6 دقائق قراءة

اللاجئون السوريون في لبنان: الاستسلام لليأس هرباً من الضغوط المتزايدة

إنّ "المفوضية قلقةٌ للغاية بشأن ارتفاع مستويات اليأس لدى اللاجئين"، مضيفةً إلى أنّ "حالات الاكتئاب، ومحاولات الانتحار وإيذاء النفس تزايدت بشدة في أوساط اللاجئين خلال الشهور الآخيرة في لبنان". 


18 فبراير 2021

تعلبايا- في فجر الخامس من نيسان/أبريل 2020، غادر بسام الحلاق منزله في قرية تعلبايا بوادي البقاع اللبناني، وأضرم النار في نفسه، ليفارق الحياة تاركاً ابنيه وأربعة أحفاد.

وسطياً، يُقدم شخصٌ في لبنان كل ثلاثة أيام على قتل نفسه، وفي كل ست ساعات يحاول أحدهم الانتحار، وفقاً لشيرين مكارم، مديرة الاتصالات في “احتضان” (Embrace)، وهو أول خط ساخن للدعم العاطفي والوقاية من الانتحار في لبنان. 

وكان الحلاق يجني قوت يومه من عمله في الإنشاءات بمدينة داريا في ريف دمشق. لكن منذ وصوله إلى لبنان، في العام 2014، وهو في الواحدة والخمسين، والتحاقه بزوجته وابنيه في وادي البقاع، قلما كان يجد عملاً.

ليست عائلة الحلاق سوى واحدة من العائلات السورية اللاجئة التي تُحذِّر إحصائيات الأمم المتحدة من أن نسبة 90% منها تعيش في فقر مدقع، بأجرٍ أقل من 308,728 ليرة لبنانية شهرياً (أي نحو 34 دولار أميركي وفقاً لسعر الصرف الحالي في السوق السوداء)، فضلاً عن أنهم مَدينون. في سياق ذلك ذكرت عائلة الحلاق أن الديون المتراكمة عليها تبلغ ألفي دولار.  

وتتفق سناء مع ابنيها هيثم وعبد الرحمن المتحلقين حول مدفأة المازوت (السولار)، التي تبثّ الدفء في غرفة جلوسهم الخالية من الأثاث، على أن الضغوط الهائلة كانت وراء استسلام بسام للموت، كما عبّروا لـ”سوريا على طول”. 

وذكر عبد الرحمن أن “الظروف المعيشية قاسية؛ فهو كان المعيل الوحيد للعائلة”. ليتابع هيثم “كان يتحمل ضغطاً نفسياً شديداً”. وصحيحٌ أن كلا الأخين يعملان في الإنشاءات، إلا أن العمل توقف في عام 2020. لذلك بحسب هيثم ” تدهور كل شيء”. من جهتها تتدخل سناء موافقة ما قيل “كان تحت وطأة ضغط شديد، ولم يستطع احتماله”. 

ولم يأت بسام قط على ذكر أي أفكار انتحارية تراوده. تستذكر سناء أنه “قبل أيام من وفاته، كان يتكلم بمرح، يمزح ويضحك، ويتسلى”. وحتى قبل يومين من انتحاره لم يلحظ هيثم أي تغير في تصرفاته “كان يُقبل أطفالي، وكنا نتناول العشاء معاً”. بابتسامة يعتريها الأسى، أضافت سناء “كان صاحب قلب طيب”. 

هيثم وعبد الرحمن يجلسان في منزلهم في تعلبايا، 04/02/2021، (سوريا على طول)

كانت العائلة المؤلفة من هيثم (27 عاماً) وأطفاله الثلاثة، وعبد الرحمن (25 عاماً) وطفله، وزوجتيهما ووالديهما يعيشون جميعاً تحت سقف واحد. ويوم انتحار كبير العائلة كانوا نياماً عندما اتصل ابن عمهم في الساعة السابعة صباحاً ليخبرهم ما حلّ بوالدهم.

نقلت سيارة الإسعاف بسام إلى مستشفى البقاع، وبعد أن تلقى الإسعافات الأولية فيه، طلب المستشفى من عائلته مبلغ مليوني ليرة لبنانية لنقله إلى مستشفىً آخر ومعالجة حروقه الشديدة. “كنا لا نملك المال من أجل الطعام، فمن أين لنا أن نأتي بمليوني ليرة؟” تساءلت سناء. 

لم تتمكن العائلة من جمع المبلغ، وفي الخامسة مساءً، علموا من الأطباء أن بسام مات متأثراً بجروحه. قال هيثم غاضباً “في المستشفى، لم يكونوا بشراً، شغلهم الشاغل هو المال”.  

ومع أن عائلة الحلاق من العائلات المسجلة لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ولا يملكون إقامة قانونية، حالهم كحال 69% من الأسر السورية في لبنان، إلا أنهم لم يتلقوا مساعدات نقدية من المفوضية سوى لثلاثة أشهر طيلة فترة إقامتهم في لبنان منذ ست سنوات، بحسب العائلة.

قبل انتحار بسام، ذهب رفقة زوجته سناء إلى مكتب مفوضية شؤون اللاجئين في زحلة. “أخبرناهم أننا لا نمتلك ما نؤمِّن به خبزنا، وطعامنا وإيجارنا. لكنهم أجابوا أننا غير مؤهلين لتلقي المساعدة”، قالت سناء.

ومنذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 174%، ومع تدهور قيمة العملة اللبنانية -التي يتم تداولها الآن بـ 8,500 لكل دولار في السوق الموازية، فيما يبلغ سعر الصرف الرسمي 1,500- تلاشت الطبقة الوسطى، وصارت الأسر ذات الدخل المنخفض في دائرة العوز والفاقة

وحتى بعد وفاة بسام لم تتلق عائلته أي دعم نقدي، سواء من مفوضية شؤون اللاجئين أو من جمعيات محلية. لكن أقاربهم تدخلوا وبادروا بالمساعدة، كما صار الأَخوان يترددان أحياناً  للعمل في مطعم شاورما يديره ابن عمهما. 

خلال ما ينوف على عام، شهدت لبنان احتجاجات شعبية وانهياراً اقتصادياً، وانفجار بيروت، إضافة إلى تفشي وباء كوفيد-19، كل ذلك فرض “عبئاً” على كثير ممن لم يعد بإمكانهم التحمل. في هذه الفترة تهافتت الاتصالات ” بشكل كبير” على الخط الساخن لـ”احتضان”،  كما قالت مكارم. 

ورغم أن هيثم”مرهق نفسياً، أعصابنا تنهار، ولا يمكننا أن نفعل شيئاً”، فإن العائلة لم تتلق أي نوع من العلاج أو الدعم النفسي، “لا نتلقى علاجاً نفسياً. إيماننا قوي” ردّ هيثم وعلامات الاستنكار بادية عليه كما شقيقه.

قالت سناء “وصلنا إلى هنا هرباً من الحرب. فقدنا كل شيء، فقدنا منازلنا، وحالنا من سيء إلى أسوأ، لا  راحة لنا”. في المقابل، العودة غير ممكنة إلى سوريا، إذ يخشى الأخَوان سوقهما للخدمة العسكرية، وسط هذه الظروف “لا نعلم ما يخبئه المستقبل لنا؛ نعيش يوماً بيوم”بحسب هيثم. وتبلغ ديون العائلة حالياً 1,400 دولار. 

“هكذا انتهى منفانا” ختمت سناء.

التهديد صار حقيقة

بعد ثمانية أشهر على فقدان عائلة الحلاق لبسام إثر انتحاره، تكررت القصة ذاتها. حينما أشعل اللاجئ السوري ماجد خليل الموسى النار بنفسه أمام مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2020. 

وامتنعت عائلة ماجد عن الحديث إلى “سوريا على طول”، ولكن خالد اليوسف، المتحدث باسم المشاركين في الاعتصامات التي نُظمت أمام مكتب مفوضية شؤون اللاجئين في بيروت للمطالبة بحقوق اللاجئين، تحدث بتفاصيل عن قصة ماجد.  

كانت ابنة ماجد، ذات الثالثة عشر عاماً، تعاني من ورم خبيث في صدرها وساقيها. وكافحت العائلة السورية لعدة أشهر في سبيل تغطية المفوضية لنفقات العملية الباهظة، والتي تقدر بنحو 54,000 دولار أميركي، وفقاً ليوسف. وفي يوم إجراء العملية، التي تقرر إجراؤها في المركز الطبي للجامعة الأمريكية في بيروت، أبلغت المفوضية العائلة بأنها لن تغطي تكاليف العملية.

على الفور هرع ماجد إلى مكاتب مفوضية شؤون اللاجئين وهدّد بإشعال النار بنفسه إذا لم يغطوا تكاليف العملية. 

بعد دقائق، نفذ تهديده و أشعل النار بنفسه، وتوفي بعد ستة أيام، وقد دفن في منبج شمال سوريا، فيما بعد بُترت ساق ابنته. المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، ليزا أبو خالد، امتنعت عن التحدث بشأن هذه القصة لـ “سوريا على طول”، قائلةً أنهم لا يمكنهم الخوض في تفاصيل “حالات فردية”.  

وذكرت أبو خالد أنّ “المفوضية قلقةٌ للغاية بشأن ارتفاع مستويات اليأس لدى اللاجئين”، مضيفةً إلى أنّ “حالات الاكتئاب، ومحاولات الانتحار وإيذاء النفس تزايدت بشدة في أوساط اللاجئين خلال الشهور الآخيرة في لبنان”. 

كيف نواجه الأفكار الانتحارية؟

يبلغ معدل الانتحار في لبنان 3.30% من كل 100,000 شخص، بحسب أرقام البنك الدولي في العام 2016. إلا أن مكارم لفتت إلى أن الكثير من حالات الانتحار لا يتم الإبلاغ عنها لـ “لأسباب دينية وقانونية واجتماعية”     

وأوضحت مكارم أن “واحداً من أصل أربعة في لبنان يختبرون إحدى المشاكل في الصحة النفسية خلال حياتهم، ولكن الكثيرون يرون أنّ الصحة العقلية من التابوهات [المحظورات]”. وتابعت “نحن بحاجة إلى تطبيع الحديث عن شؤون الصحة النفسية ليتسنى للناس الذهاب إلى المستشفيات العامة أو مراكز الصحة الأولية وطلب الدعم النفسي أو العلاج الطبي النفسي”. واستأنفت “في مجتمعاتنا، يصعب على الرجال خصوصاً التعبير عن ما يعتريهم من مشاكل صحية نفسية لأنّ الرجل يُفترض أن يكون صلباً”. 

وتتضمن بعض العلامات التحذيرية للأشخاص الذين تراودهم أفكار انتحارية الشعور بالوحدة وفقدان الأمل. “إذا لم يتطلعوا إلى أهداف محددة وفقدوا غايتهم في الحياة، إذا أدمنوا الكحول أو المخدرات، وإذا لم يتمكنوا من تنفيذ المهام اليومية البسيطة كالنهوض من الفراش والذهاب إلى العمل”. كذلك إذا أظهر الشخص تقلبات مزاجية، نوبات غضب حادة، أو تحدث باستمرار عن الموت، هذه جميعها إشارات تحذيرية ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار. وهناك علامات أكثر وضوحاً من قبيل “كتابة ما يشير إلى التخطيط  بإيذاء النفس، إرسال رسائل وداع أو التنازل عن مقتنياتهم لأحبابهم” بحسب مكارم.

وفي حال ظهرت هذه العلامات على سلوك أحدهم، نصحت مكارم المحاولة “بخلق مساحة آمنة وإخبارهم أننا موجودون للإصغاء لهم، لأن كل ما يحتاجه الناس أحياناً متنفس يعربون من خلاله عن ما يخالجهم من مشاعر”. وأضافت أنه ينبغي على ذلك الشخص الموجود إلى جانبهم تجنب إطلاق الأحكام عليهم؛ تجنب”إشعارهم بالذنب لأن لديهم مثل هذه الأفكار الانتحارية” أو “القفز مباشرةً لإعطائهم الحلول وماذا ينبغي أن يفعلوا”.

إذا كنت في مِحنة اتصل بالخط الساخن 1564 لـ Embrace Lebanon/ احتضان شريان الحياة في لبنان للوقاية من الانتحار. لمزيد من المعلومات حول العلامات التحذيرية وما يجب فعله حينما يبدو أن هنالك شخصٌ مقرب معرّض للخطر، انقر هنا

تم نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.

شارك هذا المقال

اذهب إلى الأعلى