8 دقائق قراءة

المبادرات الشعبية في درعا: نظام عاجز يستجدي جيوب الفقراء بـ”الفزعة”

خلقت مبادرات درعا "الأهلية" الرامية إلى تأمين الخدمات الأساسية جواً من التنافسية بين أبناء حوران. وفي الوقت ذاته حملت على عاتقها جانباً من مسؤوليات النظام "العاجز" عن تقديم الخدمات.


31 يناير 2023

باريس- في أواخر عام 2022، انطلقت عدة مبادرات أهلية في محافظة درعا، جنوب سوريا، تهدف إلى جمع تبرعات من الأهالي داخل سوريا وخارجها من أبناء المحافظة، بهدف تنفيذ بعض المشاريع الخدمية الأساسية، من قبيل حفر الآبار وإنارة الشوارع وترميم المدارس، وسط شبه غياب الدور الحكومي الخدمي.

رصدت “سوريا على طول” أكثر من 20 مبادرة في حوران، جمعت خلالها نحو 31 مليار ليرة سورية (4.5 مليون دولار أميركي بحسب سعر الصرف في السوق الموازية البالغ 6825 ليرة للدولار الواحد).

وتأتي هذه المبادرات وسط تفاقم الوضع المعيشي العام وتدهور الاقتصاد الرسمي للبلاد على نحو غير مسبوق. بلغت الموازنة العامة لهذا العام 16.5 تريليون ليرة سورية، بزيادة قدرها 24% عن عام 2022، لكنها في الواقع انخفضت أكثر من 30% عن العام الماضي، إذا ما احتسبت بالعملة المحلية، إذ بلغت موازنة العام الحالي 3.6 مليار دولار، مقارنة بـ 5.3 مليار و 6.8 مليار و 9 مليار دولار للأعوام 2022 و 2021 و 2020 على التوالي. وبلغ عجز الموازنة العامة لعام 2023 نحو 4860 مليار ليرة، مقارنة بـ 4118 مليار ليرة للعام الماضي.

وبدلاً أن تحمل الحكومة السورية مسؤولياتها لتحسين واقع البلاد، اكتفت بتصدّر المشهد، وتحويل مشهد “المبادرات الشعبية” إلى “عرس شعبي”، بحسب وصفها.

سد فراغ الدولة!

في اليوم السابع لحملة مدينة إنخل، شمال درعا، التي انطلقت في 23 كانون الثاني/ يناير الحالي، تمكن أبناء المدينة في الداخل والمهجر، من جمع نحو 2.2 مليار ليرة (329 ألف دولار)، من أصل ثلاثة مليارات (439 ألف دولار) تسعى المبادرة إلى جمعها، كما قال أحد أعضاء اللجنة الأهلية القائمة على المبادرة لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية.

ومن المقرر إنفاقها في حفر أربع آبار ارتوازية مزودة بألواح طاقة شمسية لضخ المياه، وتزويد بئرين سابقين بألواح الطاقة، وإصلاح أعطال الشبكة الأرضية الناقلة للمياه أو استبدالها إذا لزم الأمر وتوفر المال، كما قال العضو في اللجنة، مشيراً إلى أن تكلفة حفر البئر الارتوازية الواحد وتزويده بوحدة الطاقة الشمسية تبلغ 500 مليون ليرة (73 ألف دولار).

ومن المقرر أيضاً، شراء حافلتي ركاب كبيرتين ووضعهما في الخدمة، الأولى على طريق إنخل-مدينة درعا، والثانية من المدينة إلى العاصمة دمشق.

ويخصص جزء من المبلغ لترميم المدارس الحكومية في المدينة، وإنارة الشوارع الرئيسية بالطاقة الشمسية، وشراء المحروقات لتشغيل الجرارات المخصصة لنقل النفايات، التابعة للمجلس البلدي في المدينة، كما قال العضو في اللجنة.

وفي مدينة داعل، الواقعة على بعد 35 كيلومتراً، جنوب إنخل، جمع أبناؤها، عبر المبادرة التي بدأت في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2022، نحو 1.7 مليار ليرة (254 ألف دولار)، مخصصة لتزويد 14 بئراً ارتوازية بالطاقة الشمسية، تخدم نحو 52 ألف نسمة بمياه الشرب في المدينة.

وذهب جزء من المبلغ من أجل تشغيل مقسم الهاتف، لتوفير الاتصالات على مدار 24 ساعة، إضافة إلى إنارة 6 كيلومترات من شوارع المدينة بمصابيح تعمل على الطاقة الشمسية، كما قال مصدر مسؤول في مجلس مدينة داعل، التابع للنظام، طلب من “سوريا على طول”، عدم كشف هويته لأسباب أمنية.

حتى الآن، نجح القائمون على المبادرة في “تنفيذ مشروع الهاتف الآلي بمدة وجيزة قدرها خمسة أيام”، ويعملون حالياً على “إنجاز مشروع الآبار، الذي أنجز 85%منه”، وفقاً للمصدر.

وشهدت مدن وبلدات أخرى في محافظة درعا، من قبيل: الشيخ مسكين، والحراك، ونوى، مبادرات مماثلة، تستهدف قطاع الخدمات الأساسية من مياه الشرب، والهاتف، والنقل، وترميم المدارس، وإنارة الشوارع.

وقال العضو من لجنة إنخل، أن “هدف الحملة تخفيف الأعباء على سكان المدينة، فغالبية الناس في ضائقة مالية، وهم من أصحاب الدخل المحدود وعمال المياومة”، مشيراً إلى أن راتبه لقاء عمله كـ”موظف حكومي” 185 ألف ليرة (27.7 دولاراً)، وهو مبلغ لا يكفي لتأمين مياه الشرب، إذ يضطر صيفاً إلى دفع 70 ألف ليرة (10.4 دولارات) فوق راتبه لـ”تأمين مياه الشرب فقط”، كما أوضح.

يبلغ ثمن صهريج مياه الشرب الواحد 60 ألف ليرة (8.9 دولارات)، وتحتاج العائلة الواحدة إلى صهريجي مياه في فصل الشتاء و ضعفها في فصل الصيف، بحسب قوله.

يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، منهم 80% يعانون من انعدام الأمن الغذائي. ويبلغ متوسط راتب موظف القطاع العام والخاص 150 ألف ليرة تقريباً (22.4 دولاراً)، فيما يبلغ الحد الأدنى للأجور 92 ألف ليرة (13.7 دولاراً)، ولا تتناسب هذه الرواتب مع تكاليف المعيشة، إذ تحتاج عائلة مكونة من خمسة أفراد إلى أكثر من 3.5 مليون ليرة (524 دولاراً). 

رغم أهمية المبادرات الشعبية في التخفيف على المواطنين، إلا أنها “تصب في مصلحة النظام، لأننا نجمع المال ونقوم بواجباته”، من وجهة نظر أبو عبد المجيد، 29 عاماً، من أبناء مدينة إنخل ومقيم فيها، لافتاً في حديثه لـ”سوريا على طول”، أنه كان من الرافضين لمثل هذه المبادرات، “لكننا أجبرنا على ذلك لتحسين ظروف حياتنا، والآن هناك أشخاص ثقة يقومون عليها ويحاولون فعل شيء من أجل ذلك”.

النظام من خلف الكواليس!

عند إطلاق مبادرة إنخل، في 23 كانون الثاني/ يناير الحالي، ظهر عضو مجلس الشعب، فاروق حمادي، ورئيس مجلس مدينة إنخل السابق، ياسين الزامل، إلى جانب مجموعة من أعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي (الحاكم) ورجال دين ووجهاء من المدينة، في تسجيل مصور على “الفيسبوك”.

استاء الكثير من أهالي إنخل من وجود الشخصيات المحسوبة على النظام السوري وطالبوا بإبعاد تلك الشخصيات من أجل المشاركة في الحملة، كما أكد اثنان من أبناء المدينة لـ”سوريا على طول”، وهو ما يفسر ضعف الإقبال في الإيام الثلاث الأولى للمبادرة، بحسب رأيهما.

وعليه، استُبعدت البلدية والفرق الحزبية، ليقتصر دورهم على “الإشراف من بعيد”، وجرى “اختيار أعضاء اللجنة من وجهاء المدينة”، وفقاً للعضو من لجنة إنخل، مشدداً على أن “البلدية والفرق الحزبية ليس لها أي علاقة بجمع التبرعات وإيداعها في الصندوق”.

وبدورهم، حثّ خطباء المساجد الأهالي، في يوم الجمعة، على التبرع للحملة، وأكدوا على أن “الحملة لا تحمل أي أجندة، ولا تخدم طرف أو جهة معينة، وأنها مبادرة أهلية”، وفقاً لأبو عبد المجيد.

لكن، فيما نجح أهالي مدينة إنخل من تحجيم دور رجالات النظام في هذه المبادرات، ترأس رئيس مجلس مدينة داعل التابع للنظام، رياض برغوث، مبادرة المدينة. وبحسب المصدر من مجلس داعل، “حددت البلدية أولويات المواطن، وأجرت دراسة ميدانية للبحث في إمكانية التنسيق مع المجتمع المحلي”، لاحقاً عرض المجلس نتائج دراسته على محافظ درعا، لؤي خريطة، الذي “عبر عن سعادته، وقدم لنا التسهيلات اللازمة للبدء بتنفيذ المبادرة في المدينة”.

ومع ذلك، تبقى المبادرة “فزعة أهلية شعبية من المجتمع المحلي، هدفها تلبية الاحتياجات الأساسية للمدنيين، وتخفيف أعباء الحياة عليهم”، وفق المصدر، رغم أن تنفيذ المشاريع سيكون مشتركاً بين “مجلس مدينة داعل واللجنة الأهلية”.

وفي هذا السياق، كشف مصدر من مجلس محافظة درعا، التابع للنظام، عن وجود دور لمجلس المحافظة في “جمع وجهاء كافة العشائر في مدينة الشيخ مسكين، من أجل تشكيل اللجنة المشرفة على جمع التبرعات، من الوجهاء وأعضاء البلدية في المدينة”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن هويته لدواع أمنية.

إضافة إلى ذلك: “ساهم المجلس في تأمين كافة مستلزمات اللجنة، والترويج للحملة إعلامياً، عبر تشكيل فريق إعلامي، لنقل عملية التبرعات وتحفيز الأهالي عبر مواقع التواصل الاجتماعي”. أما فيما يخص تنفيذ المشاريع، ستتولى “لجنة العمل الشعبي [اللجنة الأهلية] مهمة التنفيذ، بإشراف مجلس المدينة والفرق الحزبية”، بحسب المصدر.

خوفٌ أم فزعة؟

تبرع أبو عبد المجيد بمبلغ 100 ألف ليرة سورية (14.6 دولار) للحملة الأهلية في مدينة إنخل، في حين يبلغ راتبه الشهري 250 ألف ليرة. دفعه ذلك “الخوف من أي ملاحقة قد يقوم بها النظام للذين لم يشاركوا في الحملة”.

جاء خوف أبو عبد المجيد، على خلفية انتشار أخبار مفادها أنه “يتم تسجيل أسماء المتبرعين، ومن لم يشارك سيتعرض لملاحقةٍ من النظام”، وهو ما أكده مصدران آخران من أبناء المدينة لـ”سوريا على طول”.

لكن العضو في لجنة إنخل، نفى تلك الشائعات، مؤكداً أن “القوائم الخاصة بأسماء المتبرعين هي بغرض التوثيق والشفافية، ويجري نشرها لهذا الغرض”، مشدداً على أن المبادرة “تستهدف جمع التبرعات من المستطيعين فقط”.

بعيداً عن المستجيبين خوفاً من الملاحقة، خلقت هذه المبادرات وما رافقها من “نداءات الفزعة” جواً من التنافسية بين أبناء حوران، التي تشكل العشائرية الجزء الأكبر منه. ففي إنخل، “تشهد المدينة تنافساً بين العائلات من أجل التبرع”، كما قال أبو محمد، 28 عاماً، لـ”سوريا على طول”.

لا يختلف المشهد في إنخل عن مدينة داعل، التي شهدت أيضاً “سباقاً في فعل الخير والتبرع بين الأهالي”، وفقاً لأحد أعضاء اللجنة الأهلية في المدينة، لافتاً إلى أن “التنافس” تطور ليشمل المدن والبلدات “أيها تجمع أكثر”.

ملكية تحت تصرف البلديات!

في إطار المساهمة لصالح المبادرات التي تشهدها محافظة درعا، تبرع بعض الأشخاص بأراض لحفر الآبار الارتوازية فيها وتثبيت ألواح الطاقة الشمسية الخاصة بها، وهو ما تسبب بخلاف بين بعض العائلات على ملكية البئر لاحقاً والحي الذي سوف يخدمه، أو أن تُعطى الأولوية للحي الذي حُفر فيه على حساب الأحياء الأخرى.

مثال ذلك، ما حدث في إنخل، التي شهدت خلافاً بين بعض العائلات حول مكان البئر، وتخوف بعض العائلات من أن تتحكم العائلات الكبيرة في المدينة فيها، كما قال أبو عبد المجيد وأبو محمد، المقيمان في المدينة، وهو ما دفع عائلتين إلى جمع أموال كل عائلة على حده، وحفر بئر خاصة بها.

خروجاً من هذا الخلاف، قررت اللجنة الأهلية في إنخل “حفر الآبار في أراض تعود ملكيتها للدولة، وأن يبقى خيار حفر الآبار في الأراضي الخاصة التي تبرع أصحابها بها الحل الأخير”، وفقاً للعضو من اللجنة الأهلية.

وتعهد عضو مجلس الشعب، فاروق حمادي، بـ”تقديم المساعدات اللازمة لتسيير المعاملات القانونية المتعلقة بملكية الأرض، بحكم منصبه ونفوذه”، وفقاً لعضو اللجنة في إنخل، أما بالنسبة للمعدات والمواد التي يتم شراؤها “ستصبح ملكاً للبلدية”، على حد قوله.

علق أبو محمد متهكماً: “نخشى أن تقوم البلدية ببيع ألواح الطاقة الشمسية في مزاد بعد مدة قصيرة، تحت ذريعة عدم كفاءتها أو نتيجة وجود أعطال فيها، كما فعلت مع ألواح الطاقة الشمسية والمعدات التي كانت في المشفى الميداني”. لم تتمكن “سوريا على طول” التأكد من صحة ادعائه.

أما بالنسبة لمدينة داعل، ستكون ملكية الآبار والأراضي الواقعة فيها “لوحدة المياه في المدينة، بينما ألواح الطاقة الشمسية وملحقاتها ملكاً لمجلس المدينة، الذي يمكنه التصرف بها حسب احتياجات المدينة ومن دون الرجوع لوحدة المياه”، وفق المصدر المسؤول من مجلس مدينة داعل.

الخدمات ليست أولوية النظام!

تعد الموازنة العامة لعام 2023، هي الأصغر منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، وتظهر الموازنة انخفاض المبلغ المخصص للدعم، مثل دعم المحروقات والقمح بالدرجة الأولى، بمقدار 40%، في حال أخذ التضخم بعين الاعتبار، كما قال الدكتور كرم شعار، مدير البرنامج السوري في مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية لـ”سوريا على طول”.

وتركز الموازنات السورية بشكل عام منذ بداية الثورة على “الإنفاق الجاري وليس الاستثماري، بمعنى تشغيل المنشآت العامة ودفع أجور الموظفين وليس الاستثمار بمجالات جديدة مثل بناء محطات توليد كهرباء أو حفر آبار”، وفقاً لشعار.

ففي عام 2010 بلغ الإنفاق الاستثماري، ما يقارب نصف الموازنة العامة، بينما حالياً بلغ أقل من 20% من حجم الموازنة العامة، التي انخفضت أساساً مقارنة بالعام 2010، وهو ما يعكس “توجه الحكومة لتغطية النفقات الأساسية والتركيز على الإنفاق الجاري بسبب حالة العوز الشديد التي تعانيها”، بحسب شعار.

من جهته، قال الباحث الاقتصادي في مركز عمران للدراسات، ومقره تركيا، مناف قومان، أن موازنة عام 2023، “تعد أكثر موازنة تخفيضاً لاعتمادات البند الاجتماعي، إثر تراجعها إلى 0.94 مليار دولار مقارنة بـ 1.68 مليار دولار في عام 2022، حيث انخفضت حصة الدعم الاجتماعي إلى 4,927 مليار العام الحالي مقارنة بـ 5,529 مليار ليرة في موازنة 2022”.

وأكد قومان في حديثه لـ”سوريا على طول” على أن موازنة عام 2023 “تنبئ باستمرار مسار الأزمة الاقتصادية، وأن النظام غير قادر على تأمين الخدمات الأساسية للسكان في ظل الظروف الحالية”.

لذلك، من المتوقع أن يكون لهذه المبادرات “دور حاسم في توفير الخدمات الأساسية، من قبيل توفير المياه والكهرباء”. لكن المشكلة تكمن في أن “ما بعد المبادرات سيكون أصعب مما قبلها، لأنه يتعين على الأهالي إدارة الخدمة وجعلها مستدامة”، إضافة إلى “حل أي نزاع قد يقع بين الأهالي بسبب الخدمة، وإطلاق مبادرات جديدة لتوفير خدمات أخرى”، وفقاً لقومان.

وختم قومان: “يركز النظام كلياً على بقائه في الحكم وليس على الدور الخدمي المنوط به”، مستنداً في ذلك على “القوانين والقرارات والموازنات التي أقرّها خلال الأعوام الماضية”.

شارك هذا المقال