8 دقائق قراءة

الفيلسوف البرقاوي: أيقونة سورية أكاديمية يتحدث عن الحرية والقمع وأصل الحرب

بعد شهر من مغادرة أستاذ بروفسورأحمد البرقاوي لسوريا، أعلنت جامعة […]


24 يونيو 2017

بعد شهر من مغادرة أستاذ بروفسورأحمد البرقاوي لسوريا، أعلنت جامعة دمشق قرار فصله من رئاسة قسم الفلسفة، بعد أن أمضى ثلاثين عاماً في أروقتها، عاشقاً مخلصاً لدمشق وفيلسوفاً يحاكي حضارتها ويحاورها بعمق وقوة شاعرية.

وخلال مشواره الطويل، نشر البرقاوي عشرات الكتب الفلسفية والمجموعات الشعرية التي تعالج طيفاً من المواضيع تتضمن الفلسفة في العالم العربي، الأنا وتفتحها أو قمعها ووحشية الأنظمة السلطوية. وتؤلف كتاباته جسراً ما بين الفلسفة الأوروبية الحديثة والأوساط الفكرية في العالم العربي.

ولد البرقاوي في قرية الهامة بريف دمشق في ربيع نيسان 1950، من أبوين لاجئين من فلسطين، درس الفلسفة في جامعة لينينغراد في سانت بطرسبرغ. 

وبعد اندلاع الحرب في سورية، بات البرقاوي في موضع شك ومراقبة لدى السلطة، فمحاور كتاباته عن وحشية الحكومات السلطوية والعنف باسم الوطنية ومناشدة الحرية تومئ إلى أنه للثورة ينتمي. ولذلك، أبُلغ بالصمت وإلا..!

اعتزم الهروب ورحل من سوريا إلى دبي في عام 2013، إذ أن “الصمت خوفاً، صمت القلم وصمت الحنجرة يقتل، إذا وداعاً دمشق على أمل اللقاء”، وفق ما قال البرقاوي،67عاماً لـ فاطمة عاشور، مراسلة في سوريا على طول.
وعن ألم الرحيل، قال البرقاوي “في عمر متأخر يكون ترك المكان تعذيباً، لكن الفلسفة تمنحك المعقولية في الحياة. حسبك أنك تعيش في بيتك الأصلي اللغة الحرة والمتحررة . وعبرها تحاول امتلاك الوجود بعقله وجماله: الفلسفة والشعر”.
في الحوار المؤلف من جزئين، يعزل الفيلسوف الحرب عن السياق الطائفي الذي كثيراً ما تؤطر من خلاله. ومن ثم يناقش البرقاوي حتمية الثورة السورية مع تطور الوعي الفردي للحرية، برغم الاستبداد المطلق.

“تقول الفلسفة بأن ما جرى في سوريا هو ثمرة تناقض أساسي بين بنية سلطة قمعية ضيقة العصبية؛ ثابتة فرضت على المجتمع جملة من الأساليب البدائية لاستمرار بقائها، ومجتمع يتطور عفوياً وصارت بنيته أوسع وأغنى من بنية السلطة. وهذا ما أدى إلى انفجار بنية المجتمع التي لم تعد قادرة على التعايش مع بنية السلطة. وهذا يعني إن ما جرى ويجري هو ثورة بالمعنى الدقيق للكلمة”.

كيف يمكن للفسلفة أن تساعدنا في فهم ما حل بسوريا؟ وهل مازال يمكننا أن نراها ثورة وليس حربا أهلية في ظل هذا الاقتتال الطائفي؟

هناك جملة من العلاقات يقيمها الفرد أو الجماعة مع ما يجري في سوريا؛ كالإنتماء والإنحياز والحياد واللامبالاة والتبرير والفهم. 
الإنتماء والإنحياز والحياد واللامبالاة والتبرير؛ مواقف يتخذها البشر لأسباب كثيرة، فيما الفهم امتلاك نظري عقلي علمي للواقع، هذه مهمة الفلسفة. إن الفهم لا يلغي اتخاذ الموقف لكنه لا يؤسس على الموقف. غير إن الفلسفة في فهمها للواقع السوري تمد الموقف بأساس عقلي. ولهذا فإن من ينطلقون من مصلحة ما سرعان ما يعادون الفلسفة إذا ما كشفت عبر الفهم عن ماهية السيرورة التاريخية .
تقول الفلسفة بأن ما جرى في سوريا هو ثمرة تناقض أساسي بين بنية سلطة قمعية ضيقة العصبية؛ ثابتة فرضت على المجتمع جملة من الأساليب البدائية لاستمرار بقائها، ومجتمع يتطور عفوياً وصارت بنيته أوسع وأغنى من بنية السلطة. وهذا ما أدى إلى انفجار بنية المجتمع التي لم تعد قادرة على التعايش مع بنية السلطة. وهذا يعني إن ما جرى ويجري هو ثورة بالمعنى الدقيق للكلمة .
والفلسفة إذ تكشف عن الممكنات التي تنطوي عليها الثورة؛ تمد الإرادة الفاعلة والقائدة بالعقل الذي يساعد على ممارسة صحيحة.

أين هي سوريا  اليوم على رزنامة التاريخ، وكيف يمكن أن نفهم الحرب في سياق تاريخ سوريا؟إلى أين تتجه سوريا؟ وكم من الزمن أو التبدلات ولنقل الفلسفات (الجماعات بفلسفات مختلفة) التي ستمر على سوريا حتى تنتفي الثورة، بمعنى أن تفرغ الثورة من مهمتها؟

تسألينني إلى أين تمضي سوريا، إلى عالم جديد. حسبي أن أنقل لك مقطعاً من مقال جديد كتبته في العرب اللندنية. قامت بنية النظام التي أشادها اللواء حافظ الأسد بعد انقلابه الكارثي عام 1970 على ثلاثة عناصر أساسية، وجملة من العناصر الثانوية. أما العناصر الثلاثة الأساسية والمترابطة وظيفيًا: الرئاسة والجيش والأمن. أما العناصر الثانوية التي ظلت ذات طابع شكلي جدًا فهي: حزب البعث الذي كان، دستوريا، قائد الدولة والمجتمع، ويقود جبهة وطنية تقدمية.

[البرقاوي يشير إلى المادة الثامنة في دستور سوريا في عام 1973].

ثم مجلس الشعب الذي يُعين، ثم تجري عملية انتخابه القسري والمزور، وأخيرا جملة من المؤسسات المُهيمَن عليها من العناصر الأساسية.
كانت العناصر الثلاثة الأساسية (الرئاسة، الجيش، والأمن) تحتكر القوة، واستخدامها خارج أي مسوغ أخلاقي وقانوني، ودون وجود أي قوة مجتمعية رادعة.

هذه العناصر الأساسية فقدت احتكارها للقوة، وصارت، هي ذاتها، موضوعًا تُمارس عليه استخدام قوة جديدة نشأت بفعل الاستخدام غير الأخلاقي وغير القانوني لقوتها. وأمام ضعف العناصر الثلاثة هذه، أسست السلطة ميليشياتها الخاصة بها، وصارت شبه مستقلة بقوتها، وغير خاضعة لسلطة الأمن والجيش المنهارتين.

واستقدمت السلطة قوة أخرى ميليشياوية ودولية، رغبة في البقاء، ومن ثم؛ فقدت أكثر فأكثر احتكارها للقوة، وصارت حالًا من حالات القوة أمام حالات أخرى من القوى النقيضة؛ فانهارت عناصر بنيتها وصارت تفعل، ليس بوصفها جزءاً من البنية المتماسكة السابقة، وإنما عناصر بنية منهارة، وفقدت العناصر الشكلية الأخرى وظيفتها؛ لأنها ذات ارتباط وطيد من العناصر الأساسية.

وبتعدد القوى الفاعلة في تحديد مستقبل سورية، سواء قوى داخلية أم خارجية، فإن استعادة البنية القديمة صار ضربًا من المستحيل، وبخاصة أن منابع القوة البشرية للسلطة من الفئات الفقيرة باتت على وشك النفاد، وأن عصبيتها من الفئات الوسطى والفئات الغنية ليست من منابع القوى المقاتلة، والاعتماد على منابع خارجية من فقراء لبنان والعراق أمر غير قابل للاستمرار في حال بقاء الصراع فترة طويلة مع تعدد القوى الفاعلة فيه.

من هنا، فإن زوال البنية المنهارة تاريخيًا أمر حتمي. فليس من شيمة التاريخ أن يُعيد الحياة إلى بنية قد انهارت، ولسنا نعرف حالة من حالات كهذه.

أي فلسفة يحصن بها نفسه من ينتظر اقتحام الجيش، أو من هو في المعتقل وينتظر الموت؟ وأمام الحزن الكبير، هل الحرية في هذا الموقف أغلى من الوجود؟

تجعل الفلسفة من الإنسان مركز العالم. فهو قيمة القيم. الخطاب الفلسفي الأخلاقي بشكل خاص يزود البشر بوعي قيمة وجودهم. 

في الحرب يعيش الإنسان واقع الخوف والحرمان والإنحياز والولاء والحياد والمشاركة واللجوء والهروب واللامبالاة كما قلت في البداية. الفلسفة  تنظر إلى الحرب من زاويتين: من الزاوية الأخلاقية مدافعة عن حياة الإنسان، ومن زاوية معرفية في تفسير الحرب من حيث أسبابها ومآلاتها.

لكن الفلسفة لا تدعو إلى القتل والحرب، ولا ترى قيمة أعلى من قيمة الفرد وأثمن. والحرية ليست شيئاً قائماً هناك، إنها الإنسان ذاته، فالسؤال من أثمن الحرية أم الإنسان يعني تصور الحرية بلا إنسان أو الإنسان بلا حرية.

قلت أنه لا يمكن فصل الإنسان عن حريته، ولكن: هل فعلاً الحرية أغلى من الارتباطات؛ لنقل ارتباط الأم بابنها مثلاً؟ وماذا تعني الحرية، لأم فطرت على ارتباط الحب وارتباطها الحسي به؟والأنا ما بين حدود السلطة والحرية؟

يعيش “الأنا” في أشكال متعددة من القمع، فأي سلطة بالمطلق هي قمع، وتحدد علاقة السلطات بالأنا بوصفها سلطة قامعة، وسأكشف هنا عن تعيينات القمع سلطوياً.

كل فرد يعيش تحت ما نسمية النظام المتعالي على الفرد، بمعنى أن الفرد خاضع له خضوعاً ما، وينطوي الفرد على نزعة تحرر من النظام المتعالي الذي سيطر على الأنا.
 إن عالم القيم هو نظام متعالي، وهذا نظام تكوّن تاريخياً، وهو يحاول منعي من تجاوزه، وإن تجاوزته لديه عقوبات معنوية وربما مادية. إذن نظام القيم بكل أشكالها في المجتمع التقليدي بخاصة هو قامع ويفترض الخضوع، مثلاً مفهوم العفة، مفهوم الشرف، مفهوم المقدس، الدين… الخ
ينشأ التناقض عندما يصل الفرد وتنمو لديه رغبة في التحرر من النظام المتعالي فيشعر بالحرية من هذا النظام المتعالي.
الدين نظام متعالي ولديه سلطة قوية ولديه أوامر أخلاقية وسلوكية، وانتمائي للدين ككائن يجعلني خاضع لهذا االنظام المتعالي الذي لديه وسيلة عقاب دنيوية ولاهوتية. لذا هو أخطر وأصعب من نظام القيم الذي لا يتكئ على أمر إلهي عند معتقديه. ايضاً عندما أشعر أن هذا النظام هو عبء على سلوكي أشعر بحريتي.
كل القيم المتعالية مترابطة بشكل نظام مترابط ولكن الفرد والأنا والذات مع التاريخ نشأ لديه نظام هو متعال وغير متعال اسمه النظام السياسي.
الدولة التي هي هيئة اعتبارية مادية قوية سنت القوانين للالتزام بها ولكنها هي سلطة. وتكون الدولة نظام متعال قمعي إن كان هناك تناقض بين المجتمع والدولة، فتصبح الدولة نظام قمعي للأنا بامتياز، ولن نفصل في هذا كثيراً فنحن نعيش تجربة الدولة القمعية بتفاصيلها.
إذن فكرة الحرية هنا لم تنشأ إلا من الشعور بنفي الحرية، والحرية شعور ينشأ من الواقع… ومن لا يشعر بعبوديته لا يشعر بحريته، فعندما يعي العبد أنه عبد تبدأ أول خطوة لوعي الحرية. وهيغل لديه في كتاب فينومنولوجيا الروح فصل اسمه “جدل العبد والسيد” وهو قبل ماركس يطرح نشأة العبد ونشأة السيد بوصفهما شخصين مختلفين بروح المغامرة وروح الحياة، فالعبد لم يغامر ورضي أن يكون عبداً أما السيد فرضي بأن يغامر فأصبح سيداً.

وفي تحليل هذه العلاقة أن السيد صار مدينا بحياته للعبد وواقعيا صار عبداً للعبد لأن حياته اصبحت مستحيلة بدون وجود العبد وعمل العبد، هذا نظرياً وديالكتيكياً. وبمجرد أن يعي العبد أن السيد مدين له بعبوديته، يبدأ شعور العبد بأنه ليس عبداً ويبدأ يشعر بالحرية. هيغل يقول: ليس التاريخ إلا مسار وعي الحرية لذاتها.

(اقتباس لهيغل من محاضرات في فلسفة التاريخ، سلسلة من المحاضرات أعطاها المؤلف في جامعة برلين ونشرت في عام1837)

وهو إذ يرصد مسار وعي الحرية عند الأمم الشرقية يرصد أنها تنطوي على فكرة السيد الأوحد. لذا خلق الشرقي الإله الواحد على شاكلة سيده، فكان الإله سيد، بينما التطور عند طبقة الأحرار عند اليونان والرومان أن الإله متعدد وبالتالي تعيين الحرية عندهم أوسع.
إذا تركنا الكلام المجرد للانتقال إلى تعيين وعي الحرية عربياً، فالاتكاء على ما تحدثت به حول العلاقة بين الأنا والنظام المتعالي… فالحرية بتعريفها هي زوال الهوة بين الأنا الظاهر والأنا المخفي، لأن النظام المتعالي يرغم الأنا الحقيقية على الاختفاء، فيظهر الأنا الكاذبة المتكيّفة مع متطلبات قمع القوة القهرية، فتختفي الأنا الأخرى الحقيقية التي تضيق بالقوة القمعية فتتخفى… وفي النظام الديكتاتوري فالأنا الحقيقية دائماً مخفية لأنه لا يمكن إظهار سوى أنا واحدة التي يريدها المستبد، وهي أنا كاذبة.
إذا كانت الحرية هي زوال الهوة بين الأنا الخفية والأنا الظاهرة، فكل سلطة قمعية تجبر الكائن على إخفاء ما يخاف منه. من هنا ارتباط الحرية بالخوف وارتباطها بالشجاعة. المجتمع الأوروبي مجتمع شجاع لأنه لا يوجد كذب لا يوجد خوف إلا بحدود، لا يوجد أنا ظاهرة وأنا مخفية.
لننتقل إلى التعيين … كيف وعينا نحن العرب فكرة الحرية؟ في القاموس العربي المعجم لا يوجد كلمة “حرية” بل يوجد كلمة “حر” وهي مقابل العبد. ولكن الحرية كمفهوم غير موجودة في القاموس… ولن نعود للتاريخ فالمجتمات عانت تحت نظام متعال، فكيف وعينا الحرية بوصفها خطاباً إيديولوجياً ولم ننتبه لخطورة وعي الحرية في خطابنا هذا إلا متأخرين… المهم أن نعي أهمية الخطاب في الإيديولوجيا …. خذوا الإيديولوجيا القومية فقد ربطت الحرية بفكرة “حرية الأمة” من آخر، من الاستعمار، فكرة الاستعمار ولّدت هذا المفهوم وهذه الطريقة في التفكير: “حرية العرب واستقلالهم عن الآخر”.
وحرية الأمة هذه تحتاج الطليعة الثورية التي تحقق حرية الأمة؛ الطليعة المتحررة بوعيها من الاستتباع للآخر. وبالتالي لم ينظر للكائن الفرد على أنه حر بذاته بوصفه فرداً، بل بارتباطه مع “الأمة الحرة” التي تحقق حريتها من سيطرة الآخر.
كل الإيديولوجيات الشمولية هي ضد الحرية الفردية، ولم تنتقل من حرية الأمة إلى حرية الفرد إطلاقاً. وبالعكس صار قمع الفرد مترابط بالدفاع عن حرية الأمة ومن مستلزماته، وبالتالي فقد الفرد حضوره الذاتي. إن انتقال الكائن إلى الذات أمر معقد.

من هنا تضيق حرية الفرد فصارت حرية للأمة، وكلما ضاقت حرية الأمة ضاقت حرية الفرد ولم يعد الفرد “ذات”. لذلك كل ايديولوجيا تتحدث عن الكل ينشأ الوعي القطيعي وليس الذات…
لكن القومية والماركسية هي ايديولوجيات دنيوية قابلة للتمرد عليها ورفضها وتحطيمها. ولكن إن ذهبنا للتيار الديني سنجد أن العبودية مطلقة لله المتعين بالنص وتفسير النص وشرحه وتأويله (…).
لا يوجد أعمق من شعار “الشعب يريد” لأنه مرتبط بالإرادة، فأن تريد يعني انت حر… ومن هنا العبودية هي سلب الإرادة، بينما الحرية هي تعيين الإرادة.

الآن ثمن الحرية الذي يدفعه البشر الذين “يريدون” مسألة لا تخضع  للموازنة بين العذابات التي يولدها الكفاح من أجل الحرية وثمن الحرية. لا شك بأن الأبن بالنسبة إلى أمه أهم من كل حريات العالم أجمع. لكن قرار الإبن لا يخضع لهذا الاعتبار .

شارك هذا المقال