7 دقائق قراءة

بآماله وعثراته: الحراك النسوي السوري يختزل مراحل الثورة في سنواتها العشر

كثيرات دفعن حياتهن ثمناً لإيمانهن بالثورة، واعتقل أخريات وانتهكت حقوقهن، بعد أن كسرن تابوهات كانت محرمة عليهن في مجتمعهن وتجاوزن الخطوط الحمراء بشجاعتهن وحماسهن للتغيير


28 فبراير 2021

عمان- رزان زيتونة، سميرة الخليل، مي سكاف، فدوى سليمان… بعض من نساء لا تكاد تُذكر الثورة السورية على امتداد سنواتها العشر إلا ويذكرن وأخريات معها؛ ناشطات وإعلاميات ومعلمات وطبيبات وممرضات ميدانيات وحتى مقاتلات بعد أن أصر نظام بشار الأسد على عسكرة التظاهرات السلمية المطالبة بالحرية وتحويلها إلى حرب ضد الشعب ككل. 

ولم تأت تلك المشاركات النسوية في الثورة السورية “من لاشيء”، كما تقول الناشطة الحقوقية المقيمة في لبنان ياسمين شربجي، المنسقة في حركة عائلات من أجل الحرية، بل جاءت بعد أعوام عمد خلالها نظام الأسد إلى فرض “الاستبداد السياسي” و”اعتقال النساء المثقفات المطالبات بالتوعية لحقوق أقرانهن”. يضاف إلى ذلك ما كانت تعانيه المرأة قبل العام 2011 من “استبداد اجتماعي [تجسده] عادات وتقاليد تؤطر عمل المرأة بعنايتها بزوجها وأطفالها، واستبداد ديني هو الفهم الخاطئ للدين بقوامة الرجل على المرأة حتى وإن أبرحها ضرباً. كما استبداد اقتصادي يتمثل في [منعها حقها] في العمل خارج المنزل والحصول على دخل مستقل لها”.

وإذ “دفعت كثيرات حياتهن ثمناً لإيمانهن بالثورة، واعتقلت أخريات وانتهكت حقوقهن، بعد أن كسرن تابوهات كانت محرمة عليهن في مجتمعهن وتجاوزن الخطوط الحمراء بشجاعتهن وحماسهن للتغيير”، كما تقول الباحثة والمدربة في مجال حقوق المرأة، علياء أحمد، المقيمة حالياً في ألمانيا، فإن ذلك قد أدى إلى “تشكيل نوع من المجتمع الموازي الذي قد يكون صغيراً نسبياً، إلا أنه شكّل تحدياً للمجتمع البطريركي [الذكوري] القابض على مفاصل كثيرة من حيوات النساء”.

لكن مسيرة النساء ودورهن خلال العقد الماضي تعكس أيضاً مسيرة الثورة، بدءاً من فرض تحولها من السلمية إلى العسكرة، ثم ظهور مناطق النفوذ مختلفة يسيطر عليها فاعلون دوليون وإقليميون ومحليون، وبروز التنظيمات المتطرفة من قبيل تنظيم “داعش” و”هيئة تحرير الشام”. إذ أرخى كل ذلك بظلاله الثقيلة على الحراك النسوي السوري، فلم يكن في معظم تمثيلاته مستقلاً عن الانحيازات السياسية التي تخضع في كثير من الأحيان لأيديولوجيات سلطات الأمر الواقع المسيطرة على الأرض.

بين التشظي وأزمة الأولويات

بشكل عام، فإن الحراك النسوي السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق “لم يستطع حتى الآن بلورة هويته ورؤيته لمختلف القضايا من منظور نسوي”، برأي علياء أحمد، إذ “ما يزال يعاني تشظياً وانقساماً، فضلاً عن التناقضات والفجوة ما بين الشعارات والطروحات النظرية من جهة والممارسات العملية من جهة أخرى”. موضحة أنه “أصبحنا نشهد تجمعات نسوية واقعية وافتراضية مغلقة تطرح شعارات براقة، لكنها في سلوكياتها وتفاعلاتها تتماهى مع العقليات البطريركية الإقصائية الرافضة للاختلاف، ما يدفع أحياناً نساء اقتربن من هذه الأجسام النسوية أو تعاملن مع ممثلاتها إلى رفض مصطلح الفكر النسوي وطروحاته والنظر إليه بوصفه ادعاء لا أساس له، ومجرد عمل وباب للرزق”.

في السياق ذاته، ورغم اعتبارها أن نشأة المنظمات النسوية كانت “مبشرة”، ترى شربجي أن هذه المنظمات “تفتقد التشاركية” بشكل عام، إذ “كثيراً ما نرى عدة منظمات نسوية في المنطقة ذاتها تطرح المشاريع نفسها لتمكين المرأة، [بدل] أن يتم الاتفاق فيما بينها على تنفيذ مشاريع مختلفة تفضي فعلاً إلى تمكن المرأة في أكثر من مجال”.

ترتبط بذلك مشكلة أخرى هي “أجندات التمويل التي لا تتفهم فعلياً متطلبات النساء والتهميش الذي تعانين منه منذ عقود”، كما تلفت إلهام محمد (اسم مستعار)، الناشطة في مجال تمكين المرأة بإدلب، والتي فضلت عدم ذكر اسمها. مضيفة أن “الحاجيات الأساسية للمعيشة لدى الكثيرات من النساء ما تزال غير مؤمنة، فكيف سنستطيع تمكينها من حقوقها فيما لم تؤمّن لها أقل حقوقها في المعيشة؟”.

ولا تقتصر مشكلة “التمويل” على الداخل السوري، بل تمتد إلى بعض بلدان اللجوء مثل لبنان، حيث “غالباً ما تفرض الجهات الممولة ورش عمل تتحدث عن نتائج زواج القاصرات”، كما توضح شربجي، “والمرأة السورية في هذه الحالة تقول: كيف لي ألا أزوّج ابنتي وأنا لا أستطيع الإنفاق عليها؟”.

بيئات مختلفة.. حقوق مختلفة

 كل ما سبق يتضافر مع تحكم التنظيمات المتشددة بالنساء في عدة مناطق آخرها إدلب، ما أفضى “إلى تراجع مكتسبات النساء” في تلك المناطق، تقول شربجي. وهو ما تؤكده أيضاً إلهام محمد. إذ رغم “الدور الفعال” للفكر النسوي ومؤسساته التي انطلقت بعد الثورة “في تجنيد النساء وتمكينهن بأدوات يستطعن من خلالها المطالبة بحقوقهن”، برأي محمد، فإنه ما يزال “تمكيناً خجولاً” لعدة اعتبارات، منها “أمنية تتعلق بسيطرة هيئة تحرير الشام على المنطقة”، إضافة تلك المتعلقة بالتمويل والعقلية والممارسات “الذكورية التي ما تزال سائدة في مجتمعتنا”. 

وقد ظهرت خلال الثورة السورية عدة هيئات نسوية تسعى لتمكين المرأة في شمال غرب سوريا، منها منظمة بارقة أمل التي تنشط في مدينة إدلب منذ العام 2015، وتجمع المرأة السورية في العام 2017  بمدينتي الباب وأعزاز بريف إدلب، ورابطة نساء الشمال السوري التي تنشط في جبل الزاوية منذ العام 2017، ومركز النساء الآن- معرة النعمان الذي افتتح منذ العام 2014، وفريق سما التطوعي.

على الطرف الآخر، يفترض أن تقدم مناطق شمال شرق سوريا الخاضعة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) نموذجاً مغايراً لذلك الموجود في شمال غرب البلاد، لاسيما مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام. إذ تمتع المرأة في المنطقة ذات الغالبية الكردية بحيّز واسع نسبياً من المشاركة في المؤسسات التي تديرها الإدارة الذاتية، بعد تطبيق الأخيرة نظام الرئاسة المشتركة منذ تأسيسها منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2013، بحيث تشغل المرأة 50% على الأقل في جميع الهيئات والمؤسسات الرسمية والمجتمعية، التي تضم في مجملها هيئات خاصة بالنساء، ولجاناً نسائية، ووجود تشريعات تهدف لحماية المرأة. 

رغم ذلك، فإن هذا لا ينعكس بالضرورة على  في مجالات الحياة المختلفة. إذ إن “القوانين منقوصة لغاية الآن؛ إذا لم يكن من ناحية النص فمن ناحية التنفيذ”، كما ذهب غاندي سفر، مدير مركز آريدو للمجتمع المدني والديمقراطية، بمدينة القامشلي شمال شرق سوريا، في تصريح سابق لـ”سوريا على طول”، و”كثير من النساء يخفن من عرض مشاكلهن على القضاء”.

في المقابل، يبدو أن المرأة السورية استطاعت أن “تتطور بشكل أفضل وتحقق إنجازات أعلى” في البلدان الأوروبية، برأي شربجي، لأنها “نفضت عنها غبار الذكورية الذي يعتمد مبدأ ما يحق [للذكر] ما لا يحق للأنثى، واستطاعت معرفة حقوقها وواجباتها وتأكيد ذاتها، وأصبحت عنصراً فعالاً في بيئتها، وتدير واجباتها كأم وأب في الوقت نفسه”. عازية ذلك إلى “البيئة الجديدة التي تقيم فيها بعيداً عن العادات والتقاليد، والبيئة الآمنة المتاحة لها معيشياً”.

ومن بين المنظمات النسوية الناشطة في بلدان اللجوء منظمة معاً لصنع القرار التي بدأت نشاطها في تركيا العام 2016 للاهتمام بشؤون المرأة والأسرة في المجالات كافة، والحركة النسوية السياسية السورية التي تأسست في العام 2017 في باريس، وشبكة المرأة السورية التي تأسست في السويد العام 2013،  ورابطة المرأة السورية-تركيا التي تأسست العام 2015.

العمل السياسي النسوي

بعد 11 شهراً من تعيينها نهاية العام 2019 في مجلس محلي إدلب التابع لما يسمى “حكومة الانقاذ” الخاضعة لهيئة تحرير الشام، قررت أمينة الأحمد مغادرة موقعها في مكتب المرأة بالمجلس، لا نهاية العام 2019، 

  أما من الناحية السياسية فإن “تمثيل النساء لا يزال في تراجع ضمن المجالس المحلية التي تحكمها هيئة تحرير الشام”، بحسب ما قالت أمينة الأحمد لـ”سوريا على طول”، “بسبب سلطوية الذكور فيه على الإناث حتى في إبداء الآراء”، كما تقول لـ”سوريا على طول”، الأمر الذي يعود بدوره إلى “السياسات العسكرية وآلية التفكير التقليدية لاستلام الإناث أي منصب سياسي أو إداري”.

في حالة منى محمد التي كانت عضوة في مجلس محلي مدينة الرقة التابع الإدارة الذاتية، فإن اضطرارها إلى “ترك العمل والجلوس في المنزل”، كان سببه العشيرة، كما توضح لـ”سوريا على طول”. ففيما منحت الإدارة الذاتية المرأة في شمال شرق سوريا “حقوقاً لنا لم نكن نحلم بها في زمن داعش”، فإن العشائرية “تقيّد عمل المرأة ككل وليس فقط في الجانب السياسي”، كما تضيف. 

أما على صعيد التمثيل السياسي للنساء في الهيئات التي يفترض أن تمثل الثورة وتتحدث باسمها، فإن هذا التمثيل لا يزال “يتبع منحى خجولاً بحجة قلة الكفاءات”، برأي شربجي. معتبرة أنه “بالرغم من وجود الكثير من النساء السياسيات القادرات على استلام دفة القيادة، إلا أنهم [الذكور] لا يريدون لها أن تدخل المعترك السياسي كي لا تناضل من أجل حقوق المرأة”.

يمتد هذا الواقع إلى الأحزاب أيضاً، كما ترى أمينة الأحمد، حيث “تمثيل المرأة في الأحزاب والأجسام السياسية التي تشكلت بعد الثورة ناقص”. مؤكدة بدورها على أن من أسباب ذلك “سيطرة الفكر الذكوري، والاستخفاف بقدرات النساء في مواقع بعيدة عن الصورة النمطية”، كما “لا يطيب لكثيرين وجود نساء أنداد لهم في مواقع صنع القرار”.

أيّ مستقبل؟

إضافة إلى تمثيل المرأة في مؤسسات الإدارة الذاتية، والتعديلات التشريعية المتعلقة بنساء شمال شرق سوريا، فقد كان للعديد من المؤسسات النسوية التي نشأت شمال غرب سوريا أيضاً “دور في تأهيل بعض النساء للدخول في سوق العمل، خاصة مع فقدان الكثيرات منهن للمعيل”، بحسب محمد. معتبرة أن هذه المؤسسات أحدثت “إنجازاً كبيراً ضمن الإمكانات المتاحة، لأنه بتحقيق الاكتفاء المادي للمرأة تتوسع مداركها أكثر للتفكير بنفسها وتمكين ذاتها بمجالات أخرى علمية وثقافية، كتعلم اللغات واستخدام الحاسوب، ومن ثم تدريب أخريات”. 

مع ذلك، تؤكد محمد أن أعداد النساء المستفيدات من برامج التمكين “لا تذكر مقارنة بالأعداد الهائلة للنساء التي تحتاج عملاً”، وفوق ذلك :

“لا نزال حتى اليوم نعاني من نظرة الرجال بسخف لعمل المرأة، على الرغم من أنني قابلت نساء فاقدات للمعيل، يعملن خارج المنزل وداخله بطاقة لا يقدر على تحملها أي رجل، ولكنها العادات المقيتة لا تزال تحكمنا للأسف”.

أما شربجي فترى أن للحراك النسوي “وجه جميل”، لكن “لا يزال تفعيله غير واضح”. لافتة إلى وجود رجال خرجوا خلال الثورة يناصرون حقوق المرأة، لكن “لا تزال أصواتهم قليلة، وما يزال كثيرون يعتقدون أن صوت المرأة عورة، وأنه يجب حبسها، خوفاً منها لا عليها”.

في المقابل، فإن “ممثلات النسوية من ناشطات ومنظمات”، برأي علياء أحمد، “لم ينجحن بعد بالوصول إلى الفئة المستهدفة على أرض الواقع، فالطروحات النسوية عموما تقتصر على منصات إعلامية بعيدة عن اهتمامات ومنظور غالبية أفراد المجتمع ولا شعبية لها تذكر”. مستدركة بأن “الحراك النسوي السوري يحبو خطواته الأولى، ومن الظلم البدء في تقييم إنجازاته منذ الآن. فالعقبات كثيرة وأهمها الوضع السياسي الراهن والتشرذم بين الداخل والخارج، والمناطق المنقسمة تحت رايات سياسية مختلفة في سوريا”، و”النساء يتعلمن الآن تنظيم أنفسهن وترتيب أوراقهن، والعمل المشترك ضمن ظروف صعبة ومعقدة للغاية، ويسعين لوضع رؤية نسوية عامة تضم في طياتها الهويات النسوية المتعددة والمتشرذمة نتيجة تأثرها بالأيديولوجيات والصراعات السياسية وعمل الأحزاب، كما تلعب التمويلات ومصادرها دوراً في آلية عمل المنظمات النسوية ووضع سياساتها”.

تم إنجاز هذا التقرير بالتعاون مع مؤسسة فريدريش إيبرت.

شارك هذا المقال