتها”. ورغم أنها خسرت أخويها، “إلا أنهما لو عادا إلى الحياة وعرفا ما قدمته أختهم من خدمات إنسانية، لما ترددا بدفع حياتهم ثمناً لذلك”، كما قالت. مضيفة: “مهما جار عليها الزمن، ثورة الحق ستنتصر. وسأكرر هنا ما قالته مي سكاف رحمها الله، إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد”.

كذلك “لو عاد الزمن إلى الوراء” بحليمة، “لفعلت ما فعلته من دون تردد، ويكفيني أني قدمت أبنائي شهداء لثورة يتيمة خرجت نصرة لحقوق المظلومين ولست نادمة على ذلك”. 

وفيما “لا يضيع حق وراءه مطالب”، و”حكم الطغاة زائل مهما حاولوا التمسك بكراسيهم”، كما شدد معين، فيظل أنه رغم كون “العجز غلبنا، وأعيانا فقدان الأحبة، لكننا لا نملك إلا أن نختار الثورة مرة ثانية وثالثة ورابعة”.

شارك هذا المقال