7 دقائق قراءة

ترسيخ انتزاع الملكية العقارية: الواقع القاسي لإعادة الإعمار في سوريا 

تعرضت مئات المنازل للنهب والاحتلال، بينما تم الاستيلاء على غيرها عبر خطط إعادة التطوير أو عبر منع الأطراف المسلحة للمالكين الأصليين من العودة إلى منازلهم وأراضيهم


25 أكتوبر 2020

بيروت – في نيسان/أبريل 2018، استقلت منى خيتي، من مدينة دوما، في غوطة دمشق الشرقية، الباص ذا اللون الأخضر، تاركة خلفها خمسة أعوام من الحصار كما منزلها الذي لا يزال خالياً حتى اللحظة. 

منى، البالغة 37 عاماً، وتعمل طبيبة مختبر، هي واحدة من أصل 12 مليون سوري تعرضوا للتهجير القسري، داخل سوريا وخارجها، وبينهم كُثر تعرضت حقوقهم في السكن وحيازة الأراضي والملكية العقارية للانتهاك. وقد فقدت منى، التي تقيم حالياً في تركيا، منزلها جراء النزوح في إطار ما يُسمى”اتفاقية مصالحة”، بينما تعرض آخرون للتهجير بسبب القصف الذي استهدف مناطقهم. علاوة على ذلك، فقد الآلاف من الناس ملكياتهم نتيجة استيلاء حكومة دمشق عليها بموجب قوانين مكافحة الإرهاب.  

ومنذ العام 2012، وثَّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 3.970 حالة استيلاء على ملكيات “معارضين معتقلين أو مهجرين قسراً”. فيما تعرضت مئات المنازل للنهب والاحتلال، بينما تم الاستيلاء على غيرها عبر خطط إعادة التطوير أو عبر منع الأطراف المسلحة للمالكين الأصليين من العودة إلى منازلهم وأراضيهم. 

وقد شهد العام 2012 إقرار أول قانون ينتهك حقوق الملكية العقارية. لكن القانون لم يحظَ بالاهتمام والنقاش الكافيين بسبب التطورات العسكرية على الأرض. أما اليوم، وفي مرحلة ما قبل إعادة إعمار سوريا، تبدو معالجة قضايا حقوق الملكية العقارية أمراً أساسياً في تشكيل مستقبل البلاد. 

ويعدّ التهجير أداةً تُستخدم لمعاقبة المعارضين ومكافأة الموالين. وكما تقول المعمارية السورية والمتخصصة في التطوير الحضري سوسن أبو زين الدين لـ”سوريا على طول”، تمثل انتهاكات حقوق الملكية العقارية جزءاً من “استراتيجية أوسع للهندسة الديمغرافية وتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية”. 

وتظهر التغيرات الديمغرافية بوضوح في مناطق مثل درعا، وحماة، وضواحي حمص، ومخيم اليرموك ودمشق. وجميعها من المناطق التي شهدت نشاطاً كثيفاً للثورة التي اندلعت في العام 2011 ضد نظام بشار الأسد، بحسب ما تذكر الناطقة باسم الرابطة السورية لكرامة المواطن هيا الأتاسي لـ”سوريا على طول”. مضيفة أن “هناك أحياء كاملة يسكنها سكان جدد يقيمون في منازل يملكها آخرون”. وقد شهدت الأتاسي ذاتها احتلال شركة إيرانية منزل أحد أقاربها في مدينة حمص. 

انتهكت معظم الأطراف المتورطة في النزاع في سوريا حقوق الملكية العقارية. وبحسب الباحثة في الشأن السوري في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، سارة كيالي، فإن “الحكومة السورية هي الجهة صاحبة النفوذ الأكبر، بمعنى أنها تضع القوانين التي تبدو هامشية، لكنها تفرض القيود الشديدة على المدنيين”. لكن “الأطراف الأخرى مثل الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، والمجموعات التي يقودها الأكراد، ساهمت هي الأخرى إلى حدٍ ما في حصة لا يُستهان بها من هذه الانتهاكات”، كما تضيف كيالي لـ”سوريا على طول”. 

ويتعرض الأكراد والفلسطينيون، الذين يخضعون لإطار قانوني مختلف فيما يخص حقوق الملكية، للمزيد من التهميش. وينسحب الأمر ذاته على النساء اللواتي يخضعن لسطوة الأعراف الذكورية، ويعانين من التمييز الممنهج على صعيد حقهن في الميراث، على سبيل المثال. ولا تستطيع النساء اللواتي اختفى أزواجهن قسرياً ولا يملكن شهادة وفاة أن يبعن أملاكهن. وتُعَّد معظم المناطق التي نشطت فيها الثورة إما من المناطق الأقل حظاً أو ذات السكن العشوائي. ونتيجة لكونها عشوائية، الأمر الذي يشمل 50 % من المدن السورية، فإن عملية إثبات ملكية أي عقار تُصبح أكثر صعوبة. وبالتالي، تزداد صعوبة مقارعة مقاربة “الهدم وإعادة الإعمار” التي تتبعها حكومة دمشق، كما توضح أبو زين الدين.

من جهتها، ترى مديرة البرامج في وحدة حقوق الإنسان والأعمال التابعة للبرنامج السوري للتطوير القانوني، كريستل باسل، أنه “كلما ازدادت انتهاكات حقوق السكن والأراضي والملكية العقارية، كلما أصبح من الأصعب تحقيق السلام المستدام في المستقبل”. و”لهذا السبب”، كما تضيف لـ”سوريا على طول”، “يجب أن نأخذ هذه العوامل بالحسبان عندما نتحدث عن إعادة الإعمار”.  

إعادة إعمار مسمومة

في السنوات القليلة الماضية، أعلنت حكومة دمشق العديد من “خطط إعادة التطوير”، وقامت على إثرها بالاستيلاء على أراضٍ وإخلاء سكان. لكن “إعادة الإعمار” تبدو معطلة بسبب نقص التمويل. إذ “لم نشهد استثمارات واسعة النطاق”، بحسب كيالي، و”هذا على الأرجح سيستمر على المدى الطويل بسبب غياب التمويل، ولأن الحكومة السورية تمر بأزمة اقتصادية شديدة”. 

وفي العام 2018، سمَّت “هيومن رايتش ووتش” 60 شركة مهتمة بإعادة الإعمار، بيد أن كيالي تعتبر أن هذا الاهتمام قد تراجع بسبب عقوبات قانون قيصر الأميركي والأزمة الاقتصادية العالمية بسبب وباء كورونا المستجد (كوفيد-19)، ولأن “سوريا لم تشهد استقراراً حقيقياً كما كان متوقعاً قبل عامين”. إلى جانب ذلك، ركزت شركات حليفي دمشق، روسيا وإيران، “جهودها على النفط، والغاز، والكهرباء، وبدرجة أقل على مشاريع التعافي”.

وفي الوقت الذي يجمد فيه المجتمع الدولي تمويل “إعادة الإعمار” إلى حين الشروع بالإصلاح السياسي، وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254، تتخذ دمشق بعض “خطوات إعادة الإعمار”. وعلى الرغم من أثرها المحدود، إلا أنها تجهز الأرضية لهذه العملية في المستقبل. 

وكما تشرح أبو زين الدين، فإن حكومة دمشق تمول هذه الخطوات بطريقتين: تأسيس شركات مشتركة على مستوى المحافظة، مثلما فعلت كل من محافظات دمشق وحلب وحمص بالفعل، أو من خلال تدخلات الإنعاش المبكر والتدخلات الإنسانية من قبل المنظمات الدولية.  محذرة في هذا السياق، من أنه حتى “إذا حدث الانتقال السياسي غداً، وقدم المجتمع الدولي التمويل اللازم لإعادة الإعمار، فإن تنفيذ هذه العملية سيكون ضمن هذا الخطر [أي انتهاكات حقوق الملكية العقارية]”. 

دور خلافي للمجتمع الدولي 

تخضع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية العاملة في مناطق سيطرة نظام الأسد وحلفائه لقيود تفرضها دمشق، وقد تكون هذه الوكالات والمنظمات متواطئة في انتهاكات حقوق الملكية العقارية.

وبحسب أبو زين الدين، قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بإعادة إعمار مناطق “تم إخلاء سكانها بالقوة”. مشددة على أن “إعادة تأهيل أحياء تم تهجير أصحابها بالكامل بالقوة” أو مناطق “تم منع الناس فيها من الوصول إلى ملكياتهم” هي عملية “مرفوضة تماماً”، كون القائمين على على إعادة التأهيل تلك يعزّزون الإخلاء ويمنعون عودة السكان بهذه الممارسة.

علاوة على ذلك، تستغل دمشق أموال المساعدات من خلال تحديد المناطق التي يمكن للمنظمات الدولية العمل فيها، فتوجه المساعدات لخدمة مصالح “المتعهدين المؤيدين للحكومة، وأتباعها، ورجال الأعمال المقربين من النظام، وسواهم. كما المناطق الموالية له”، بحسب أبو زين الدين التي تحذر أيضاً من أن اقتصار المساعدات على المناطق التي “توافق” عليها دمشق “يُمهد الطريق لاختلال كبير في مستقبل التنمية في سوريا”. 

وكانت “هيومن رايتس ووتش”، كشفت في تقرير لها العام الماضي تواطؤ منظمات دولية مع الحكومة السورية بهذا الشأن. وكما تقول كيالي: “لسوء الحظ، لم نشهد تغيراً ملحوظاً. إذ تستمر وكالات الأمم المتحدة بشراكتها مع أطراف منتهكة [لحقوق الإنسان]، بما فيها وزارة الداخلية، وتستمر في دعم مشاريع في مناطق يُمنع سكانها من العودة إليها”.  

وكان يفترض أن يؤدي اعتماد الحكومة على المساعدات الدولية إلى منح المنظمات الدولية اليد العليا، برأي أبو زين الدين، لكنها “تخلت عن نفوذها الذي يمكّنها من مواجهة الحكومة”. وهو على النقيض من حالة اليمن، حيث اتخذت وكالات الأمم المتحدة “اموقفاً، وانسحبت، وأغلقت البرامج من أجل إجبار الحوثيين على تبني مقاربة أكثر مبدئية فيما يخص المساعدات”، بحسب كيالي. 

أي محاسبة تنتظر منتهكي حقوق الملكية العقارية؟ 

تستهدف العقوبات الأوروبية والأميركية منتهكي حقوق الملكية العقارية في سوريا بشكل متزايد. ففي كانون الثاني/يناير 2019، تم إدراج 11 رجل أعمال على قوائم العقوبات بسبب تورطهم في مشروع ماروتا سيتي. علماً أنه تم تجميد العقوبات على بعضهم في حزيران/يونيو الماضي لأسباب إجرائية. 

في هذا السياق، تقول كريستل باسل إن عملية “إعادة الإعمار ما تزال مستمرة، لم تتوقف تماماً”، لافتة في الوقت ذاته إلى أنه في حالة ماروتا سيتي، “أصبح استكمال العمل أصعب”. هذا فيما تطالب الأتاسي بفرض عقوبات تمنع مؤسسات الأعمال من الانخراط في خطط إعادة التطوير، وتحث على التحرك الآن بما أن “استعادة ملكيات الناس تكون أسهل عندما تكون ما تزال موجودة” وليس بعد تنفيذ خطة إعادة التطوير. 

ووثَّق البرنامج السوري للتطوير القانوني أسماء رجال الأعمال الذين استفادوا من انتهاكات حقوق الملكية العقارية، وهم: رامي مخلوف المشارك في ماروتا سيتي عبر أربع من شركاته، ومحمد حمشو الذي أسس مليشيات مرتبطة بالفرقة الرابعة في الجيش السوري واشترى الحديد المسروق بسعر بخس ليعيد بيعه بسعر أعلى، ومحي الدين المنفوش الذي حصل على عطاء إزالة الأنقاض في الغوطة الشرقية. 

وبحسب أحدث تقرير للجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، التابعة للأمم المتحدة، يرقى نهب العقار الذي يملكه خصم وتدميره أو الاستيلاء عليه إلى جريمة حرب. وحتى اللحظة، لم تنظر أي محكمة في قضايا انتهاكات حقوق الملكية  العقارية بموجب القانون الجنائي الدولي، مثلما فعلت بعض المحاكم في دول أوروبية بشأن انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان، مثل التعذيب. وكما توضح كيالي، فإنه من أجل رفع قضية متعلقة بحقوق الملكية العقارية، هناك حاجة “إلى توثيق مهم، وصور بالأقمار الصناعية وزيارة إلى الموقع”، ولتكون التكلفة أعلى من مجرد توفير الدليل لقضية تعذيب والتي تكون “في الغالب مبنية على شهادات الشهود”. 

لهذا السبب، تدعو الأتاسي المانحين إلى “دعم المبادرات السورية التي توثق انتهاكات حقوق السكن وحيازة الأرض والملكية العقارية، وتساعد السوريين على توثيق أملاكهن”، على أمل أن يتم استخدام هذه السجلات يوماً ما لاستعادة هذه الملكيات وتحقيق العدالة. 

ومن أجل السير في طريق المحاسبة، تدعو كيالي “المجتمع الدولي إلى فرض ضغط دبلوماسي، من خلال مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، على الحكومة السورية لتعديل التشريعات المنتهكة [لحقوق الملكية] العقارية”. مذكرة بأن الضغط في مواجهة القانون رقم 10 لسنة 2018 قد أفضى إلى تعديلات المكونات الأكثر إشكالية فيه. كما دعت مانحي الأمم المتحدة إلى التأكد من أن وكالات المنظمة تلعب “دوراً يحمي حقوق السكن وحيازة الأرض والملكية ولا يقوّضها”. 

في الأثناء، تبدو منى قلقة. إذ وصلتها أنباء بأن منظمات غير حكومية دولية تنفذ مشاريع تأهيل في الغوطة الشرقية. و”قد يمحو هؤلاء الدليل على جرائم الحرب التي وقعت أثناء الحصار”، كما تقول. 

وتضيف: “لا أفكر في العودة إن لم يكن لدينا اتفاق سياسي يضمن سلامتنا عند العودة واستعادتنا حقوقنا، بما فيها حقوق السكن وحيازة الأرض والملكية”. ولذلك فإن العودة في الوقت الحالي،  من حيث أتت يوم استقلت الباص الأخضر ليست خياراً مطروحاً، لكنها لم تستسلم بشأن استرجاع منزلها. 

*تم إنجاز هذا التقرير ضمن مشروع “تعزيز ترسيخ النوع الاجتماعي”، والذي ينفذه “سوريا على طول” بدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية، من خلال السفارة الكندية في عمان

نُشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية لينا شنك.

شارك هذا المقال