7 دقائق قراءة

تلوث مياه نهر العاصي بمخلفات “تل سلحب” أكبر من أزمة بيئية موسمية

مع انتهاء موسم الشوندر السكري لهذا العام، تطوى قضية مخلفات معمل تل سلحب، ولكن "هذا لا يعني أن النهر تعافى من هذه المخلفات"، لأن الاستمرار في سياسة تصريف النفايات في مياه العاصي "تهدد مستقبل الثروة السمكية في النهر لفترات طويلة، وسيكون لها نتائج كارثية مستقبلاً".


18 أكتوبر 2022

حماة- طوي الحديث عن أزمة تلوث مياه نهر العاصي، التي ذاع خبرها، في تموز/ يوليو الماضي، نتيجة رمي مخلفات معمل سكر تل سلحب بريف حماة الغربي، التابع للنظام السوري، فيه، لكن النهر لم يتعافَ من آثار التلوث “رغم تدفق مياه النهر”، كما قال الصياد مصطفى أبو باسل لـ”سوريا على طول”، شاكياً قلة صيده مقارنة بما كانت عليه.

في أحيان كثيرة، يصل صيد أبو باسل، المقيم في مخيمات مدينة دركوش بريف إدلب، إلى 50 كيلوغراماً في اليوم الواحد، من عدة أنواع من الأسماك، أما اليوم لا يتعدى صيده اليومي خمسة كيلوغرامات “من سمك العنكليس فقط”، بحسب قوله.

الصيد في مياه العاصي، هي مهنة أبو باسل منذ 13 عاماً، وسبيله للإنفاق على عائلته بعد “طرح الأسماك في السوق المحلية”، لكن في أواخر تموز/ يوليو وآب/ أغسطس، صدم كما غيره من الصيادين بـ”نفوق أكثر من 90% من الثروة السمكية في العاصي”، بحسب تقديره.

وبدأت ملامح تلوث مياه العاصي تظهر بشكل واضح على الكائنات الحية في النهر، وعلى رأسها الأسماك، متأثرة بـ”المخلفات الناتجة عن معمل سكر تل سلحب”، بالتزامن مع إعادة تشغيله بعد توقف دام ثماني سنوات، كما أكدت مصادر محلية عدة لـ”سوريا على طول”.

وعائلة أبو باسل واحدة من أصل نحو 130 عائلة، في منطقة سهل الغاب بريف حماة الشمالي، الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام، تأثرت بتلوث العاصي، كونها تعتمد على صيد الأسماك من النهر، منذ عام 2016، “كمصدر دخل وحيد”، كما أوضح.

تدمير سبل العيش 

قبل ثماني سنوات، انتعش الصيد في مياه العاصي نتيجة انسحاب قوات النظام السوري والقوات الروسية من ناحية الزيارة في منطقة سهل الغاب الشمالي، حتى صار سهل الغاب مقصداً للصيادين الذين يقطعون مسافات طويلة.

ورغم قرب مناطق الصيد من خطوط تمركز قوات النظام، يخاطر الصيادون بحياتهم للوصول إلى ضفاف النهر بطرق مخفية، من قبيل: عبور طرق وعرة ضمن ترع مائية جافة، أو في جنح الظلام، تفادياً للاستهداف من عناصر النظام المتمركزين على بعد 2 كيلومتراً، الذين أقدموا على قتل عدد من الصيادين في السنوات الماضية، كما قال الصياد أحمد المرعي لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن “وفرة الأسماك وتنوعها، يحقق عيشاً كريماً للصيادين، وهو ما يدفعنا إلى المخاطرة بحياتنا”.

مع إعادة تشغيل معمل سكر تل سلحب وطرح مخلفاته، في شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس الماضيين، في مياه العاصي “صارت مياه النهر تقذف أسماكاً ميتة على ضفتيه، ولم تعد شباكنا تصطاد أسماكاً وكائنات أخرى نافقة، ولم نعلم آنذاك سبب نفوقها”، قال المرعي.

يحتوي نهر العاصي على العديد من أنواع الأسماك، أبرزها: الفرخ، المجناس، الرومي، الكرسين، الكارب، المطواق، البوري، الجرّي ، العنكليس، والسلور، إضافة إلى كائنات نهرية أخرى، من قبيل: الضفادع، السلطعون، وأفاعي الماء وغيرها من الكائنات، وفقاً للدكتور مصطفى (اسم مستعار)، خبير الثروة الحيوانية في جامعة حلب، طالباً من “سوريا على طول” عدم الكشف عن هويته لدواع أمنية.

إن توقف معمل سكر تل سلحب عن العمل لسنوات، وعدم رمي مخلفاته في العاصي أدت إلى “غنى النهر بالكائنات الحية، وجعله بيئة خصبة لتكاثر الأسماك”، لكن “رمي مخلفات معمل تل سلحب مجدداً قتلت الكائنات الحية فيه، ومن شأنها تدمير الأميّات الأساسية للثروة السمكية في النهر بمنطقة سهل الغاب ما ينعكس على وفرة السمك الموجود ووزنه وتنوعه”، بحسب الدكتور مصطفى. 

تلوث العاصي ليس جديداً، إذ منذ ثمانينات القرن الماضي عملت إدارة معمل السكر على “تصريف مخلفات المعمل الناتجة عن غسل الشوندر السكري، المستخدم في إنتاج السكر، في العاصي”، كما قال المهندس الزراعي خالد الدرغام لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن إعادة تشغيل المعمل وطرح مخلفاته تهدد الكائنات الحية في مياه النهر.

وأضاف الدرغام: “تحتوي مخلفات المعمل على مواد كيميائية وزيوت”، تتحول هذه المواد مع بعضها إلى “مواد سامة، وتشكل طبقة تطفو على سطح الماء، تتسبب  هذه الطبقة في فقدان مياه النهر للأوكسجين”، ما يؤدي بالنتيجة إلى “اختناق أعداد كبيرة جداً من الكائنات الحية في النهر وتسممها”.

إضافة إلى ذلك، تحتوي مخلفات معمل السكر على “تراكيز عالية من الكلوريد والنترات والمغنيسيوم والكالسيوم والكبريتات”، كما أوضح الدكتور مصطفى، وتؤدي هذه المواد إلى “تغيير درجة حرارة النهر ودرجة الحموضة ومستويات الأوكسجين”، ما “يعطل العمليات البيولوجية والبيئات المادية الأساسية للحياة النهرية”، ويتسبب في “انخفاض حاد في المواد الغذائية التي يحتاجها جسم السمكة، وبالتالي يهدد الحياة المائية وعمليات تكاثر الأسماك والكائنات الحية النهرية بشكل عام”، بحسب قوله.

مكرهة صحية

في مطلع آب/ أغسطس الماضي، نشر عدد من سكان البلدات القريبة من معمل سكر تل سلحب، من قبيل تل التتن وتل الغار، الواقعتين تحت سيطرة النظام السوري، مقاطع فيديو تظهر تلوث مياه نهر العاصي ونفوق أسماك فيه، مع تحميل المسؤولية لإدارة معمل السكر.

تالياً، نقلت صحيفة الوطن الموالية، في أواخر تموز/ يوليو، شكوى سكان المنطقة إلى “الهيئة العامة لتطوير الغاب”، وبدوره تفقد مدير الثروة الحيوانية في الهيئة، الدكتور مصطفى عليوي، “المصرف B المتفرع من العاصي، في موقع تل الغار وتل التتن، وتبين نفوق أعداد من الأسماك والسلطعان” بسبب تلوث المياه، كما أوضح للصحيفة.

لكن رامي عيسى، مدير معمل سكر تل سلحب، عبر عن استغرابه مما وصفه “الحملة ضد المعمل”، مشيراً إلى أن “نواتجه تحول لأحواض ترابية بأرض الشركة، وكانت تعزّل كل سنة، وفيه صرف صحي”، كما جاء في تصريحه لـ”الوطن”، معتبراً أن “هناك من لا يريد المعمل أن يعمل وينتج، ويعمل كل ما بوسعه لذلك!”.

تصريحات عيسى تتناقض مع ردّ أحمد الأحمد (اسم مستعار)، الذي عمل سابقاً في معمل سكر جسر الشغور، مؤكداً أن سياسة طرح المخلفات في مياه العاصي عملية ممنهجة، ولا تقتصر على معمل تل سلحب، وإنما على معمل سكر جسر الشغور أيضاً، حيث كانت تطرح المخلفات في تموز/ يوليو وآب/ أغسطس، أي في موسم الشوندر السكري، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.

تسهم هذه المخلفات بانبعاث روائح كريهة في شهري تموز وآب من كل عام يعمل معمل تل سلحب فيه، ما يدفع العشرات من السكان إلى “الابتعاد عن منازلهم ليلاً هرباً من الروائح”، كما قال رفعت كعيد، ابن بلدة القرقور المحاذية لنهر العاصي في منطقة سهل الغاب، الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة.

وأضاف كعيد في حديثه لـ”سوريا على طول” أن “هذه الروائح كانت تتسبب للبعض بحالات إغماء، لا سيما في ساعات الليل حيث تفوح بشكل قوي”، ورغم ذلك “كان مركز حوض العاصي الزراعي الموجود على ضفة النهر الشرقية لمنع التلوث صامتاً رغم أنه المركز المسؤول عن النهر وحمايته وتنظيم مياه الري فيه”.

تاريخ مسموم

في عام 1978 صدر المرسوم رقم 1191، القاضي بإنشاء معمل سكر تل سلحب بالقرب من بلدة سلحب غرب حماة، كمؤسسة تابعة لوزارة الصناعة، بطاقة استيعابية تصل إلى 4 آلاف طن شوندر سكري يومياً، معتمداً على محصول منطقة سهل الغاب، ذات السهول الخصبة المشتهرة بزراعته.

حتى عام 1981، وهو العام الذي بدأ فيه معمل تل سلحب بالعمل، كان أهالي سهل الغاب يزرعون الشوندر السكري بقصد تقديمه كعلف لقطعان الماشية، لكن بعدها صار المحصول يورّد للمعمل بأسعار مناسبة أكثر من تحويله لأعلاف، ما شكل خطوة قوية في تدعيم الاقتصاد ووسائل العيش لمزارعي المنطقة، بحسب المهندس الزراعي موسى العزاوي.

في عام 2014 توقف المعمل بسبب تدني زراعة المحصول في البلد، وبقي مغلقاً لمدة ثماني سنوات، وكان من أسباب توقفه تحديد سعر شراء الكيلو غرام الواحد من الشوندر السكري بـ17 ليرة سورية (0.05 دولار أميركي، بحسب سعر الصرف في السوق الموازية المقدر بقرابة 290 ليرة، آنذاك)، وهو مبلغ “لا يغطي تكاليف الزراعة ومصاريفها”، كما قال المزارع ماجد آصف المسعود، الذي ينحدر من منطقة سهل الغاب، لـ”سوريا على طول”، ما دفع المزارعين إلى العزوف عن زراعة الشوندر.

في عام 2022، عاد معمل تل سلحب إلى العمل، وحددت الشركة سعر شراء الطن الواحد بـ400 ألف ليرة سورية (82 دولاراً بحسب سعر الصرف الحالي في السوق الموازية، البالغ 4875 ليرة للدولار الواحد).

انتعاش لم يدم

كان عام 2014 فارقاً من حيث الثروة السمكية في نهر العاصي، إذ صارت مياهه منذ إغلاق معمل تل سلحب وحتى تموز/ يوليو 2022 بيئة خصبة لتكاثر الأسماك والكائنات الأخرى بأنواعها وأوزانها الكبيرة، كما قال عدد من الصيادين لـ”سوريا على طول”.

“شهدت فترة توقف المعمل طفرة في الصيد ووفرته للصيادين والهواة، خصوصاً أسماك الكرب والعنكليس”، ما انعكس إيجاباً على دخل الصيادين، كما قال الصياد فادي الأسمر، من أبناء منطقة سهل الغاب لـ”سوريا على طول”. كان يجني قبل عام 2014 قرابة 3 دولارات في اليوم الواحد، لكن منذ عام 2017 يجني 10 دولارات يومياً، كمعدل وسطي، مع مراعاة تدهور قيمة الليرة السورية “وهو مبلغ مثالي للصيادين في المنطقة”، بحسب الأسمر.

يلعب توقف معمل تل سلحب دوراً مهماً في عودة تكاثر الأسماك بمياه العاصي، لأن “مخلفات معمل السكر وما تحويه من سموم كانت تقتل الأسماك وتحرمهم من عملية التكاثر والنمو لفترة شهرين كل عام، وهما شهري تموز وآب”، بحسب المهندس الزراعي والخبير بالأسماك رامي الحسن.

وكان النهر “يعوض خسارته من الأسماك بتلك القادمة من حمص بعد شهر آب”، أي بعد انتهاء موسم الشوندر السكري، كما أوضع الحسن لـ”سوريا على طول”.

“حبر على ورق”

طيلة عمله كموظف في معمل سكر تل سلحب، بين عامي 1995 و2008، لم يشهد المعمل سوى خمس زيارات لوفود بيئية للاطلاع على الواقع البيئي للمعمل، كما قال رامي العلي لـ”سوريا على طول”.

خلال فترة عمله كانت “المخلفات تُفرغ في مياه النهر سنوياً، ولا يوجد قنوات خاصة لتصريف مخلفات غسيل الشوندر وما ينتج عن عملية الطبخ التي يضاف إليها مواد كيميائية”، بحسب العلي، الذي أكد أن “المصرف الوحيد يصب في نهر العاصي”، وكان يتم ذلك “أمام أعين لجنة البيئة دون أن تحرك ساكناً!”.

تفسيراً لذلك، قال المهندس زكريا عرنوس، رئيس مجلس إدارة محلية سابق في محافظة حماة، أن المشكلة ليست في تقييم المشكلة، لأن “التقارير والتعاميم والكتب تصل من وزارة البيئة للدوائر الرسمية، لكنها تبقى حبراً على ورق، في نظام ينتهج النهج الأمني، وفي ظل انتشار المحسوبيات”، على حد وصفه لـ”سوريا على طول”.

ويبدو أن الأزمة البيئية متجذرة في سوريا، إذ ما تزال الانتهاكات بحق البيئة “تحظى بقدر قليل من الاهتمام سواء على المستوى الرسمي أو على مستوى الأفراد”، بحسب الناشط البيئي زاهر هاشم، معتبراً أن التشريعات للحد من التلوث البيئي غير كافية، لأن “القوانين لم تصل تخلق مستوى رقابة بيئية فاعلة”.

تحظر المادة 18 من القانون 49، المعروف بـ”قانون نظافة وجمالية الوحدات الإدارية” “إلقاء مخلفات الزيوت والشحوم والمواد السائلة المشابهة بجميع أنواعها في الحاويات والمسطحات المائية والمجاري العامة والأنهار ومجاري المياه وحرمها وفي العراء”، كما تحظر المادة 27 “تحويل المياه المالحة إلى مجاري الأنهار والبحيرات والبحار”، ويعاقب مرتكب هذه المخالفة بالغرامة المالية من ثلاثمائة إلى ألف ليرة سورية (0.6 إلى 0.20 سنتاً أميركياً)

وعدا عن أن “العقوبات غير الرادعة، والفساد والترهل الإداري في الوزارات والسلطة القضائية يفسح المجال أمام مزيد من الانتهاكات بحق البيئة”، كما قال هاشم لـ”سوريا على طول”، فإن “غياب الرقابة الذاتية عند المدنيين، وغياب الوعي البيئي والتربية البيئية” عامل إضافي لعدم إدراك المجتمع بالخطر المحدق بالبيئة.

في المقابل، تغيب الجمعيات والمنظمات البيئية الفاعلة نتيجة القيود التي يفرضها النظام -وهو مصدر تلوث المياه- على تأسيس مثل هذه الجمعيات المستقلة أو الانتساب إليها، بحسب هاشم، ناهيك عن عدم قدرتها إن وجدت على “مراقبة عمل المؤسسات الحكومية وإلزامها بحماية البيئة”.

مع انتهاء موسم الشوندر السكري لهذا العام، تطوى قضية مخلفات معمل تل سلحب، ولكن “هذا لا يعني أن النهر تعافى من هذه المخلفات”، كما قال المهندس الزراعي خالد الدرغام، معتبراً أن الاستمرار في سياسة تصريف النفايات في مياه العاصي “تهدد مستقبل الثروة السمكية في النهر لفترات طويلة، وسيكون لها نتائج كارثية مستقبلاً”.

شارك هذا المقال