7 دقائق قراءة

بين الخطوط الحمراء وطوابير الانتظار يكافح سكان دمشق للتغلب على واقع المدينة المتقلب

تعرف رائدة دمشق بشكل جيد، فقد ولدت وترعرعت فيها، وخبرت كل زاوية وكل ركن من أركان حيّها الذي تتربع مساكنه وشوارعه على سفح جبل قاسيون، ولكن ثمان سنوات من الحرب أثرت كثيراً على العاصمة، وأصبحت بالكاد تعرفها هذه الأيام، بحسب قولها.


تعرف رائدة دمشق بشكل جيد، فقد ولدت وترعرعت فيها، وخبرت كل زاوية وكل ركن من أركان حيّها الذي تتربع مساكنه وشوارعه على سفح جبل قاسيون، ولكن ثمان سنوات من الحرب أثرت كثيراً على العاصمة، وأصبحت بالكاد تعرفها هذه الأيام، بحسب قولها.

قالت الفتاة البالغة من العمر 39 عامًا ” دمشق لم تعد دمشق التي أعرفها”، واصفة انقطاع الكهرباء الذي يصل إلى 12 ساعة في اليوم، حيث يتعلم فيها الناس، منذ فترة طويلة، الاستغناء عن الثلاجات والغسالات وأجهزة التلفزيون.

“لقد عاد الناس إلى أيام زمان”.

وفي طريقها إلى العمل يومياً، ترى رائدة نساء وأطفالاً يفترشون الأرصفة، و كباراً في السن يبحثون عن الطعام في حاويات القمامة. كما تشاهد طوابير الانتظار الطويلة، وسواء كان الأمر يتعلق بشراء الغاز أو الحليب، فإن مشهد الطوابير أصبح جزءاً لا يتجزأ من صورة المدينة.

حتى الوجوه تغيرت أيضًا، حيث غير النزوح والموت والتجنيد العسكري النسيج الديموغرافي للعاصمة. وأشارت رائدة أنها نادراً ما تصطدم  بشخص تعرفه، حين تمشي في شوارع حيّها في منطقة المهاجرين.

وقالت ” في بعض الأحيان، أشعر كأنني غريبة عن دمشق، وأينما ذهبت أشعر بالألم والحزن عند التفكير كيف كانت الحياة هنا”.

وفي أوائل الصيف الماضي، سيطرت الحكومة السورية بالكامل على دمشق وريفها، بعد سلسلة من الهجمات المركزة الموالية للحكومة، والتي وضعت نهاية لآخر معاقل المعارضة المحاصرة في الغوطة الشرقية وجنوب دمشق.

وبعد فترة قصيرة، بدأت تظهر علامات متفرقة لمدينة تعود إلى الحياة من جديد، حيث أزيلت نقاط التفتيش من جميع أنحاء العاصمة، وبدأ السكان بالخروج من منازلهم إلى المتنزهات والمطاعم وأسواق المدينة.

ومنذ ذلك الحين، روجت الحكومة السورية لرواية الانتقال نحو السلام، وإعادة الإعمار في كل مكان، وأعلنت بانتظام عن مشاريع إعادة التطوير الحضري واسعة النطاق، ونظمت المعارض والمهرجانات الدولية على أمل جذب المستثمرين.

وبالنسبة لهم، فإن الحرب قد انتهت، لكن حتى الآن لا تزال المدينة تعيش على أعقابها.

في الوقت نفسه، يحاول أولئك الذين نجوا، أن يتأقلموا وسط ارتفاع الأسعار والبنية التحتية المتهالكة. قالت رائدة “أنا في حالة حرب مع الحياة نفسها”.

لكن بعد الخسارة والتخلي عن الكثير خلال سنوات الحرب، أخبر سكان دمشق سوريا على طول، أن الحرب قد غيرت المجتمع اليومي بشكل لا رجعة فيه. قبل الحرب، كانت سوريا تعرف باسم “مملكة الصمت”، فهي مكان لضباط المخابرات وحرية ضئيلة غالية الثمن. كما أن تجربة بشار الأسد القصيرة، التي تزامنت مع حكم أكثر ليبرالية بعد توليه السلطة في عام 2000، وعرفت باسم ربيع دمشق، انتهت في نهاية المطاف إلى القمع.

ومع ذلك، يبدو أن الأهالي في دمشق اليوم، أقل رغبة في تحمل المصاعب الاجتماعية والاقتصادية والفساد والمحسوبية، وأصبحوا أكثر صراحة فيما يتعلق بهذا الموضوع. وبحسب السكان في هذه الأيام، لم يعد نادراً أن تسمع الناس وهم يتذمرون في زوايا المقاهي والمطاعم حيال تقصير الحكومة.

زقاق في حي الشاغور بدمشق في 23 آذار. صورة من عدسة شاب دمشقي.

“ألست خائفة؟”

بدأ فصل الشتاء في دمشق بالانحسار، لكن منذ وقت ليس ببعيد، و خلال أشهر الشتاء الباردة القارسة، بداية العام، كانت دمشق في خضم أزمة وقود مدمرة، تركت الآلاف من السكان يرتجفون برداً، وغير قادرين على طهي طعامهم.

كانت طوابير الناس الطويلة، في بعض الأحيان، تصطف قبل شروق الشمس، وعندما تتجول في شوارع المدينة ترى الناس ينتظرون شراء أسطوانات للسخانات والطهي، وتكون عادةً بأسعار مرتفعة للغاية.

وغالبًا ما تعامل السكان مع الوضع بروح الدعابة والسخرية، وعلى مدى أسابيع، كانت وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بالنكات والتعليقات الساخرة، حتى أن بعضها استهدف مباشرة علي غانم، وزير البترول والثروة المعدنية في سوريا، وكذلك المسؤولين المحليين.

شيرين، التي تعمل في المجال الخيري وهي في الثلاثينيات من عمرها، لا تتردد عند تقديم شكوى عبر الإنترنت عن حالة البنية التحتية السيئة في دمشق، والانقطاع اليومي للتيار الكهربائي والفساد على نطاق واسع.

وتتذكر شيرين أصدقائها الذين قالوا لها “لسانك طويل، ضبيه شوي!”، بسبب كثرة تذمرها.

وعند المناقشات وجهاً لوجه مع أصدقائها وأقاربها، تكون واضحة ومباشرة أكثر، الأمر الذي غالباً ما يجعل الناس من حولها يشعرون بعدم الارتياح، فبعضهم يومئون بصمت تجنباً للمواجهة، بينما ينهض آخرون ويغادرون تمامًا، ويقطعون علاقتهم معها فيما بعد، على حد تعبيرها.

كثيرا ما يسألونني “ألست خائفة؟”، وعادة تكون الإجابة لا. وبحسب شيرين فهي تعلمت أن تعيش ضمن الحدود – ما يمكنك قوله، وما لا يمكنك فعله.

وقالت لسوريا على طول “أنا لا أرتكب أي شيء خاطئ، أنا فقط أنتقد داخل الخطوط الحمراء المسموح بها لي”، مضيفة أنها، كقاعدة عامة، تميل إلى الابتعاد عن ذكر ما تسميه “الرموز” أي الشخصيات الحكومية البارزة، والوزارات وغيرها.

والآن بعد انتهاء القتال المسلح في العاصمة، قال المراقبون والسوريون بأن الاستياء المتزايد على وسائل التواصل الاجتماعي هو ببساطة تعبير عن نفاذ صبر السكان.

وكتب داني مكي، الصحفي السوري المقيم في دمشق، في مقال نُشر مؤخراً في معهد الشرق الأوسط “لم تعد الحرب ذريعة كاملة للحكومة”، فأزمة الغاز لم تكن حادثة منفصلة.

“نعم، سيدي المواطن!”

أصدرت الحكومة السورية المرسوم الرئاسي رقم 16، في تشرين الأول من العام الماضي، والذي منح وزارة الأوقاف الدينية، في نهاية المطاف، المزيد من الصلاحيات. وقوبل هذا المرسوم باستياء واسع النطاق على الإنترنت، وانتقد حتى من قبل أعضاء بارزين في البرلمان والفنانين، باعتباره هجومًا على العلمانية. وفي نهاية الأمر، عدل البرلمان السوري المرسوم وأصدر نسخة مخففة من مشروع القانون الأصلي.

كما أصبح انتقاد الفساد والمحسوبية أمرًا شائعًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في بعض المنافذ المؤيدة للحكومة.

ووفقًا لعمر الوقاف، عضو في الجمعية البريطانية السورية الموالية للحكومة، والتي أسسها في الأصل أقارب عائلة الأسد، فإن الوضع الأمني المتحسن في دمشق قد أفسح المجال أمام السكان للمطالبة بـ” المزيد من الحكومة”.

وفي الوقت الحالي، قال السوريين  يبدو أن هناك مساحة، على الأقل، للنقد وإن كان ذلك يترافق مع وجود مذكرة قانونية.

وقال نضال، وهو مخرج تلفزيوني يعمل مع منفذ إخباري موالي للحكومة في دمشق “طالما أننا نركز على القضية من منظور اجتماعي، فنحن في آمان”.

موضحاً، أن الحرب مهدت الطريق لظهور اتجاهات اجتماعية جديدة – خاصة بين الشباب – كانت تعتبر من المحرمات في السابق، حيث ناقشت قناته علانية الشذوذ الجنسي، والطلاب الذين يعيشون مع رفقاء من الجنس الآخر.

وقال على الرغم من أن القناة التي يعمل بها تنتج برامج تليفزيونية “مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياسة في بعض الأحيان”، إلا أن هناك بالتأكيد بعض “الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها”، موضحاً أنه “يمكنك التحدث عن انقطاع الكهرباء، لكن لا تتحدث عن الوزارة”.

رغم ذلك، بالنسبة للمقيمين العاديين، فإن الحديث والنقد الذي يظهر على وسائل الإعلام الموالية للحكومة، ومن المشاهير، ينظر إليه على أنه كلام فارغ.

وقالت شيرين “إنه كالتبرير”، مشيرة بطريقة ساخرة إلى المنطق البيروقراطي للحكومة “نعم، سيدي المواطن! يمكنك التعبير عن رأيك في هذه الأشياء، نحن نشعر بألمك!”

البعض الآخر لا يزال مشككاً في أي أمل ممكن للتغيير الحقيقي، حيث قال محمد الشامي، الناشط الدمشقي الشاب الذي عمل لسنوات مع عدسة شاب دمشقي، وهي وسيلة إعلامية معارضة على موقع الفيسبوك، وتتميز بالتصوير الفوتوغرافي عن الحياة اليومية في دمشق “هذا فقط من أجل التنفيس”.

وأضاف “هذا النقد لا يعني تحميل أي شخص المسؤولية، ولا يعكس الرغبة في الإصلاح، إنه أداء مسرحي فقط “.

وفي خطاب ألقاه مؤخرًا أمام رؤساء المجالس المحلية في سوريا، أقر الرئيس السوري بشار الأسد بأن الناس يعانون، واصفاً الفساد المتفشي و “الأنانية والاحتيال” كجزء أساسي من المشكلة. ومع ذلك، انتقل بسرعة للحديث عن “حرب وسائل التواصل الاجتماعي” في سوريا.

شارع مدمر يمر عبر حي في الغوطة الشرقية في 28 تشرين الثاني 2018. الصورة من عدسة شاب دمشقي.

وعلى الرغم من نوبات الاستياء المؤقتة، لا تزال الحكومة السورية متشددة مع الصحافة.

وتماشياً مع تاريخ سوريا الطويل في إسكات الصحافة، أكد رئيس النيابة العامة في سوريا، في وقت سابق من هذا الشهر، على وجود قانون عمره عقود ينص على أن نشر الأخبار الزائفة أو المبالغ فيها “يضعف الروح المعنوية الوطنية” أثناء الحرب، و يمكن أن يعاقب عليه القانون بين ثلاث إلى 15 سنة مع العمل الجبري.

فالصحفيين الذين عملوا ذات يوم بحرية نسبية من المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة حول دمشق، إما فروا أو التزموا الصمت. وفي الوقت نفسه، أجبرت القلة المتبقية على مواصلة عملهم خفية، مختبئين باستمرار من الفروع الأمنية سيئة السمعة التابعة للحكومة.

وقال الشامي، صحفي يعمل لدى عدسة شاب دمشقي، إنه لن ينشر نقداً على الإنترنت إلا بطريقة مجهولة، حتى “لا يختفي”.

وتحدث إلى سوريا على طول بشرط عدم الكشف عن هويته، وطلب حجب جميع التفاصيل الشخصية عنه خشية أن يتم تحديد هويته.

“اصطياد المخربين”

حتى أولئك الذين يقفون في الصفوف المؤيدة للحكومة ليسوا بالضرورة آمنين.

وخلال الأشهر القليلة الماضية، وردت تقارير عن عدة اعتقالات طالت صحفيين كانوا يعرفون سابقًا باسم الموالين للحكومة. وكان من أبرز هذه الشخصيات وسام الطير، رئيس شبكة الأخبار المؤيدة للحكومة، “دمشق الآن”.

اشتهر الطير، بكونه مؤيدًا قويًا للحكومة السورية، وتم إلقاء القبض عليه في شهر كانون الأول بظروف غامضة، و لم يتم توجيه أي تهم محددة ضده، لكن البعض يشير إلى أن مؤسس شبكة “دمشق الآن” كان يخطط للكشف عن فضيحة فساد كبيرة تورطت فيها وزارة الداخلية.

وبعد وقت قصير من اعتقاله، شنت أسرة الطير حملة على وسائل التواصل الاجتماعي للضغط من أجل الحصول على تفاصيل عن مكان وجوده وظروف اعتقاله. وبدأت الشائعات تنتشر في كانون الثاني، بأن الطير قد توفي تحت التعذيب في الحجز، ولا يزال مكانه مجهولاً.

بالنسبة لسكان دمشق العاديين، فإن التأقلم مع هذا المشهد الأمني الجديد – حتى مع وجود مجموعة من الميزات غير المرئية أحياناً لبعض الأشخاص، وفقًا لطبقتهم وطائفتهم وواسطتهم – قد يكون أمرًا خادعًا، ولا يتم تمييز الخطوط الحمراء بسهولة دائمًا في دمشق.

وقالت شيرين التي تعمل في المجال الخيري، والتي تنحدر في الأصل من إحدى مناطق الطبقة الراقية في دمشق، أن نصف عائلتها كانت مؤيدة للحكومة السورية طوال فترة النزاع. حتى أن بعض أقاربها يشغلون مناصب عليا في الجيش.

ورغم أنهم يختلفون بشدة مع سياساتها، إلا أنها قالت بأن الروابط الأسرية أثقل في النهاية، موضحة “ربما لأننا عائلة واحدة، هناك نوع من الاحترام بيننا، لذلك على الرغم من أنهم قد يؤذون الآخرين، إلا أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء لي”.

ولكن بغض النظر عن الوضع الاجتماعي، قال السوريون في دمشق، إن خطر التعرض للاعتقال غالبًا ما يكون في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ. حيث يصف السكان بأن الفساد وإساءة استخدام السلطة باتت تسيطر على الوضع بشكل متزايد في المدينة.

وبحسب شيرين، إنه ليس غريباً أن نرى ضباط الشرطة أو الجيش يستغلون موقعهم في مضايقة المواطنين العاديين، بحجة خدمة الرفاهية الوطنية أو “القبض على المخربين”.

وأضافت “إذا تشاجرت معهم، حتى لو كان الأمر يتعلق بعلبة سجائر، فيمكنهم  جرّك إلى فروع الأمن وابتكار التهمة المناسبة لك”.

وقالت مازحة “لقد خلق كل شخص في هذا البلد دولته الخاصة به”.

* قامت سوريا على طول بتغيير أسماء جميع المصادر في دمشق المذكورة في هذا التقرير لحماية هوياتهم.

 

شارك هذا المقال