7 دقائق قراءة

حكومة دمشق في خضم صراع قديم-جديد على القمح

مع مضي قرابة ثلاثة أسابيع على بدء موسم حصاد القمح في سوريا، وفي ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، تبدو دمشق متلهفة لتأمين ما تحتاجه من هذه المادة الأساسية


عمان- مع مضي قرابة ثلاثة أسابيع على بدء موسم حصاد القمح في سوريا، وفي ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، تبدو دمشق متلهفة لتأمين ما تحتاجه من هذه المادة الأساسية.

إذ يعتبر الخبز، وهو الغذاء الأساسي في البلد، خطاً أحمر بالنسبة للعديد من السوريين، لاسيما في أوساط الموالين للحكومة. ويبرز العجز المتوقع في تأمين الخبز في وقت تسعى فيه الحكومة السورية إلى كبح جماح الأسعار المرتفعة في أنحاء البلاد، مع إلقاء دمشق باللائمة عن ذلك على المحتكرين والتجار والمهربين.

وفي إشارة إلى صعوبة الوضع، اعترف بشار الأسد في الرابع من أيار(مايو) الحالي، خلال اجتماعه بـ”المجموعة الحكومية المعنية بمواجهة جائحة كورونا وتداعياتها” بأن “التحدي الأكبر بالنسبة لنا اليوم على المستوى الداخلي هو تأمين الاحتياجات اليومية وخاصة المواد الغذائية”. تلا ذلك بأسبوع إصدار الأسد مرسوماً يقضي بإنهاء تسمية الدكتور عاطف النداف وزيراً للتجارة الداخلية وحماية المستهلك، وتعيين طلال البرازي، محافظ حمص، بدلاً منه. 

وبتوليه واحداً من أهم، لكن أصعب المناصب، تقع على عاتق الوزير الجديد -الذي يُعرف بقربه من عائلة زوجة الأسد، أسماء الأخرس- مهمة إبقاء أسعار المواد الغذائية ضمن مستويات معقولة، وردع المحتكرين والمهربين والمتلاعبين بالأسعار.

إلا أن تصريحات الأسد وإحداث تغييرات في مناصب عليا لا يغيران شيئاً في المشاكل المتجذرة في القطاع الزراعي بسوريا، ولاسيما على صعيد إنتاج القمح الذي اتخذ منحى تنازلياً متواصلاً على مدى السنوات التسع الماضية. فمنذ العام 2011، انخفض إنتاج القمح في سوريا إلى النصف تقريباً، من معدل يبلغ نحو 4.1 مليون طن سنوياً قبل الحرب إلى 2.2 مليون طن في العام 2019. وهو الأمر الذي انعكس بشكل كبير على جودة الخبز وكمياته وسعره.

تدهور سابق على 2011 

لا يعد تهميش الزراعة في سوريا، ولاسيما تدمير الإنتاج المحلي للقمح، نتيجة لتطورات ما بعد العام 2011 فحسب. 

ففيما تحولت البلاد من مستورد للقمح إلى مُصدِّر له في تسعينات القرن الماضي، شهد منتصف العقد الأول من القرن الحالي انخفاضاً في الإنتاج الزراعي مع تعزيز الأسد لسياسة التحرر الاقتصادي، ضمن ما يعرف باقتصاد “السوق الاجتماعي”. وهو الاستراتيجية التي تم تبنيها في العام 2005، وتركزت الألوية فيها على تنمية القطاعات الأكثر ربحية، مثل العقارات، والمصارف، والسياحة، والاتصالات، من خلال زيادة الاستثمار الخاص والأجنبي.

وما لبث، نتيجة ذلك، أن ظهر جيل جديد من رجال الأعمال، مثل رامي مخلوف وفراس طلاس، الذين نمت ثرواتهم خلال هذه الفترة بشكل مذهل، نتيجة لعبهم دور وسطاء بين سوريا ورأس المال الدولي. في الوقت ذاته، كانت القيادة البعثية القديمة التي لطالما مثلت المنتجين الريفيين تغرق في التهميش.

هكذا، هبط النمو الزراعي بين العامين 2005 و2009، إلى ما معدله 1.5٪ سنوياً، دافعاً ما يقارب 600,000 عامل –أو ما نسبته 44٪ من العمال الزراعيين– خارج القطاع. كما انخفضت المساحة الإجمالية المخصصة لإنتاج القمح، بين العامين 2007 و2008، بشكل مذهل بلغ 180,800 هكتار.

الزراعة في خضم الصراع

خلال الحرب الدائرة حتى اليوم، عانى القطاع الزراعي في سوريا أضراراً إضافية غير مسبوقة. إذ وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، تندرج سوريا ضمن الدول العشر الأكثر معاناة من انعدام الأمن الغذائي الحاد في العام 2019، حيث يقدر عدد السوريين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بحوالي 6.5 مليون إنسان.

ففي السنة السابقة، ونتيجة للحرب والجفاف الشديد، بلغ إنتاج القمح بالكاد 1.2 مليون طن، فيما يعتبر أدنى مستوى منذ العام 1989. وقد أثر الجفاف بشكل أساسي على المحافظات الشمالية، الحسكة والرقة وحلب ودير الزور، إضافة إلى حماه في وسط البلاد، والتي تنتج 96٪ من إجمالي القمح المحلي.

فاقم الأمور سوءاً الحرائق في العام 2019، والتي تُعزى إلى حد كبير إلى ارتفاع درجات الحرارة وقوة الرياح. إذ أتت تلك الحرائق على ما يقارب 85,000  هكتار من الأراضي الزراعية، ما جعل الاستيراد بديلاً حتمياً. وقُدِّرت واردات الحبوب بـ7.5 مليون طن، معظمها من روسيا.

ولا تقتصر أهمية الزراعة في سوريا على تأمين قوت المواطنين؛ إذ هي أيضاً مصدر دخل مهم للعديد من السوريين. وبحسب تقرير لـ”فاو”، ساهمت الزراعة بنسبة 26% من الناتج المحلي الإجمالي السوري، وقدمت الحماية لحوالي 6.7 مليون إنسان، لاسيما مع اعتماد أكثر من 75% من الأسر الريفية على زراعة ما يستهلكونه.

وفيما كان تهميش قطاع الزراعة في سوريا سبباً رئيساً للهجرة من المناطق الريفية، فإن الصبغة الريفية البارزة للثورة والحرب التي أعقبتها، دفعت قسماً كبيراً آخر من سكان الأرياف إلى الفرار نحو المناطق الحضرية أو مغادرة البلد ككل. كما شكل دمار البنية التحتية الزراعية (والتي تشمل أنظمة الري، والبذار، والمعدّات، والجرارات، ومحطات الضخ) عائقا أمام عودة السوريين، لاسيما إلى شرق البلاد. 

سعر القمح رهن الانقسام السياسي

تاريخياً، تعد منطقة شمال شرق سوريا، الخاضعة حالياً لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتتولى إدارتها ما يسمى “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” (الكردية)، سلة خبز البلاد. وفي العام 2019، تم إنتاج 800,000 طن من القمح في مناطق الإدارة الذاتية، أو ما يقارب نصف إنتاج القمح المحلي للبلاد في ذلك العام. أما في العام الحالي، وكما يذكر الموقع الاقتصادي المتخصص “سيريا ريبورت” (تقرير سوريا)، فقد زُرع  72% من إجمالي قمح سوريا في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية. 

لهذا، فعلى دمشق التنافس مع الإدارة الذاتية لشراء القمح من المزارعين في شمال شرق البلاد. ففي السنة الماضية، اشترت الإدارة الذاتية نصف إنتاج القمح في البلاد. وفي هذا العام، عرضت دمشق سعر 225,000 ليرة سورية للطن الواحد، في محاولة منها للمزايدة على الإدارة الذاتية. لكن ماهي إلا أشهر حتى رفعت الأخيرة سعر الشراء ليتناسب مع السعر الذي قدمته الحكومة السورية. كما تدرس “الإدارة” زيادة سعر شراء القمح بشكل أكبر، وفقاً لمركز معلومات شمال وشرق سوريا في مدينة القامشلي، لكن قراراً نهائياً بهذا الشأن لم يتخذ بعد.

واختيار المزارعين لبيع حصادهم من القمح للإدارة الذاتية أو دمشق، هو أمر يعتمد على عدة عوامل، من بينها الضغط السياسي الذي تمارسه عليهم كلتا السلطتين السياسيتين.

في هذا السياق، قال سلمان محمد سليمان من القامشلي، لـ”سوريا على طول”، إنه اختار البيع للإدارة الذاتية “لأنهم أعطوني سعراً جيداً”. مضيفاً أنه يتعاقد مع “الإدارة” في كل عام لبيع حصاده من القمح.

وتمكنت الإدارة الذاتية في العام الماضي من شراء نصف حصاد القمح في البلاد، رغم أنها كانت تشتريه بسعر أقل من الذي تقدمه دمشق بحوالي 25,000 ليرة للطن، ما ينبئ بأنها ستتمكن من شراء كمية مماثلة، إن لم تكن أكبر هذا العام.

ونظراً لغلاء الأسعار الذي تعاني منه البلد، فإن من غير المحتمل لجوء المزارعين إلى تخزين محاصيلهم بانتظار مزيد من ارتفاع الأسعار، كما فعل كثيرون في العام الماضي. وهو ما ستترتب عليه زيادة كمية المعروض، وإن بشكل قليل، من القمح المتاح لكل الإدارة الذاتية ودمشق. وبحسب سليمان، فإن “أحداً لا يفكر في الانتظار حتى السنة المقبلة لبيع محصوله. فالجميع فقراء والإدارة الذاتية تدفع الكثير من المال”.

خطر الحرائق يلوح في الأفق

بدأت محافظة الرقة حصاد محصولها من القمح في التاسع من أيار(مايو)، بكثير من الحذر ولربما التوتر بين المزارعين، مع تداول صور حرائق متفرقة في شمال شرق سوريا عبر تطبيق “تلغرام” وفي مواقع الإعلام المحلي، وبما يذكر بحرائق العام الماضي. 

لكن هذا العام، ذكرت اللجنة الزراعية التابعة للإدارة الذاتية أنه تم رش 67,000 لتر من مبيد الأعشاب على امتداد الطرقات المحيطة بالحسكة لتشكيل حزام أمان بين الأراضي الزراعية وتلافي انتشار الحرائق. 

وفيما أكد سليمان أن الإدارة الذاتية تقوم بإجراءات مماثلة في قرى منطقته، قال مدير فوج الإطفاء في مدينة الحسكة إنه سيتم إرسال عشرين سيارة إطفاء إلى نقاط محددة في مدينة الحسكة والقامشلي. يضاف إلى ذلك تشكيل لجان حماية في المناطق الزراعية لحراسة الأراضي وتلافي اندلاع الحرائق فيها. 

مع ذلك، سيبقى نجاح هذه التدابير رهناً بما تحمله الأشهر المقبلة التي ترتفع فيها درجات الحرارة وتقل الأمطار. وقد نشبت حرائق في الرقة وعين عيسى ودير الزور، لكن تم احتواؤها ضمن مساحات صغيرة نسبياً مقارنة بحرائق العام الماضي.

مشاكل استيراد القمح

مؤخراً، أعلنت حكومة دمشق تخصيصها نحو 450 مليار ليرة لشراء حصاد القمح المحلي، وهو ما يساوي تقريباً 11% من إجمالي موازنة الدولة. ورغم أنه من المتوقع زيادة إنتاج القمح هذا العام ليصل إلى 2.9 مليون طن، فإن المنافسة مع الإدارة الذاتية سيفرض على الحكومة السورية الاعتماد على الواردات لتلبية الاحتياجات المحلية التي تُقدر بنحو 4.3 مليون طن.

وفي شباط/فبراير الماضي، سعت المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب إلى استيراد 200,000 طن قمح من روسيا. لكن المؤسسة أخفقت في إتمام الصفقة، نتيجة مشاكل تتعلق بالوصول إلى الدولارات الأميركية العالقة في النظام المالي اللبناني على الأرجح.

عقب ذلك طرحت المؤسسة مناقصات لاستيراد القمح، لم يتخذ قرار نهائي بشأنها إلى الآن.  ويبدو أن الشركات المتواجدة في لبنان والتي تستخدم واجهة لرجال أعمال سوريين متنفذين ما تزال تجد صعوبة في تمويل الواردات الضخمة. مع ذلك، أشار موقع “سيريا ريبورت” إلى أن شركة “ماغا غروب أوفشور” (Maga Group Offshore SAL) المسجلة في لبنان، حصلت على عقد لاستيراد 475,000 طن من القمح بالنيابة عن دمشق.

كذلك، ستواجه عقود استيراد القمح الجديدة مزيداً من الصعوبات مع إعلان روسيا، في 26 نيسان/أبريل الماضي، نفاد حصة الحبوب المخصصة للتصدير للفترة الممتدة ما بين نيسان/أبريل وحزيران/يونيو، وأنها ستوقف جميع شحنات الحبوب حتى 1 تموز/يوليو المقبل. علاوة على ذلك، فإن التدهور المستمر لقيمة الليرة السورية، والتي وصلت حاجز 1800 ليرة للدولار الواحد قبل أيام في السوق السوداء، يجعل خطر ازدياد التضخم المالي هاجساً حقيقاً يشغل بال معظم السوريين.

وفي الوقت الراهن، تلجأ الحكومة إلى الاعتماد بشكل رئيس على العقود المبرمة في العام 2019، واتفاقية المساعدات الإنسانية التي عقدتها مع روسيا والتي تعهدت فيها بتسليم 100,000طن من القمح. 

ويشكل هذا العجز الحكومي فرصة للبعض لتحقيق الربح. إذ إن سارع رجال أعمال وتجار مقربون من النظام، كما أكد الخبير الاقتصادي السوري يونس الكريم لـ”سوريا على طول”، إلى “تهريب السلع والبضائع إلى داخل سوريا”، ما أدى بدوره إلى “رفع الأسعار، كون النظام يتيح إدخال الواردات دونما تحديد لآليات تسعيرها أو المساهمة في تمويلها”.

في هذا السياق، تأرجحت أسعار الأسمدة في سوريا بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة. ففي آذار/ مارس، ارتفعت أسعار الأسمدة الرئيسة الثلاثة فجأة بنسبة 25-50٪، لتعود وتنخفض في أواخر نيسان/أبريل، مع بقائها أعلى بكثير من مستوياتها قبل آذار/مارس. ورغم أن الأسمدة يتم استيرادها وإنتاجها محلياً من خلال الشركة العامة للأسمدة التي تديرها روسيا،  فإن ارتفاع الأسعار مؤخراً سينعكس حتماً على سعر رغيف الخبز كما قدرة الحكومة على الحفاظ على دعمه ومواصلة توفيره من خلال البطاقة الذكية.

بالنتيجة، فمع كون “القدرة الشرائية لليرة السورية في أسوأ حالاتها، فإن التضخم ونقص السلع سيزيد مستوى السخط في أوساط السوريين”، بحسب الكريم.

نشر أصل هذا التقرير باللغة الإنجليزية، وتمت ترجمته إلى اللغة العربية من قبل فاطمة عاشور

شارك هذا المقال