8 دقائق قراءة

بعد حادثة جنديرس: “ورقة الأقليات” بوابة الجولاني للتوسع شمال غرب سوريا

تدخل هيئة تحرير الشام في قضية مقتل الشبان الكرد بجنديرس، ومن قبله مناصرتها لفصائل من الجيش الوطني، يؤكد مساعي الجولاني في التوسع بريف حلب، ويترك سؤالاً: هل يحاول الجولاني استغلال ورقة الأقليات الدينية والعرقية؟


7 أبريل 2023

باريس- بعد ساعات على مقتل خمسة مدنيين كُرد، في مدينة جنديرس بريف عفرين شمال حلب، على يد عناصر من الجيش الوطني السوري (المعارض) المدعوم من أنقرة، على خلفية إشعال الضحايا شعلة عيد النوروز، في 21 آذار/ مارس الماضي، اتجه ذوو الضحايا إلى مدينة أطمة القريبة، الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام، طلباً للحماية ومحاسبة المجرمين.

سارع أبو محمد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام وقياديين آخرين إلى الاجتماع مع أهالي مدينة جنديرس “الكرد”، بعد هتافهم في أطمة “بدنا الهيئة”، متعهداً بأن “هذا آخر يوم تتعرّضون فيه لاعتداء”، وأنهم سيعودون إلى بيوتهم “معززين مكرمين”، على حد قوله، كما أظهر تسجيل مصور. في صبيحة اليوم التالي، انتشرت الهيئة في شوارع جنديرس، وسيطرت على المقار العسكرية التابعة للشرطة العسكرية وجيش الشرقية، المنضوي تحت الجيش الوطني، وهو الفصيل الذي ينتمي إليه المتهمون بقتل الشبان الكُرد.

تدخل الجولاني في المنطقة الواقعة خارج نطاق نفوذه للمرة الثانية، بعد دعم فصيله لفرقتي السلطان سليمان شاه (العمشات) وفرقة الحمزة (الحمزات)، التابعتين للجيش الوطني في مواجهة الفيلق الثالث، في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، على خلفية هجوم الأخير ضد الفصيلين لتورطهما باغتيال ناشط إعلامي في مدينة الباب، يؤكد مساعيه في التوسع بريف حلب الشمالي، مستغلاً عدم وجود حزم تركي للتعامل مع طموحاته، ويفتح الباب أم سؤال: هل يحاول الجولاني استغلال ورقة الأقليات الدينية والعرقية؟

الأتراك يقطعون الطريق على الجولاني

بعد أيام من دخول هيئة تحرير الشام إلى جنديرس، انسحبت منها تحت ضغط من الجيش التركي، وهي المرة الثانية التي تُجبر فيها الهيئة على الانسحاب من مناطق نفوذ أنقرة، في عفرين وريفها (غصن الزيتون)، وريف حلب الشمالي (درع الفرات).

إذ بعد أيام من تدخلها لصالح “العمشات” و”الحمزات”، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، واستيلائها على غالبية مناطق سيطرة الجيش الوطني في ريف حلب الشمالي، خاصة عفرين، وترويجها إلى أن المنطقة خدمياً صارت تحت إدارتها، انسحبت الهيئة بضغط تركي آنذاك.

رغم انسحابها الأخير، بعد تدخلها على خلفية مقتل الشبان الكُرد، احتفظت “تحرير الشام”، كما المرة الأولى، بتواجدها الأمني وغير المباشر، أو تحت مظلة فصائل أخرى من الجيش الوطني موالية لها، من قبيل “العمشات” وغيرها، كما أكدت ثلاثة مصادر عسكرية ومدنية لـ”سوريا على طول”.

وفي هذا السياق، قال قيادي من الشرطة العسكرية في عفرين لـ”سوريا على طول”، أن “تحرير الشام زادت عدد عناصرها الأمنية في المنطقة، بعدما أدخلت تعزيزات جديدة في أعقاب حادثة جنديرس”، مؤكداً أن “التعزيزات الجديدة والسابقة تتواجد في مقرات تابعة لفصائل عسكرية محسوبة على تيار تحرير الشام، مثل أحرار الشام والعمشات وتجمع الشهباء وغيرها”.

وكشف القيادي، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، عن أن “العناصر الأمنية [للهيئة في المنطقة] تُحضر للحظة حاسمة”، متوقعاً أن “يضع الجولاني الجميع: الأتراك والجيش الوطني الحكومة المؤقتة تحت أمر واقع ويعلن دمج الحكومتين والجيش الوطني بمؤسسته العسكرية”. 

اقرأ أكثر: المصالح فوق الإيديولوجيا: هل تفسد أنقرة مساعي الجولاني في مشروعه التوسعي بحلب؟
ورقة الأقليات!

في أواخر آب/ أغسطس الماضي، افتتح أهالي قرية اليعقوبية في منطقة جسر الشغور غرب إدلب، الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، كنيسة “القديسة آنا”، وأقاموا طقوساً دينية لأول مرة منذ قرابة العشر سنوات. 

وفي حزيران/ يونيو، ظهر الجولاني رفقة عدد من قادة الهيئة ومسؤولين في حكومة الإنقاذ، الواجهة المدنية لتحرير الشام، في منطقة جبل السماق بريف إدلب، التي يقطنها غالبية درزية، أثناء افتتاح بئر ماء تغذي المنطقة. أثناء الافتتاح التقى الجولاني عدداً من الوجهاء الدروز ووعدهم بتكثيف الجهود للنهوض بالواقع الخدمي وتحسين المرافق العامة في المنطقة.

ظهور الجولاني هذا أثار موجة غضب واسعة من قبل التيارات الجهادية المتشددة في الهيئة والتيارات المنشقة عنها، من قبيل القيادي السابق في تحرير الشام أبو العلاء الشامي، الذي قال في تدوينه له على “تلغرام”: “يدخل المتحول الجولاني من باب الأقليات متاجراً ومتسولاً على عتبات المخابرات الغربية، وهو باب واسع يشحذ منه المستبدون والطغاة حديثاً لأخذ القبول والرضا الخارجي”.

وكانت مناطق “تحرير الشام” شهدت، في مطلع عام 2021، احتفال  بقايا المسيحيين بأعياد الميلاد، وجاءت تلك الاحتفالات بعد سنوات من توقفهم عن ممارسة طقوسهم الدينية في المنطقة، أو حرمانهم منها.

رغم الانتقادات الموجهة للجولاني، إلا أنه ماضٍ في نهجه باستغلال الأقليات الدينية والعرقية لتلميع صورته، كما قال باحث سوري مقيم في تركيا، لـ”سوريا على طول” شريطة عدم كشف هويته، مشيراً إلى أنه “حاول سابقاً مع الدروز والمسيحيين في إدلب والساحل، والآن الأكراد”.

العزف على وتر الأقليات “لا يعني تغيّر عقلية الجولاني تجاه الأقليات، إنما تغير في سياسته فقط”، بحسب الباحث، وهي لا تعدو أكثر من “محاولة استغلال هذا الملف، وتأتي ضمن إطار محاولته الظهور بصورة جديدة”.

تعليقاً على ذلك، اعتبر محمد الحلبي (اسم مستعار)، صحفي يقيم في ريف عفرين، أن هتاف أهالي جنديرس الأخير لصالح الجولاني، بعد مقتل شبّان منهم، صبّ في مصلحة قائد تحرير الشام، “وهو ما أراده لتحقيق سياسته في استغلال ورقة الأقليات، التي يعمل عليها منذ فترة طويلة”.

وأضاف الحلبي في حديثه لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن اسمه الحقيقي لأسباب أمنية: “نتعرض نحن العرب في عفرين لانتهاكات من قبل الجيش الوطني، كما الأكراد، لكن الجولاني هبَّ لنصرة الأكراد فقط كونهم أقلية عرقية، وهو يحاول استغلال ذلك”.

خريطة السيطرة شمال غرب سوريا، 7 نيسان/ أبريل 2023 (سوريا على طول)

هل يحظى الجولاني بقبول شعبي؟

“نريد أي طرف ثالث يخلصنا من ظلم وانتهاكات الفصائل، ويوقف الجرائم الواقعة بحقنا”، قالت أم محمد، 29 عاماً، مواطنة كردية تقيم في مدينة جنديرس، وتعمل متطوعة في إحدى المنظمات الإنسانية بالمدينة.

وأضافت لـ”سوريا على طول”: “أبو محمد الجولاني ليس خياراً مثالياً لنا، نظراً لسجل انتهاكاته الطويل في إدلب”، لكنه “أفضل” مقارنة بفصائل الجيش الوطني في ريف حلب، المدعومة من تركيا، “لديه مؤسسات أمنية وخدمية وقضائية حقيقية”، معتبرة أنه “لا أحد يقترب منك” في مناطق الهيئة “ما لم تتجاوز الخطوط الحمراء”.

واتفق الصحفي خالد الخطيب، المقيم في ريف حلب الشمالي، مع ذلك، مؤكداً أن “الناس العوام، لاسيما الذين تعرضوا لانتهاكات من قبل فصائل الجيش الوطني في عفرين، يرحبون بأي جهة تأخد حقهم وتخلصهم من الظلم”، كما قال لـ”سوريا على طول”، وهذا لا ينطبق على كل مناطق سيطرة الجيش الوطني. في منطقة “درع الفرات” “هناك وعي أكبر لخطورة الجولاني، وأن دخول تحرير الشام يعني وصم المنطقة بالسواد”، على حد قوله.

مطالبة الكُرد بتدخل الهيئة “يعبّر عن المزاج العام الشعبي في عفرين، عرباً وكُرداً”، من وجهة نظر الصحفي محمد الحلبي، “وباتوا يؤيدون فكرة دخول الجولاني من أجل حياة أكثر أماناً، فالناس تنظر إلى مناطق سيطرة تحرير الشام، على أنها أكثر أمناً وتطبيقاً للقانون، ناهيك عن أنها تحت سيطرة جهة واحدة”.

واستدرك الحلبي: “بالتأكيد حينما خرجنا للتظاهر، قبل 12 عاماً، لم يكن الجولاني مطلبنا، لكنه اليوم أفضل الموجودين”، مقارنة بفصائل الجيش الوطني المدعوم من أنقرة.

يعيش الحلبي في مخيم صغير ضمن الأراضي الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، على بعد بضع كيلومترات من بلدة أطمة، الخاضعة لسيطرة هيئة الشام، وأثناء زيارته إلى إدلب “يوقفني أول حاجز لتحرير الشام على مدخل مناطقها، ومن ثم يمكنني التجول حتى أبعد نقطة في أقصى الغرب أو الجنوب ولا يوقفني حاجز آخر”، ناهيك عن “إنني لا أرى مظاهر مسلحة داخل المدن والبلدات، على عكس الحال هنا في مناطق الجيش الوطني”، على حد قوله. 

المقارنة بين المنطقتين لا تقتصر على الجانب العسكري بالنسبة للحلبي، الذي يرى أن مناطق “تحرير الشام” أفضل حوكمياً، مستدلاً على ذلك بـ”عملية ضبط الأسواق، والحياة العامة، ومراقبة جودة الطعام، والتموين، وهي مهام تقوم بها مؤسسات حكومة الإنقاذ”.

يشتري الحلبي، بشكل دائم، احتياجاته من أطمة الواقعة تحت سيطرة الهيئة، مفضلاً ذلك على الذهاب إلى مدينة جنديرس الأقرب إليه، بسبب “فارق الأسعار وجودة المنتج. في أطمة الأسعار أرخص والمنتج أفضل بسبب مراقبة حكومة الإنقاذ للأسواق”، وفقاً له.

مثل هذه المواقف، إلى جوانب أخرى تدفع شريحة من سكان ريف حلب إلى القبول بالجولاني، بما فيهم الحلبي، الذي لم يخفِ تخوفه من “تحرير الشام”، نظراً لسجلها من الانتهاكات ضد المدنيين والصحفيين في إدلب، لكن “أواسي نفسي قليلاً بأن الهيئة تحاول أن تتغير”.

في مقابل ذلك، لا يمكن إغفال رفض شريحة واسعة من الأهالي تمدد “تحرير الشام” إلى مناطق المعارضة شمال حلب، كما قال الباحث السوري المقيم في تركيا، مستدلاً على ذلك بـ”التظاهرات الشعبية” التي خرجت في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، رفضاً لدخول الهيئة إلى شمال حلب، إذ رغم سوء الجيش الوطني “يبقى الجولاني مرفوضاً للكثيرين بسبب مشروعه”.

“أمر واقع”

منذ اقتحام هيئة تحرير الشام لمناطق ريف حلب الشمالي، وإبقاء تواجدها الأمني هناك، صارت حركة قيادات الهيئة وحكومة الإنقاذ بين المنطقتين أسهل، لاسيما في مدينة عفرين وريفها، كما قال الصحفي خالد الخطيب، مؤكداً أن “العديد من الشخصيات التابعة للهيئة تزور المنطقة باستمرار وبسهولة، وسط تساهل من فصائل الجيش الوطني مع ذلك”.

نجح الجولاني في “تحجيم الجبهة الشامية [الفيلق الثالث] التي كانت تملك ذات المشروع في شمال حلب، بعدما تدخل قبل أشهر وفرض واقع جديد على المنطقة بمعركتين صغيرتين، مع استمراره بالتهديد حتى اللحظة بالاقتحام والقوة”، كما قال الباحث منهل باريش، المقيم في تركيا.

ومع أن فصيل الجولاني لا يتواجد في جنديرس وبقية مناطق ريف حلب الشمالي عسكرياً، وإنما أمنياً فقط، وعبر شخصيات محسوبة عليه بشكل غير مباشر، إلا أن هذا التواجد “مصحوب بالتهديد الدائم بالتدخل العسكري”، وفق باريش، مشيراً لـ”سوريا على طول أن “الجولاني استطاع اللعب بشكل ذكي، وسوف يتمكن عبر هذه السياسة من فرض سيطرته على المنطقة مع مرور الوقت”.

اقرأ أكثر: هل تنسحب هيئة تحرير الشام من ريف حلب أم تبقى “في الظل” عبر الجهاز الأمني؟

وتوقع الصحفي الخطيب أن “يستمر الجولاني في مساعيه، وفي حال حصل على ضوء أخضر أو توجيهات إقليمية باستكمال مشروعه، سيترجم ذلك على أرض الواقع”، ويأتي ذلك في إطار تحقيق “هدفه الرئيسي في زيادة الرقعة الجغرافية وما يترتب على ذلك من مكاسب سياسية واقتصادية”.

مقابل ذلك، صار الفيلق الثالث الطرف المناوئ للهيئة، منذ مواجهاته معها، قبل ستة أشهر، وما تلاها من تعديلات عسكرية في صفوفه “يهتم ببيته الداخلي أكثر، ولم يعد يسعى للمواجهة مع تحرير الشام، وليس لديه القدرة على ذلك”، بحسب  الصحفي  الخطيب.

الموقف التركي

في اقتحام الهيئة مناطق الجيش الوطني، شمال حلب، الذي جرى قبل ستة أشهر، لعبت القوات التركية الدور الحاسم في “إجبارها على التراجع” وسحب أرتالها العسكرية، لذا من المؤكد أن “الأتراك لا يريدون تحرير الشام، لكن العبث بالتحالفات الجارية في شمال حلب، يصب في سياق سيطرة الجولاني”، كما قال الباحث باريش. 

وأوضح باريش أن التحالفات العسكرية الأخيرة بين فصائل الجيش الوطني، لم تعد تحالفات مرتبطة بتركيا بقدر ارتباطها بالشعور في تهديد الجبهة الشامية، مثل “الحمزات” و”العمشات”، حيث بنت الفرقتان تحالفاً مع الجولاني، في الوقت الذي ساهم الأخير في “تأسيس تجمع الشهباء الجديد ودعمه، وأعتقد أنها تحالفات استراتيجية سوف ترسم مستقبل المنطقة”، على حد قوله.

حتى الآن، يبدو الموقف التركي “واضحاً، وهو رفض وجود الجولاني، لكن كلما تأزمت المفاوضات بين أنقرة والشامية، يخرج الجولاني ويقول أنا البديل ومقبول شعبياً”، من وجهة نظر الباحث المقيم في تركيا.

وقال الباحث: “في عملية جنديرس أرسل الجولاني رسالتين للأتراك، الأولى: أنا قادر على ضبط المنطقة أمنياً وإدارتها مقارنة بفصائل الجيش الوطني، والثانية: أنا مطلوبٌ شعبياً”. رسائل الجولاني قوبلت برفض تركي محدود، “وقد يكون مردّ ذلك إلى أن ملف الجولاني مرتبط بملفات أخرى لم تحسم”.

يعزز ذلك أن “الأتراك سمحوا لبعض الشخصيات مثل أبو عمشة بالتنسيق مع الجولاني، ما يعني أن الأمر بالنسبة لأنقرة مرتبط بشكل الحل النهائي ومعطيات أخرى إقليمية”، بحسب الباحث.

تثير مساعي الجولاني إلى بسط نفوذه في ريف حلب الشمالي واستغلاله “ورقة الأقليات” سؤالاً عمّا إذا كان متورط في تدبير حادثة مقتل الشبّان الكُرد الخمسة، لا سيما مع تداول ناشطين صورة لقائد المجموعة المنفذة للمجزرة، التابعة لجيش الشرقية، إلى جانب الجولاني، قيل أنها التقطت قبل أيام من الحادثة، ولم يتسنّ لـ”سوريا على طول” التأكد من صحتها.

واستناداً إلى الصورة المنشورة، ومن ثم تدخل الهيئة السريع في جنديرس، بعد ساعات من الحادثة، وظهور الجولاني إلى جانب ذوي الضحايا، لا يستبعد الباحث السوري المقيم في تركيا، ضلوع “تحرير الشام” في الجريمة، خاصة أن “المجرمين الذين ألقي القبض عليهم كانوا مختبئين في مقرات أحرار الشام المحسوبة على تحرير الشام”.

شارك هذا المقال