7 دقائق قراءة

بعد عقد من حربه على الشعب: كيف دمّر نظام الأسد الهوية السورية

"في الداخل انقسامات ثقافية تبدو من خلال التركيز على تعليم اللغات الأجنبية. فمثلا، في شمال شرق سوريا الأولوية للغة الكردية، في مقابل اللغة التركية في الشمال الغربي. أما مناطق سيطرة النظام فهناك صعود للغة الروسية واللغة الفارسية"


21 مارس 2021

برلين – مع اندلاع الثورة السورية منتصف آذار/مارس 2011، سعى النظام جاهداً إلى صبغ الثورة بطابع “إسلامي” ذي إيديولوجيّة محددة، في محاولة منه سلب فكرة شعبيتها، وليدفع تالياً نحو عسكرتها تحت انتماءات وتحالفات مختلفة، ما عزز الانقسام أكثر وخلق شروخ جديدة أيديولوجية وعرقية تمثلت بتجنيد المليشيات الطائفية من خارج البلاد، ودفع لإعلاء أصوات مطالبة بالانقسام على أساس عرقي كما حصل في شمال شرق البلاد.

لكن لا يستقيم الحديث عن تشظي الهوية السورية في العقد الأخير من عمر البلاد من دون العودة إلى الجذور الحقيقية لهذا الداء الذي ألمَّ بها. وبالإمكان اعتبار وصول حافظ الأسد إلى السلطة في سوريا في انقلاب 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، السبب الحقيقي وراء التشظي الذي نعيشه بعد نصف قرن من تاريخ البلاد تحت حكم انقلابي تلاه حكم وريثه.

ومن نافلة القول أن حافظ الأسد حاول إيهام السوريين بفكرة أن الحكم لا يزال بيد الأغلبية من العرب السنّة، بتعيين أحمد الحسن الخطيب رئيساً للجمهورية، ومصطفى طلاس وزيرا للدفاع، لكنه بدأ في الوقت ذاته إعادة ترتيب أجهزة السلطات الأمنيّة والعسكرية وحصرها بيد أبناء طائفته، ما شكّل أول بوادر تشظي الهوية السورية، والذي اتضحت وتكرّست معالمه إبّان مجزرة حماة في شباط/فبراير 1982.

ولعل الشعار الذي رفعه النظام طيلة نصف قرن، وهو “حامي الأقليات”، يدينه من فمه، بأنه عمد إلى تشظية المجتمع السوري ليسهل حكمه، كما رأى الكاتب الصحفي فايز سارة، في حديثه لـ”سوريا على طول”، رغم أنه ليس إلا “نظاماً أقلوياً مافياوياً استبدادياً أكثر من أي صفة أخرى. فحالة التشظي يتحملها بشكل كامل [هذا] النظام الذي رد بكل هذا العنف والصلف على شعارات الثورة السلمية”. لافتاً إلى “أن سياسة فرق تسد، انتهجها النظام طيلة فترة حكمه، ودفع لتصعيد الانتماءات الطائفية، المناطقية، الدينية، القومية حتى يسهل إعادة السوريين لحكمه”.

تلاشي الهوية الاقتصادية للبلاد

بمرور عشر سنوات على انطلاق الثورة، لم يعد هناك ملمح محدد لاقتصاد البلاد. فاللامركزية هي السمة الرئيسة حيث لكل طرف في مناطق السيطرة المختلفة نظامه الاقتصادي الخاص، وإن جمعها اقتصاد الحرب، في الوقت الذي استنزف فيه النظام مخزون المصرف المركزي من احتياطي العملة الأجنبية. فبحسب “مجلس الذهب العالمي”، بلغ حجم احتياطي البلاد من الذهب عتبة 25.8 طناً في 2011، أو ما يقارب 22 مليون أونصة، فيما لم تصدر أي إحصاءات لاحقة، لكن الانهيار الحاصل في قيمة الليرة السورية وتسجيلها أرقام غير مسبوقة من التراجع (4,330 ليرة مقابل الدولار في السوق الموازية) يدلل على تفريط النظام بالجزء الأكبر من مخزون سوريا من المعدن الثمين وكذلك القطع الأجنبي.

في هذا السياق، ذهب رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا د. أسامة قاضي إلى اعتبار أن “النظام يسعى إلى إضعاف الطبقة الوسطى” والتي تعتبر “البوتقة الحقيقية لصهر الهويات داخل مجتمع ما، عبر مقاربة الاختلافات”. موضحاً في حديثه لـ”سوريا على طول” أن “من لم تجمعه الطائفة أو الانتماء الإثني أو المذهبي تجمعه المصالح المادية”، أي إن إقامة مشروع اقتصادي ما من شأنه أن يجمع عدداً من أفراد المجتمع من كل الفئات من دون تمييز، لأن ما يجمعهم هو ربحية هذا المشروع، و”المشاريع الاقتصادية تعلي من الهوية الوطنية وتجعلها تسمو على كل الانتماءات الأخرى”.

ومن الطرق التي اعتمدها النظام لتهميّش تجّار الطبقة الوسطى من المجتمع، فتح خطوط اعتماد مع الدول الداعمة له، لاسيما إيران، صرّفت بضائعها الكاسدة مقابل القطع الأجنبي المحرومة منه بسبب عقوبات دولية، وصولا إلى رهن مقدرات البلاد من الموانئ وحقول النفط والغاز ومناجم الفوسفات، في سبيل كسب المزيد من الوقت في الحكم.

وهذا ما أكد عليه الباحث السوري في التاريخ الاجتماعي والسياسي مهند الكاطع، بأن الآثار المدمّرة لسياسة النظام الاقتصادية القائمة على حصر الاقتصاد بيد رجال أعماله والمقربين من إيران سحقت الطبقة الوسطى، فيما تلاشت أيضاً الهوية الاقتصادية للبلاد وغيّبت معالمها، وجعلت الوضع الاقتصادي مزرياً للغاية، إذ أن مستويات الفقر قياسية وغير مسبوقة وخاصةً مع تدهور العملة، مع زيادة في مستويات الأمية والجهل وحالات الانتحار، وهذه كلها “تعكس واقعاً لا يمكن التكهن بآثاره على المجتمع حتى مع الأمل القريب بسقوط نظام الأسد”، كما اضاف الكاطع لـ”سوريا على طول”

أما في شمال شرق البلاد، فقد اعتمدت الإدارة الذاتية التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) على عائدات النفط والغاز، وكذلك فرضت ضرائب جمركية على المعابر الحدودية مع العراق وتركيا، إضافة إلى ما يعود عليها من رسوم وضرائب فرضتها بموجب مؤسسات تم إيجادها للعمل كبديل عن مؤسسات النظام.

أما في مناطق المعارضة في شمال غرب فقد عملت المجالس المحلية على تمويل نفسها من خلال تقديم الخدمات المأجورة، والدعم الخارجي، وكذلك عائدات المعابر الحدودية للداخل والخارج.

وتشترك المناطق الثلاث بالاعتماد الكبير على الحوالات الخارجية للمغتربين والمهجرين الذين يشكلون نحو ثلث السكان في سوريا وتعتبر الشريان الرئيس لمعيشة المواطن السوري في الداخل بعد أن تدنت الرواتب والأجور لأقل من 15 دولاراً في الشهر، بحيث بات نحو 12.4 مليون سوري يعاني انعدام الأمن الغذائي وفقا لبرنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة.

وبحسب الدكتور القاضي، فإن خنق النظام الطبقة الوسطى انعكس بشكل مباشر على الهوية السورية، إذ “ألغى النظام الروابط بين أبناء تلك الطبقة من خلال إلغاء المشاريع الاقتصادية وتجميعها بأيدي رجال أعمال ضمن دائرة الحكم الضيّقة، كما أن تحويّل الثورة السلمية لمقتلة دموية كبيرة، أجبر أبناء المجتمع على التمترس خلف الهويات الفرعية الأصلية لأنهم وجدوا أن النظام يبيد ويلغي الطرف الآخر فانكفأ كل على هويته لأن المجتمع شعر بأن النظام يقودهم إلى الفناء”.

اغتيال الهوية الثقافية دفعا للتغيير الديموغرافي

لا يمكن الحديث عن هوية ثقافية صرفة بعيدا عن الاقتصاد والسياسة، لأن الثقافة بالنهاية محصلة أو نتيجة لعموم أوضاع أي بلد تحت مسمى الهوية الوطنية الجامعة، بحسب الكاتب والباحث في الشأن السوري والكردي عبدو خليل. معتبراً أنه “لا يمكن الحديث عن هوية وطنية سواء بالمعنى الثقافي أو السياسي في مرحلة النظام هذا إذا اعتبرناه نظاماً منتهي الصلاحية، وهذه حقيقة”. على العكس يمكن القول “إن مرحلة نظام الأسد كانت بداية  لمرحلة تدهور وتفكك الهوية الوطنية عشيّة تشكلها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي”، إلا أن “النظام جيّرها واختصرها في الولاء للسلطة مستخدما في ذلك الترهيب والترغيب، وأجهز عليها بعد قيام الثورة السورية قبل سنوات عشر”.

في السياق ذاته، أكد الأديب والشاعر السوري أحمد الشمام أن لكل هوية وطنية في بلد ما روافع ومقومات يشوبها التحول وفقا للمتغيرات الموضوعية والذاتية، منها ماهو ثابت وعتيق ومنها ما هو متحول بتحولات الثقافة الحاضرة تبعا للسياسات المختلفة، معتبراً أن “المدماك الرئيس للهوية الوطنية هو الهوية الثقافية التي تعتبر أساسا تبنى عليه كل التمظهرات الأخرى، وهي في المجتمع السوري قبل حكم العسكر والبعث كانت أرسخ مما آلت إليه بعد ذلك، وصولا إلى تشويهها بل تفخيخها في مرحلة الثورة”.

إذ إن “الهوية الثقافية أعمق من مرحلة زمنية تقاس بعقود”، كما أضاف الشمام لـ”سوريا على طول”، و”كانت حالة التوافق والتشارك بين الجماعات البشرية في المجتمع السوري ثابتة وقادرة على إنتاج مجتمع المواطنة والانتماء الوطني شرط إزاحة هذه السلطة، لكن نظام الأسد حرص بدقة على الإبقاء على سطوة المرجعيات التقليدية للتكوينات ما قبل الدولتية (طائفة، مذهب، عشيرة، إثنية) تحت سطح مبدأ الاتساق القسري الذي اتبعه، للتحكم بها في حال حدوث ما يخلخل سطوته على البلاد”.

وفيما شددت عضوة الحركة السياسية النسوية السورية صبيحة خليل على أن الثورة السورية “كانت ثورة سلمية نبيلة حولها النظام لمجزرة رهيبة، والمجتمع الدولي حولها إلى حرب عالمية بالوكالة، [بحيث] تساوى دور أصدقاء وأعداء سوريا في نهش وحدة [البلد] أرضاً و شعبا، فتشظت الهوية السورية”، كما تلفت أيضاً إلى دور الاطراف السورية الاخرى في هذا التشظي.

“أصبحنا نرى سلطات أمر واقع تجد في الجيوب التي تسيطر عليها سوريتها المفيدة أسوة بالنظام المجرم” كما اضافت لـ”سوريا على طول”، و”لا بد من رفع الغطاء عن كل قوى الأمر الواقع التي عبدت الطريق أمام استكمال مخطط التغيير الديموغرافي على يد مجموعة الترويكا؛ روسيا وإيران وتركيا، بدءاً من حمص مروراً بدمشق وحلب فالشمال السوري، لكبح استفحال التشرذم، وبالتالي الحكم على الهوية السورية بالإعدام”.

في هذا السياق أيضاً، اعتبر خليل أن ثمة غياب لأي مشروع فكري أو سياسي  بهوية سورية وطنية جامعة تكون بديلا عن هوية الاستبداد والاستلاب لدى قوى المعارضة، ما زاد الطين بلة، وساهم بدوره في تفكك المجتمع السوري. لذلك “عندما نتحدث عن التغيير الديموغرافي مثلا والذي قام ويقوم به النظام ومن خلفه إيران لا يمكن نقاش ذلك بمعزل عن التغييرات الديموغرافية التي تورطت فيها أطراف سورية مثل ائتلاف [قوى المعارضة] خدمة لمشاريع تركية، لاسيما وأن أغلب التغييرات الديموغرافية على الجغرافيا السورية ولدت في  مؤتمرات استانة برعاية روسية وتركية وايرانية”.

وتشدد خليل أن الحديث عن الهوية الثقافية ضمن المدى المنظور لا يجدي قبل “تصفير عدادات التغييرات الديموغرافية كمقدمة للوصول إلى هوية وطنية جامعة، فما جرى في عفرين لا يشبه في نتائجه سوى ما يقوم به النظام في دمشق وحلب وحمص، ولا يختلف عن المشاريع التي تقوم بها أطراف مثل قسد ومسد في شرق الفرات وهي بالنهاية تكملة وتتمة لمشاريع إيران وتركيا”.

 التشظي لكيانات وقوى أمر واقع

يمكن افتراض أن السؤال الأكثر إلحاحا في أذهان غالبية السوريين في اليوم التالي لزوال النظام، هو شكل الدولة السورية، ومساحتها وبنيتها العامة على المستوى الجغرافي.

إذ “لم يعد هناك سوريا بمساحة 185 ألف كيلومتر مربع”، كما قال د. القاضي، بل “هناك مناطق نفوذ تركي أميركي روسي، وأي حل تنادي به روسيا عندما يتحدثون عن وحدة سوريا إنما يكون على مناطق نفوذها وسيطرتها، وكذلك كل القوة المسيطرة”.

لكن يظل “أخطر ما أصاب الهوية السورية هو تشظي العنصر البشري”، بحسب الكاتب سارة. موضحاً أن “كل محاولات السوريين خلال العقد المنصرم للبقاء في كيان واحد باءت بالفشل”. كما إنهم “اليوم منقسمون بين داخل وخارج”.

“في الداخل انقسامات ثقافية تبدو من خلال التركيز على تعليم اللغات الأجنبية. فمثلا، في شمال شرق سوريا الأولوية للغة الكردية، في مقابل اللغة التركية في الشمال الغربي. أما مناطق سيطرة النظام فهناك صعود للغة الروسية واللغة الفارسية”، كما أوضح. أما في الخارج، فيتوزع السوريون على دول مختلفة، حيث “يخضعون لقوانين وأيديولوجيات مختلفة”.

وليكون المخرج برأي سارة هو “الخلاص من النظام وتحقيق أهداف الثورة بالعودة لكيان واحد قادر على التعبير عن حالها في إطار وطني ونظام ديمقراطي يوفر العدالة والمساواة لجميع أبنائه”.

وهو ما اتفق معه الكاطع، معبراً عن تفاؤله بقدرة “الشعب السوري على التكاتف من جديد وإصلاح ما خربه النظام والمليشيات التابعة له في العلاقة البينية بين أطياف الشعب السوري”، إذ “لا أمل لأي مشاريع طائفية أو انفصالية في سورية ولا حل إلا بالتوافق على المضي قدماً في إزالة النظام ومحاسبة المتورطين بالدم السوري والعمل الجماعي لبناء ما تهدم اجتماعيا وديموغرافيا ثم عمرانيا واقتصاديا”، كما أضاف.

شارك هذا المقال