7 دقائق قراءة

الحكومة السورية تغلق ملفات آلاف المفقودين.. والعائلات تبحث عن إجابات حول مصير أبنائها

رسمة على أحد جدران داريا تخلد ذكرى الأشخاص الذين اختفوا […]


رسمة على أحد جدران داريا تخلد ذكرى الأشخاص الذين اختفوا قسراً عام 2016. تصوير: مجد المعضماني.

 

كان إسلام شقيق عبد الرحمن الدباس، يرتدي سترة كتب عليها كلمة “حرية” في المرة الأخيرة التي التقيا فيها على طرفي قضبان زنزانة في سجن صيدنايا عام 2012.

وبعد أن سُمح للدباس ووالدته بزيارة إسلام لمدة دقيقتين فقط، بعد أن تم اعتقاله من قبل قوات الأمن في أحد شوارع داريا في ريف دمشق في وقت سابق من ذلك العام، حاول عبد الرحمن أن يرسخ صورة إسلام الذي بدا نحيلاً وضعيفاً بشكل مؤلم في ذاكرته لعلها تكون آخر مرة يراه فيها أو يسمع عنه شيئاً.

واكتشفت العائلة، الأسبوع الماضي، أن إسلام هو واحداً من بين عشرات الآلاف الذين لقوا حتفهم في المعتقلات الحكومية منذ عام 2011، وذلك بعد أن زارت ابنة عمه مكتب شركة “سيريتل” للاتصالات، الأسبوع الماضي، حيث تقدم الشركة خدمة الاطلاع على بيانات السجل المدني للمواطنين لقاء 400 ليرة سورية، ونتيجة السجل تؤكد بذلك مخاوف العائلة التي راودتهم خلال السنوات الماضية.

وقال الدباس “لم تستطع ابنة عمي التعامل مع الموقف، وغادرت دون أن تأخذ معها ورقة السجل المدني، كانت الصدمة شديدة عليها جداً”.

وتكررت تلك الحادثة في جميع أنحاء سوريا منذ أيار، عندما بدأت الحكومة السورية بإغلاق ملفات السجل المدني التي تخص آلاف المعتقلين والمفقودين خلال الانتفاضة السورية والنزاع الذي تلاه.

وكانت العائلات تكتشف أخبار أقاربهم من خلال الزيارات الروتينية لدوائر السجل المدني المحلية، أو بعد مكالمات هاتفية غير متوقعة من لجان المصالحة المحلية، ومع انتشار الأخبار بدأ السكان يتدفقون إلى مكاتب التوثيق المدني وينتظرون في طوابير لساعات.

تشير المقابلات التي أُجريت مع عائلات المفقودين ومنظمات حقوق الإنسان والخبراء القانونيين إلى أن الحكومة السورية تقوم الآن بإعادة تنظيم بيروقراطي لسجلات المعتقلين، بما في ذلك الأوراق أو أي أثر يمكن أن يعرض المسؤولين في يوم ما للملاحقات القضائية الدولية.

“ماذا فعلوا به؟”

وكان تقرير منتصف شهر تموز الذي أعده فريق الرصد التابع للشبكة السورية لحقوق الإنسان أول من زعم ​​أن العائلات اكتشفت عن طريق المصادفة أن أبناءهم المعتقلين تم تسجيلهم على أنهم متوفين، وتم تكرار هذه الحالات في كل من محافظات حماة ودمشق وريفها واللاذقية وحمص والحسكة.

وقال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني “في بداية التحقيق، لم نكن نصدق الأخبار، كانت العائلات تكتشف بالصدفة أثناء ذهابها لإجراء أوراق عمل اعتيادية، وكان الموظف يخبرهم أن أقاربهم مسجلين أمواتاً في سجلاتهم”.

وقال عبد الغني لسوريا على طول أن عدد القتلى الذين تم التعرف عليهم حديثاً بين قوائم السجل المدني يزداد كل يوم، وأكدت الشبكة أنه تم تحديد مايقارب 350 حالة من قبل الأقارب.

ويبدو أنه لا توجد إجراءات محددة لإبلاغ العائلات مع وجود بعض التغيرات في الطرق التي تختلف من مدينة إلى أخرى.

 

Embed from Getty Images


شرطي عسكري روسي يقف عند حاجز “الوافدين” خارج دمشق في آذار. تصوير: لؤي بشارة.

وأشار تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن العائلات لم تستلم جثث المفقودين، الشيء الذي أكده عدة مصادر لسوريا على طول، في كثير من الحالات يكتب سبب الوفاة على الشهادة “سكتة قلبية”.

وفضلاً عن 350 حالة التي أكدتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، هناك عدد كبير من الحالات غير المؤكدة في مدن أخرى بجميع أنحاء سوريا.

وفي الأسبوع الأخير من شهر حزيران، استلم ما لايقل عن 30 أسرة فلسطينية سورية من مخيمات في حمص وحماة، التي تتبع وثائقهم المدنية للهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في دمشق، مكالمات هاتفية من الهيئة تعلمهم بأنه يجب عليهم التوجه على الفور إلى مكتب السجل المدني لتغيير وضع أقاربهم وأبنائهم من حي إلى متوفى.

وورد في التقرير أيضاً أن الأسماء المسجلة في السجل المدني بلغت مايقارب 600 حالة في الحسكة بالإضافة إلى 90  حالة في حماة.

وفي 28 حزيران، أصدر المسؤولون قائمة مكتوبة بخط اليد بأسماء المعتقلين أو المختفين قسرياً على يد قوات الأمن السوري في معضمية الشام في ريف دمشق، بعضهم اعتقل في وقت مبكر من عام 2013، معلنين وفاتهم.

وكتبت قائمة الأسماء على ورق يحمل ترويسة وزارة الداخلية، وورد حوالي 300 اسم في القائمة الأصلية على الرغم من تأكيد موظفي السجل المدني عن وفاة 170 شخصاً فقط في المعتقلات التي تديرها الحكومة.

ومن الواضح أن إغلاق الملفات لايزال مستمراً، حيث أفادت التقارير أن المكالمات الهاتفية تتزايد واستلمت الأسبوع الماضي 25 عائلة من معتقلي سجن صيدنايا في مدينة كناكر في جنوب دمشق اتصالات هاتفية من لجنة المصالحة المحلية.

وإلى الآن لا يمكن معرفة حجم التغييرات التي أجرتها الحكومة على السجلات المدنية، أو عدد حالات الوفاة الأصلية.

وقال ليث مطر، ناشط في مجال التوثيق المدني، لسوريا على طول أن الحالات الموثقة حتى الآن هي فقط “للأشخاص الذين يعترف النظام أنهم يعرفون شيئًا عنه” وطلب الناشط عدم الكشف عن هويته الحقيقية لأسباب أمنية.

وأضاف مطر هناك العديد من الأشخاص الذين تم اعتفالهم على الحواجز أو نقلهم من فرع أمني إلى آخر لم يتم توثيقهم جيداً، لا أعتقد أننا سنتمكن من معرفة العدد الكامل للموتى”.

وبالنسبة لمعظم الأسر، فإن خبر وفاة أبنائهم هو أول خبر يسمعونه عنهم منذ سنوات، ومع ذلك لا يزال هناك الكثير ينتظرون.

وفي عام 2014، غادر محمد، ابن وفاء الأيوبي، البالغ من العمر 21 عاماً منزل عائلته في دمشق ولم يعد، وبعد خمسة أيام من البحث المكثف من قبل الأيوبي وأفراد عائلته، داهمت قوات الأمن منزلهم، وهم يجروّن محمداً، وقاموا بتفتيش المنزل بحثاً عن أدلة  تجرمه، وبقيت صورة وجهه، التي يكاد من المستحيل التعرف عليها من كثر التعذيب، تطارد والدته منذ ذلك الحين.

وتقول “رأيت ابني بعيني وهو مشوه ومعذب عندما أحضروه وداهموا منزلنا، كل ذلك كان بخمسة أيام من التعذيب فقط، ماذا تعتقد حلّ به الآن بعد ست سنوات؟ كيف يعيش؟ ماذا فعلوا به؟”.

“طي الصفحة”

ﺗﻘﻮم اﻟﻌﺎﺋﻼت ﻋﺎدةً، ﺑﺼﻔﺘﻬﺎ ﺸﻬﻮد، ﺑﺘﺤﺪﻳﺚ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺴﺠﻞ اﻟﻤﺪﻧﻲ وﻟﻴﺲ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ. ويعكس تغيير السجلات تغييراً كبيراً في السياسة.

وتقول لمى فقيه، نائبة مديرة قسم الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش، أنها محاولة من الحكومة السورية “لطي الصفحة بطريقة سطحية جداً” عن طريق إغلاق الملفات في محاولة لتجنب المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية.

 

صورة لسجن صيدنايا، حيث تم إعدام آلاف المعتقلين منذ عام 2012. الصورة من Google Earth.

وأضافت الفقيه “في الحقيقة إذا لم نشهد مساءلة قانونية عن الجرائم المرتكبة في هذا الصراع ، فإننا لن نشهد في الواقع انتقالاً سلمياً”.

ومن بين العديد من الحواجز التي تقف عائقاً في طريق أي تسوية في مرحلة ما بعد الصراع، فإن علامة الاستفهام حول مصير عشرات الآلاف من المعتقلين في عهد الحكومة أثناء الحرب لاتزال  واحدة من أكثر العقبات صعوبة.

في حين أنه من المستحيل معرفة العدد الحقيقي للأشخاص الذين قُبض عليهم أو اختفوا قسراً منذ بدء النزاع في عام 2011 ، وعدد الحالات المؤكدة رسمياً بلغ عشرات الآلاف.

وقد أكد مركز توثيق الإنتهاكات في سوريا أن الحكومة السورية مسؤولة عن ما يقارب 66922 حالة من حالات الاختفاء القسري منذ عام 2011، 92٪ من الحالات موثقة.

وفي الوقت نفسه، ذكرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن 81652 شخصاً اختفوا في الفترة ما بين آذار 2011 وحزيران 2018. ويعتقد العديد من الباحثين أن العدد الحقيقي يمكن أن يكون أكثر بعشرات آلاف المرات.

وبالإضافة إلى حالات الاختفاء القسري، اتُهمت حكومة الأسد أيضاً بارتكاب فظائع ضد المعتقلين، وتم ذكر بعض أفظع الجرائم بالتفصيل في تقرير لمنظمة العفو الدولية في شباط 2017، واتهم التحقيق حكومة الأسد بالقيام بعمليات إعدام وتعذيب خارج نطاق القضاء في سجن صيدنايا حيث شوهد إسلام، شقيق الدباس، آخر مرة.

وأضاف التقرير أنه ما بين عامي 2011 و 2016، تعرض ما لا يقل عن 13 ألف شخصاً للتعذيب في سجن صيدنايا وحده، قبل إصدار الحكم عليهم من خلال محاكمة عسكرية مدتها 3 دقائق وشنقهم.

الإفلات من العقاب على الجرائم

وشاهد المجتمع الدولي لمحة مرعبة عن العالم السفلي في معتقلات الحكومة السورية في عام 201، عن طريق تسريب صور “قيصر” السيئة السمعة الآن، حيث قام أحد المنشقين العسكريين في آب 2013، والذي أطلق عليه اسم “قيصر”  بتهريب 53275 صورة من أرشيف الطب الشرعي التابع للحكومة يظهر صوراً مروّعة لجثث تم تشويهها وتعذيبها على أيدي ضباط الأمن.

ووفقاً للتحليل الذي أجرته هيومن رايتس ووتش، فإنه من الممكن التعرف على 6786 جثة من بين الجثث الكثيرة، والغالبية العظمى من هؤلاء الضحايا اختطفوا من قبل خمسة فروع لأجهزة الاستخبارات تعمل في جميع أنحاء العاصمة السورية.

وقد أثارت الصور الوحشية صخباً دولياً، وأطلقت عدد من المبادرات الهادفة إلى تحقيق العدالة لعائلات المعتقلين الذين قُتلوا في معتقلات الحكومة، وعملت منظمات تأسست مؤخراً مثل رابطة عائلات قيصر على جمع الأدلة وشهادات المعتقلين لاستخدامها في المحاكمات القضائية في المستقبل.

ويرى عبد الغني أن الجولة الأولى من إغلاق ملفات القضية هي تجربة من جانب الحكومة السورية

لتحاول معالجة البيروقراطية الفوضوية للاعتقال مع انتهاء العمليات العسكرية في أماكن أخرى من البلاد.

وأضاف عبد الغني “نعتقد أن النظام يحاول أن يتأكد من رد فعل المجتمع الدولي تجاه هذا السلوك” مضيفًا أن “ردة الفعل الضعيفة” قد تدفع الدوائر الحكومية إلى “مواصلة تسجيل جميع الأشخاص المفقودين” بهذه الطريقة.

ولم تُحاكم الحكومة السورية أو أي مسؤول عسكري بتهمة ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم دولية خطيرة أخرى، رغم أن العديد من القضايا وصلت إلى المحاكم الأوروبية. وبموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي ينص على منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني وتجريم مرتكبيها، يمكن للمحاكم الأوروبية أن تنظر في القضايا المتعلقة بالصراع السوري.

وفي 8 حزيران، أصدر المدعي العام الألماني مذكرة اعتقال بحق جميل الحسن، وهو شخصية رفيعة المستوى في الجهاز العسكري السوري، وبصفته رئيس فرع المخابرات الجوية في سوريا، كان يتمتع الحسن برقابة مباشرة على أكثر مراكز الاعتقال سيئة السمعة، حيث تعرض الآلاف للتعذيب والقتل.

ومن المرجح أن يتم تمديد مذكرة الاعتقال لتتحول إلى إنذار أحمر من قبل الإنتربول الدولي، مما يؤدي إلى انتشار القلق في الدوائر الحكومية ويزيد شبح تقييد السفر الدولي للمسؤولين في المستقبل.

ويصرح بسام الأحمد، وهو باحث سوري في مجال حقوق الإنسان يعيش حالياً في تركيا “أن قضية جميل الحسن وغيره من القضايا التي رفعتها العديد من المنظمات غير الحكومية جعلت الناس يتكلمون أكثر، وتلك الحالات تزيد من الضغط من أجل معالجة هذه القضايا”.

ولكن بالنسبة لعائلات المفقودين، ولأمهاتهم مثل الأيوبي، فإن الإجراءات القانونية في المحاكم البعيدة لا تساوي سوى القليل من الراحة أمام البحث اليومي عن إجابات حول ما حدث لأبنائهم.

وختمت الأيوبي “أنا كأم، لم تفارقني ذكرى ابني أبداً، وأعيش باستمرار في دوامة من الألم والأمل وأتمنى دائماً أن أسمع شيئاً عنه”.

 

ترجمة: بتول حجار

شارك هذا المقال