7 دقائق قراءة

بعد حكم كوبلنز “الرائد”، في أي صورة يرى السوريون العدالة؟

في طريق المساءلة، هل ينبغي أن تنصب المساعي القانونية جلها على القيادات العليا أم على ملاحقة كل من له يد في هذه المنظومة؟


22 فبراير 2022

بيروت- سادت أجواء من البهجة بين أوساط محامين سوريين وناشطين وناجين، بعد إدانة محكمة ألمانية، في كانون الثاني/ يناير، لضابط المخابرات السوري السابق، أنور رسلان، الذي ترأس قسم التحقيقات في فرع الخطيب، سيء الصيت، والحكم عليه بالسجن المؤبد لارتكابه جرائم قتل وتعذيب وعنف جنسي.

ورسلان هو أول مسؤول رفيع المستوى في حكومة الأسد يدان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا بعد مرور أكثر من عقد على الثورة وما أعقبها من فظائع.

كان يوماً تاريخياً، لكن رغم سرورها بالحكم، شعرت ياسمين مشعان بالإحباط، كما قالت لـ”سوريا على طول” “لأن إدانة رسلان وحده لا تكفي. هذه ليست عدالة”، وفقاً لمشعان، التي ذهبت رفقة عشرات الناشطين إلى المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز، في 13 كانون الثاني/ يناير الماضي، لسماع هذا القرار التاريخي. 

وما إن ارتسمت الفرحة على محيا ضحايا رسلان حتى تبدل إحساس مشعان الأول بالمرارة إلى سعادة، “تحققت العدالة بالنسبة لضحايا رسلان، وهذا يمنحني أملاً في أن تأخذ العدالة مجراها بالنسبة لي أنا أيضاً”.  

منذ عام 2011 فقدت مشعان، التي تقيم حالياً في ألمانيا وتعمل كمنسقة إدارية في رابطة عائلات قيصر، خمسة من إخوتها: أحدهما قُتِل بالرصاص الحي في إحدى المظاهرات، اثنان قتلا بالقصف، وواحدٌ تم إخفاؤه قسرياً من قبل تنظيم الدولة، وواحدً عُذِبّ حتى الموت في سجنٍ من سجون النظام، وعثرت عليه ضمن “صور قيصر”، وهي مجموعة تزيد عن 50,000 صورة تم تهريبها من سوريا، تظهر آلاف المعتقلين الذين تم قتلهم في زنازين يديرها النظام.

“لا يمكننا أن نتوقف الآن، نحتاج مزيداً من الخطوات”، قالت مشعان. ثم تابعت “آمل أن تحثّ محاكمة كوبلنز دولاً أوروبية أخرى لتحذو حذوها”. وعقدت محاكمة كوبلنز بموجب المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية، الذي يتيح للدول محاكمة الجرائم الدولية بصرف النظر عن جنسية مرتكبي الجرائم أو الضحايا، أو مكان ارتكاب الجريمة.

وكما مشعان، يأمل كثير من السوريين أن تتم مقاضاة مرتكبي الجرائم السوريين في المحاكم الأوروبية عبر الولاية القضائية العالمية، خاصة أن روسيا والصين تحولان دون تحويل القضية السورية إلى المحكمة الجنائية الدولية من خلال استخدامها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

واعتبر المحامي أنور البني، رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، ومقره برلين أن “حكم كوبلنز رسالة إلى كل المجرمين الذين ما زالوا في سوريا أو هربوا، إلى أولئك الذين يشعرون براحة البال لأن دولة عضو في مجلس الأمن ما تزال تمنع [خيار اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية]، الآن لا مناص من العدالة”. 

وكان البني نفسه معتقلاً لخمس سنوات في الفرع 251، التابع لجهاز أمن الدولة، المعروف باسم “فرع الخطيب”، وأشرف على التحقيقات حينها الضابط رسلان، ومع ذلك فإن مغزى الحكم، كما أوضح البني لـ”سوريا على طول”، يتعدى رسلان “أنا لا آبه برسلان. المهم أن يطال الحكم النظام بأكمله، وآلية الإجرام في دمشق ما تزال تعتقل وتعذب وتقتل الناس”.

“وتأتي أهمية حكم كوبلنز باعتباره اللبنة الأساسية لتذكير المجتمع الدولي أنّ العدالة يجب أن تتحقق، وأنَ إحقاقها ممكن”، بحسب ما قالت لـ”سوريا على طول”، أليكسندرا ليلي كاثر، مستشارة قانونية في العدالة الجنائية الدولية ومقرها برلين.

 وترى كاثر أن هذا الحكم كان “رائداً” لأنه تناول جرائم العنف الجنسي والجنساني (العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي) المرتكبة في المعتقلات على أنها جرائم ضد الإنسانية إثر إدانة رسلان بثلاث قضايا عنف جنسي، “وفي هذا إقرار قانوني بالبعد السياسي للعنف الجنسي”، بحسب قولها.

ومن جهتها، قالت جمانة سيف، محامية سورية وزميلة باحثة في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان “من المهم جداً تمهيد الطريق لتحقيق العدالة للضحايا الإناث وتمكينهنّ لأجل الإفصاح عن الانتهاكات التي يتعرضن لها”. 

“ويعطي الحكم زخماً لمواصلة السير ورفع عدة قضايا انطلاقاً من النجاح الذي تم تحقيقه والدروس المستفادة في كوبلنز”، بحسب مي السعداني، المديرة الإدارية لمعهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط. غير أنها استبعدت “أن تنبع عشرات القضايا في غمضة عين”، نظراً إلى أن العدالة الدولية “تستغرق زمناً وهي عرضة للتسييس”.

ومن الضروري، بالنسبة للسعداني، أن تحصن الدول التشريعات حول الولاية القضائية العالمية، لإتاحة الفرصة أمام وصول عدد أكبر من القضايا إلى المحكمة. فعلى سبيل المثال، تندرج ألمانيا والسويد ضمن الدول التي تمتلك رؤية واسعة للغاية بخصوص الولاية القضائية العالمية، في حين رؤية الولايات المتحدة لهذا المبدأ ضيقة جداً.

ولفرنسا باعٌ طويل في تطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية، وقد رفعت قضايا عديدة ضد جُناة سوريين، إلا أنّه في تشرين الثاني/نوفمبر، أوقف مدّعون فرنسيون محاكمة مسؤول سابق في النظام متورط بجرائم ضد الإنسانية، متذرعين بأن نطاق صلاحياتهم تنحصر في مقاضاة الجرائم التي تجرمها الدولة التي ارتكبت فيها. 

https://infogram.com/1p9g9d9evn13jpi7kxmk9npryna36vnngw9?live


 

حدود المساءلة

أثارت محاكمة كوبلنز جدلاً واسعاً حول الحدود الفاصلة بخصوص مساءلة مرتكبي الجرائم. هل ينبغي أن تنصب الجهود على الشخصيات القيادية أو تتجاوز ذلك لتطال كل فرد متورط في هذا النظام؟

وفيما كان أنور رسلان مسؤولاً رفيع المستوى في المنظومة الأمنية، فإن رتبة إياد الغريب، الذي استجوبته السلطات الألمانية بصفته شاهداً على جرائم ارتكبت في سوريا متدنية. 

وأثناء التحقيق مع الغريب، ذكر مشاركته في اعتقال متظاهرين وإرسالهم إلى الفرع 251، وبعد إدلائه بمعلومات تجرمه، أصدرت المحكمة في كوبلنز قراراً يدينه بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في ثلاثين واقعة، في شباط/ فبراير الماضي، وحُكم عليه بالسجن لأربع سنوات ونصف السنة.

وأوضحت نسمة باشي، محامية دولية وزميلة قانونية في المركز السوري للعدالة والمساءلة أنّ لدى فريقها “عدة شهود مطلعين ولم يكن انشقاقهم أو عصيانهم الأوامر بالأمر السهل، وكانوا يناقشون مسألة الإدلاء [بشهاداتهم للمحكمة]، لكن حين أٌدين الغريب، أحجموا”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، مشيرة أن الشهود “خافوا على أنفسهم، وهذه خسارة لقوى حفظ الأمن والدعاة”. وأضافت: “ما يجعل هذه المحاكمات قائمة هو وجود شهود موثوقين”.

ربما يكون من المستحيل مقاضاة كل متورط في جهاز الدولة السورية. خاصة أن “نطاق ارتكاب الجرائم استشرى كثيراً”، بحسب باشي، لذلك “يتعين على السوريين في مرحلة ما اتخاذ قرار بالآلية التي ترضيهم في ما يتعلق بمساءلة الأشخاص”.

وفيما تتفق السعداني مع أن مقاضاة ومساءلة “كل من له يد في المنظومة” غير ممكنة “لاتساع نطاقها”، فإنها تشدد على أن “التعذيب والإخفاء القسري؛ كل هذه الجرائم ما كانت لتحدث أبداً لولا تواطؤ ومشاركة هؤلاء المسؤولين ذوي الرتب المتدنية”، معتبرة أن “لكل استراتيجية منهما فائدة مشروعة ومهمة”.

وفيما تسعى هولندا وكندا وراء “الصيد الثمين” من خلال محكمة العدل الدولية (انظر الإنفوغرافيك)، تلاحق محاكم أوروبية أخرى المسؤولين ذوي الرتب المتوسطة والمتدنية، لقدرة هذه المحاكم على الوصول إليهم كونهم موجودين فعلياً فيها، بعكس تلك الشخصيات الكبيرة التي تتمتع “بحماية” أكبر.

ودعمت المحامية السورية سيف وفريقها في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان أربعة عشر مُدعياً في محاكمة كوبلنز. وفيما “تتجلى استراتيجيتنا الرئيسية باستهداف كبار المسؤولين”، وفقاً لسيف، فإن “حضور المشتبه بهم والضحايا وتراكم الشهادات والأدلة، مثلما حدث في كوبلنز، يحتّم علينا اغتنام الفرصة”.

من جهته، يرى البني أن وجود محكمة خاصة تنظر في الجرائم المرتكبة بسوريا يسهّل “بناء استراتيجية” للمساءلة، لكن وفقاً للظروف الراهنة “لا أحد يمكنه منح العفو لأي مجرمٍ، في الوقت الذي يسعى الضحايا لتحقيق العدالة”، مشيراً إلى أن “ملف العفو” لا يمكن الخوض فيه إلا في سوريا ديمقراطية مستقبلاً. 

ناشطون سوريون وناشطات في وقفة احتجاجية، يوم النطق بالحكم في كوبلنز، 13/ 01/ 2022 (بأول واغنر/ الحملة السورية)

مسار العدالة الانتقالية

يتخطى مفهوم العدالة الأحكام التي تُنطق في دور القضاء وقاعات المحاكم. وتبلور مفهوم العدالة الانتقالية في أعقاب ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية، والصراعات والإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة، ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا والإبادة الجماعية في رواندا.

وبحسب الأمم المتحدة، فإن العدالة الانتقالية “تتألف من الآليات القضائية وغير القضائية المرتبطة بمحاولة مجتمع ما معالجة ما ورثه من انتهاكات جسيمة من أجل ضمان المساءلة وخدمة العدالة وصولاً للمصالحة”. وفي إطار العدالة الانتقالية صارت المحاكمات الجنائية أداة من ضمن أدوات أخرى، من قبيل: لجان تقصي الحقائق بقيادة الناجين، وبرامج جبر الضرر، وتخليد ذكرى الضحايا، وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات.

وسابقاً، بصورة تقليدية، كان يتم تأطير العدالة الانتقالية بصفتها آلية لمرحلة ما بعد الصراع، ولكن في الحالة السورية سارع الناشطون منذ بداية الصراع إلى توثيق وأرشفة الانتهاكات الجماعية وجمع شهادات الناجين وتخليد ذكرى الضحايا. 

وقال البني “منذ عام 2012، وضعنا خطة لمسار عدالة انتقالية، وبناء ذاكرةٍ وطنية، وملاحقة المجرمين ومحاكمتهم، كما أننا فكرنا في تعويضات لأولئك الذين فقدوا منازلهم، وفي بناء السلام الاجتماعي بين السوريين، وصياغة قوانين تحول دون وجود هؤلاء المجرمين في مستقبلنا”.

وتتجاوز العدالة الأحكام التي تصدرها المحكمة وتكمن في “معرفة مصير المفقودين والإفراج عن المعتقلين”، بحسب ياسمين مشعان، أما بالنسبة للمحامية جمانة سيف، “فلن يكون هناك سلامٌ أو عدالة بدون انتقال سياسي نحو الديمقراطية”.

من جانبها، أوضحت السعداني أن ” العدالة الانتقالية لا تتطلب الانتظار حتى نهاية الصراع، وميقات العدالة الانتقالية هو دائماً الآن”. وشددت على ضرورة “منح “المجال للضحايا والناجين لقيادة الحوار” خلال العملية، مستشهدة بـ”الحراك الفعال لأفراد عائلات المختفين قسرياً في أمريكا اللاتينية”.

وتستوحي مشعان الصبر من أمهات بلازا دي مايو في الأرجنتين، اللواتي ظَلِلْنَ يكافحن لأربعين عاماً لاكتشاف مصير ضحايا الاختفاء القسري خلال فترة الحكم العسكري الديكتاتوري للبلاد، “لقد علموني قوة المثابرة”، قالت مشعان، مضيفة: “إننا نعلم طول الفترة التي استغرقوها للإطاحة بنظامهم والبدء في البحث عن المفقودين”. 

 بالنسبة إلى كاثر، تجسد غواتيمالا مثالاً على “كيف يمكن لمُختلف عمليات العدالة إكمال بعضها الآخر”. إذ توصلت لجنة تقصي حقائق يقودها ناجون تبحث في جرائم العنف الجنسي والجنساني ضد نساء الشعوب الأصلية خلال الحرب الأهلية في غواتيمالا “إلى تعويضات حقيقية مثل إتاحة دخول الأراضي، والوصول إلى التعليم، أو إمكانية الوصول لأطفالهن”. 

وفي كانون الثاني/ يناير الماضي، أدين جنود سابقون في القوات شبه العسكرية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وأثناء الإجراءات القضائية “أخذت المحكمة بعين الاعتبار طلبات التعويض الأولية التي وضعتها لجنة تقصي الحقائق”.

المساءلة مقابل التطبيع

على النقيض من مساعي المساءلة التي بدأت تثمر مؤخراً، من قبيل محاكمة كوبلنز، التي أدانت مسؤولاً سابقاً في النظام لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، اتجهت عدة دول، مثل الأردن والإمارات، بمسار مختلف تماماً، تجلى في تطبيع العلاقات مع حكومة دمشق، “إنه أمرٌ سريالي وغاية في البؤس، كما لو أنهما واقعان منفصلان مختلفتان”، على حد تعبير السعداني.

ولكن رغم التوجه نحو التطبيع، وسيطرة الأسد على ثلثي الأراضي السورية، ما يزال هنالك جدوى من تخيل كيف ستتجلى أوجه العدالة في سوريا، بحسب كاثر، معتبرة أن “تصور كيف يمكن لسوريا أن تبدو بشكل مختلف هي أداة مقاومة بوجه تلك الجهات التي ما تزال ترتكب كل هذا الضرر”.

وأضافت سيف “من واجب السوريين مقاومة التطبيع مع النظام، سنرمي [حكم كوبلنز] في وجوه تلك الدول التي تتطلع إلى التطبيع مع النظام”.

بالنسبة لمشعان، لا طريق للتقدم سوى بمواصلة الكفاح من أجل إحقاق المساءلة بأي صيغةٍ كانت، “فقدت إخوتي، وهم لن يعودوا. لكني لن أسمح أن يختبر أطفالي هذا الألم”، محذرة “إذا توقفنا عن السعي من أجل العدالة، ستتكرر المأساة مع أطفالنا وأحفادنا”.

تم نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية سلام الأمين

شارك هذا المقال