7 دقائق قراءة

جراح أعصاب في حلب: الإيمان هو أحد أهم الأسباب التي تبقينا موجودين

شهد شهر تشرين الأول الماضي، أكبر موجة قصف على المنشآت […]


20 يناير 2016

شهد شهر تشرين الأول الماضي، أكبر موجة قصف على المنشآت الطبية خلال شهر واحد، منذ اندلاع الحرب في سوريا، وفق ما قالت دونا مكاي، المديرة التنفيذية لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان (PHR).

وقالت مكاي إن مجمل القنابل التي يتم قصفها الآن هو من الغارات الروسية، ولاسيما في مناطق شرقي حلب، الواقعة تحت سيطرة الثوار، حيث أعدت (PHR) تقريرها.

وأدى أول هجوم بالبراميل المتفجرة، في 30 كانون الثاني 2014 على منشأة طبية، شرقي حلب، إلى قتل طبيب وعضو في فريق مكافحة شلل الأطفال في حملة لتلقيح الأطفال.

ولطالما كانت البراميل المتفجرة الملقاة من مروحيات النظام، وحتى الصواريخ المطلقة من المقاتلات الحربية، تنصب جميعها على المنشآت الطبية في حلب.

وصحيح أن نظم العناية الطبية في حلب، تعايشت مع ذلك بنقل العديد من مراكزها الصحية إلى الأقبية، إلا أن التهديد المباشر من الموت قصفاً، كان السبب الأساسي في حركة النزوح الجماعي للكوادر الطبية في مدينة حلب، وفق تقرير لـ(PHR)، نشر  في تشرين الثاني. والقلة من الأطباء وأعضاء الكوادر الطبية الذين بقوا “يعلمون أن النجاة والحياة تكاد تكون مستحيلة”، لولا إصرارهم وإرادتهم على البقاء، وفق ماقالت مكاي للصحفي في سوريا على طول سامويل كيكي.

  حقوق نشر الصورة لأطباء من أجل حقوق الإنسان

وقالت مكاي “الطلب الأول الذي ستسمعه من الأطباء الذين تقابلهم هو: فقط دعوهم يتوقفون عن القصف حتى نستطيع أن نقوم بعملنا”. وأضافت يجب أن نحميهم.

والجزء الأول من هذه المقابلة كان مع دكتور رامي كلزي أحد أطباء الجراحة العصبية الذين لم يبق منهم سوى هو وزميل له في مدينة حلب، وأحد الشخصيات الطبية الـ24 الذين قابلتهم منظمة (PHR)، في تقريرها عن حلب. (إقرأ الجزء الأول من هنا)

وقال كلزي، لمراسلة سوريا على طول غاردينيا عاشور، “للأسف الغارات دائماً تأتي مباغتة”، وأضاف “فمباشرة يتملكنا هذا الشعور بالتوجس والخوف من أنه، والله أعلم، كم عدد الإصابات التي ستأتينا، ونتوقع قدوم إصابات سيئة، وعدد كبير من الشهداء، وكذلك إعاقات دائمة كثيرة (بتر أو فقدان أعضاء)”.

عند وجود تحذير بهجوم أو غارة جوية، فما الإجراءات التي تتخذونها؟

تحضير مسبق للغارة في المشفى: للأسف ولا مرة حصل هذا فدائما تأتي مباغتة،

تحذير خلال ربع ساعة: إحساس بالخوف إحساس بالاستياء، لأنه مباشرة نتوقع قدوم إصابات سيئة، ويتوقع عدد كبير من الشهداء وكذلك إعاقات دائمة كثيرة (بتر أو فقدان أعضاء) فمباشرة يتملكنا هذا الشعور بالتوجس والخوف من انه، والله اعلم، كم عدد الإصابات التي ستأتينا. يعني حزناً على الناس في الحقيقة. الاستعدادات هي أن نتأكد من وجود الكادر كاملاً، النائم نوقظه، نتفقد الإسعاف وغرفة العمليات إذا كان يوجد نقص بالمواد نحاول تأمينها، نتفقد الأدوية، والناقصة نكملها، نتفقد أسرّة العناية وأسرّة الجناح، إذا كان لدينا وقت ربع ساعة أو ثلث ساعة نتفقد المرضى الموجودين بالجناح إذا تحسّن وضعهم، ولو أقل من 100% أو أصبح قريباً من هذه النسبة، نقوم بتخريجهم إلى البيت لأنه يجب أن نفرغ الجناح لاستقبال مرضى جددا، لأنّ عدد الاسرة عندنا فقط 15 أو 20 سريراً. طبعاً هذا نادراً ما يحدث، لأنه بشكل عام إذا كانت الضربة بعيدة لا نشعر بها إلا مع بدء وصول الإصابات إلينا، وإذا كانت الضربة قريبة فالوقت الذي نملكه محدود جداً.

ما هو إحساسكم الأول عندما تكون الأعداد القادمة أكبر من توقعاتكم؟

في البدايات عندما لم يكن لدينا خبرة بإدارة هكذا عدد من الإصابات، نعم كنا نقف للحظات مدهوشين لا نعرف كيف ندبر الموضوع، وخاصة أن الوعي الصحي منخفض في بلدنا بشكل عام، فطريقة الإسعاف قد تكون خاطئة، والنقل يكون بسيارات مدنية بشكل عام. يكون الناس المصابون ومرافقيهم مصابون بحالة ذهول  يصرخون ويستغيثون، فتعم حالة فوضى في قسم الإسعاف، هذا الامر في البدايات، لكن بعد ذلك تعودنا على هذا الامر، وأصبح لدينا خبرة في إدارته.

إلى الآن تأتينا في بعض الأحيان أعداد أكبر مما هو متوقع، ففي هكذا حالة نقف لحظات عاجزين لا نعرف كيف نتصرف، لأنه أصبح لدينا كم كبير من الجرحى بما يفوق استيعاب غرف العمليات وأسرّة العناية المشددة، وسيارات الإسعاف التي عادة ما تكون في مكان الضربة تنقل الجرحى، ولا يكون لدينا سيارات لنقل الجرحى لمشافي اخرى، وعادة نحتاج فترة لا تتجاوز عشرة دقائق حتى نستطيع ان نسيطر على الوضع ونبدأ بتحويل المرضى الفائضون عن قدرة المشفى على الاستيعاب للمشافي القريبة او الى الحدود التركية.

مالذي يدفعك للإستمرار، والسماء تمطر موتاً، ألم تنتابك لحظات يأس، أن الوضع ميؤوس منه، مالذي يحملك على البقاء، الواجب الإنساني، الإيمان، أو أنه عملك؟ أم أن الجرح الساخن يمشي بك لعلاجه دونما تفكير؟

في الحقيقة الموضوع معقد هنا قليلاً، فهناك عدة أسباب تبقينا موجودين، أحد أهم الأسباب أولاً: الإيمان، فباعتبارنا أناس مؤمنون بوجود الله، لدينا قناعة أنه سيكون هناك فرج قريب.

ثانياً: الشريحة الموجودة بشكل عام هي شريحة مثقفة قارئة لتاريخ الدول بشكل عام، سواء التاريخ القديم أو الحديث، وتعرف أن لكل حرب نهاية، وهذه النهاية إن استطعنا أن نرسمها بأيدينا ستكون نهاية صحيحة، فنحن نعرف أن الذي حل بسوريا شيء سيء للغاية، ولكن بغير دول في الحرب العالمية الأولى والثانية حدث فيها مثل ما حدث في سوريا وربما أسوأ. ومع ذلك استطاعوا الوقوف على أقدامهم (النهوض من جديد) وذلك بفضل الناس الذين ظلوا في البلد ولم يتركوها.

من هذين المبدأين الأساسيين، نحن موجودون دائماً في سوريا.

والمبدأ الثالث هو نداء الإنسانية، فنحن نعرف أن الباقين منا عددهم قليل جداً فإن نحن تركنا، فهذا يعني أنه لم يبق أطباء في المناطق المحررة، وبالتالي ستفرغ المشافي. وأنت تعلمين أن المشافي أو المراكز الطبية بشكل عام هي سبب بقاء أي مدينة أو منطقة على قيد الحياة، فإن توقفت الخدمات الطبية، فالناس إما ستموت أو تهاجر، فنحن نعلم يقيناً أننا إن تركنا عملنا فالناس ستضيع وبالتالي نداء الإنسانية يجبرنا أن نبقى.

وبصراحة مهما كان الإنسان قارئ للحرب، فهو ليس كمن يعيش الخطر نفسه، وخاصة في بلد كسوريا وخاصة مدينة كحلب، والتي تعتبر من أخطر مدن العالم وخاصة مشفانا تحديداً، فهو أكثر مستشفى مستهدف، حيث تعرض لنحو 35 استهدافاً، سواء أكان بالبراميل أو بالطيران، منها ثمانية إصابات ناجحة، فليس هناك شخص يمكن أن يكون متأقلماً تماما مع هكذا وضع، ولكن مستعدين نفسياً فنعم، موجودين هنا ونحن نعرف أن الكثير من زملائنا إما ماتوا تحت التعذيب أو لايزالون بالمعتقلات إلى الآن أو ماتوا بالقصف، فنحن نعرف أن مصيرنا واحد من هذه الثلاثة، ويمكن أن يكتب لنا رب العالمين العمر ونستمر ونبني بلدنا.

مع تدمير المنشآت الطبية، هل أصبح وجود بعض الأمراض المنتشرة سابقاً أكثر خطرا، وهل نسبة الوفيات الأكبر تعود للقصف أو هذه الأمراض؟ وما هي الأمراض المتتشرة حديثاً وهل هناك خطر من انتشار أوبئة؟

ربما انا لا استطيع الإجابة بدقة، لأني لست طبيب رعاية صحية او طبيب اسرة او تغذية، لكن بشكل عام نحن رأينا احصائيات كثيرة والسبب الاكبر للوفيات على الاطلاق هو القصف، الأمراض التي كانت منتشرة في حلب من قبل هي اللشمانيا والتهاب الكبد الوبائي، طبعا في وقت الازمة هذه النسب ارتفعت بشكل كبير لعدة أسباب أولها وأهمها: وجود النفايات التي لا نستطيع أن نتخلص منها بشكل آمن ونظيف، وثانيها: انخفاض الوعي الصحي الموجود بالمجتمع، المتزامن مع قلة المرافق الصحية. ثالثها: قلة الكوادر الصحية بحد ذاتها، مثلاً في كل حلب المحررة يوجد فقط 3 اطباء اطفال وطبيبين نسائية وسبع او ثمانية اطباء جراحة عامة وطبيبين جراحة عصبية، فقلة الكوادر الصحية هي سبب لانتشار الامراض.

اضافة لوجود امراض كانت منسية عادت للظهور مثل شلل الاطفال والحصبة وبلاغات عن وجود مرض الكوليرا. والسبب الاساسي لهذه الامراض هو عدم توفر اللقاحات وانتشار النفايات كما ذكرنا. ومتوقع انتشار الكوليرا لانه لا يوجد له لقاح وهو سريع الانتشار (نسميه شديد الفوعة)، بمجرد ان الجرثومة تلامس الجسم البشري مباشرة تنقل العدوى، فمن الممكن ان تصل الى الوباء، لا قدر الله.

أحياناً يضطر الطبيب الى اغلاق زر العاطفة في داخله حتى يستطيع أن يكمل، لذا أود أن أسألك إن كنت قد مررت بهذا الشعور؟ بمعنى آخر هل تضطر لتجميد عواطفك كي تستطيع متابعة عملك؟

يصبح الطبيب، شيئاً فشيئا، تقنياً في عمله. ليستطيع أن يستمر يضطر إلى يطفئ بعضاً من العاطفة، أقصد أن الإنسان العادي قد يصاب بالذهول أو حتى الإغماء من رؤية هكذا إصابات، هل انتابك شعور الصدمة أو التعلق أو أنك غير قادر على ضبط مشاعرك أمام  جريح ،إصابته بالغة؟

نعم نحن من خلال مهنتنا بشكل عام حتماً سيكون عندنا القدرة على ضبط النفس وإدارة الموقف اكثر من الناس العاديين، لكن هذا لا يعني أننا لا نتعاطف مع الجرحى أو لا نشعر باستياء في داخلنا، فالتعاطف يبقى موجوداً والتاثر يبقى موجوداً. دائما عندما نرى إصابة سيئة أو حتى إصابة بسيطة نتأثر ونشعر بالانزعاج ولكن هذا الشعور يبقى حبيس أنفسنا لا نظهره للمريض حتى لا تزداد حالته سوءا.

نتأثر، نتعاطف، لكن لا نصاب بصدمة هستيرية او ذهول، بحيث نصبح عاجزين عن العمل.

بالنسبة لسؤالك إن كان حدث مرة وشعرت بالصدمة أو التعلق أو العجز، نعم، وخاصةً عندما تكون هناك إصابات سيئة عند الأطفال لدرجة أننا نبكي. حتماً نتعاطف مع البالغين لكن تعاطفنا مع الأطفال أكبر.

اذكر مرة في إحدى المجازر، وصل إلى الاسعاف خلال خمس دقائق أكثر من سبع أو ثمان أطفال ميتين خنقاً تحت الأنقاض، فكل ما استطعنا فعله هو محاولة إنعاش قلبي رئوي، وطبعاً في هكذا حالات 99% الإنعاش لن يفيد لأن الدماغ منقطع عنه الأوكسجين لفترة طويلة. حينها شعرت بانزعاج شديد وبكيت، ولكن لا يمكن فعل شيء فالطفل ميت.

ما أريد قوله أيضاً أنه أتمنى المساعدة اذا كان هناك إمكانية لتغطية النقص الموجود عندنا، وخاصة للأمراض المزمنة التي ذكرتها مثل مرض القصور الكلوي والأمراض القلبية المزمنة ومرضى السرطانات. لو نستطيع ان نوفّر لهم مراكز ونوفّر لهم الأدوية المطلوبة، لأن هؤلاء في الحقيقة بعد أربع سنين من الازمة بدأوا يشكلون ثاني أكبر سبب للوفيات بعد الإصابات الحربية، فنحن بحاجة ماسة لهذه المساعدات.

وأطلب مثلما أطلب دائماً من منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، الضغط على حكومات الدول للضغط على النظام السوري والحكومة الروسية لوقف القصف بالطيران، على الأقل وقف قصف المنشآت الصحية. نحن بخطر ولكن نريد أن نبقى في بلدنا لذا أعينونا على ذلك وتحملونا على مطالبنا.

شارك هذا المقال